*** من النصوص القصصية الجديدة للقاصّ التونسي عمر السعيدي
هنا توقفت المينيباس في المحطّة رقم 15 . وهنا نزل قاطع التّذاكر الذي تعوّد أن يعمل منذ سنوات وتعوّدتُ على وجهه وحركته وكم تجاذبت معه أطراف الحديث مرات ومرات.
يكون المترو العائد من الجامعة لم يحلّ بعد، والقادم من العاصمة لم يصل بعد. وتكون " مقهى النعيم "شبه فارغة إلا من نفر قليل يعدّون على الأصابع، ربّما هم مثلي قد بكّروا تجنّبا لازدحام لا يُطاق أو ربّما كانوا يسعون إلى قضاء أشغال مؤكّدة، لا تتطلّب تأخيرا. وتكون القهوة السّاخنة المركّزة قادرة على أن تبعث في جسمك حرارة وتُعيد إليْك ما افتقدته من توازن خلال النوم، في بلد صار عدم التّوازن اليوم السّمةَ المميّزةَ له.
يتوقّف المينباس ، ينفتح الباب أوتوماتيكيا ، ينزل صديقك الذي تعّودت أن تراه يَشْغَلُ شُبّاك بيع التّذاكر . يعبر سريعا الطّريق عند خلوّها من السّيارات. يسير في المحطّة يمين سكّة الحديد . ويكون عليه أن يقطع السّكة أوّلا ثمّ يقطع الطّريق الثانية على اليسار ليدلف إلى مقهى "النّعيم". يصبّح على الرّواد القلائل . أغلبهم يعرفه ويعرف هو أيضا الجميع. يتقدّم نحو مصرف القهوة ويحيي "عمّ حمادي". يُعدّ له هذا الأخير قهوة مركّزة يَطْغى لون بُنّها على كثافة الحليب . ستمدّه بالطاقة ، فينْشُطُ ويصير أكثر تركيزا في عمله أثناء الزحمة على ركوب المترو في هذا الصّباح .
يَفْتحُ البابَ الحديدي لهذا المكعّب الآجري ويدخلُ . البناء عبارة عن صندوق ثابت . قاعدته متر ونصف على متر ونصف . وارتفاعه قامة رجل ربعة.
عليكَ أَنْ تتآلَفَ مع هذا المكان، توضّبه بقدر ما تستطيع. إذا كنتَ طويلا فتقاصر وإذا كنت بدينا فتقلّص. وحذار أن يصدمك عارض. البابُ ، السّقْفُ ، الكرسيُّ أو القاعدةُ الصّغيرةُ التي تفتح على الشّباك الذي يطلّ على الحرفاء وعلى العالم الخارجي . انزع حقيبتك الجلديّة المدلاة على جنبك الأيمن . أخرج رزم التذاكر ، قلم الحبر الجاف، المطبوعة التي سجّلت عليها أعداد التذاكر وأقسامها، التاريخ والسّاعة ورقم المحطّة ، اسمك ولقبك . عند نهاية الدّوام ، لا تنس أن تسجّل المداخيل وتُمْضيَ. ثبّت الطّابعة العموديّة على قاعدة النافذة المرمريّة . إذا كان الفصل حارّا فاركن قارورة الماء المعدني والكأس . وإذا كان باردا فلا تنس أن ترتديَ ملابسك الصّوفيّة. فهذه المسلّة الجوفاء ، سمّها بما شئت إن لم تكن راضيا على تسميتي . ولكن لا تنس أنّها أقرب ما تكون إلى ركن ضيّق، منسيّ ، في سجن أرضي . بردها لا يقاوم وحرارتها أنفاس من حرّ الجحيم. افتح صندوق الصرّف كما تسميه ونضّد عليه تلك القطع النقديّة المختلفة. الدينار وضعفه ونصفه وعشره وخمسه ونصف المائة وخمسها وعشرها . أمّا الأوراق الماليّة الهامّة فابسطها داخل الصندوق الحديدي كما تفعل دائما. بعد دقائق سيدخل المحطّة أوّل مترو متّجها إلى العاصمة. سيبدأ يومك، عناك، ضجرك، غضبك، مَللُكَ، انزعاجك، قلقك، امتعاضك، اضطرابك ولكن لا تبال أو تثر. تعامل مع ما يجدّ من أحداث كما لو لم يحدث شيء وإلا سيرتفع لديك ضغط الدّم أو تصاب بمرض السّكري ولا تنس أنك تُجْبي الأموال. والأموال أموال الدّولة فإياك إياك أن لا تتثبّتَ وإلا خسرت مال الدّولة وثقة القائمين على الدّولة.
أسوأ السّاعات التي يكرهها هي ساعة الذّروة الصّباحية. تلك السّاعة التي تبدو فيها المدينة، كلّ المدينة كأنّها، ترغب في التنقّل والناس، كلّ الناس كأنهم يهربون من زلزال، من موت يطاردهم بلا هوادة وعليهم أن يرحلوا بعيدا حتى لا تصلهم ريحه، أن ينطلقوا إلى حيث لا يعرفهم أحد. فالأمكنة المألوفة هي عين الضّجر. لو تأخّروا قليلا عن لحظة النّجاة هذه لفاتهم قطار الحياة ولتُرِكوا في إحدى عرباته المعطّلة .
يأتي ، يسبقه صفيره بلحظات . الصفير إعلان قدوم وتهيؤ. يتجمّع الرّكاب على طول المحطّة . يكاد الواحد يلامس سّكة الحديد. الجميع يمنّي نفسه بإيجاد مكانا شاغرا . وإذا كانت العربات مكتظّة. يكفي أن يجد الواحد أين يقف وكيفما يكون الوقوف تكون محظوظا. قد تتأذى قليلا في وقفتك ولكنّك ستصل إلى عملك بلا تأخير. إذا لم يكتب لك أن تركب مترو السابعة صباحا فلا مناص من التأخير. ستتتالى المتروهات سريعا وستكون دائما مكتظّة . لذلك اركب كيفما يتهيأ لك الأمر .
يأتي ، يسبقه صفيره بلحظات ، يصاب المسافرون بنوع من جنون الحركة . مشي، توقّف . تسارع . تباطؤ. تطلّع . تأفّف . ضجر . غضب . صفير.تهيّؤ. تَوَجٌّهٌ إلى شبّاك قطع التذاكر. انتظامٌ في صفّ لا يدوم، ثمّ خرقٌ لهذا الانتظام. ينزعج قاطع التذاكر وقد ضيّقوا من مجال رؤيته.
يظهر مسافر فجأة، مصمما على الحصول على تذكرة.لا ندري كيف ظهر . توتّر . هذا يحثّ هذا على التقدّم قليلا . استياء. الصّف لا يتقدم.حريف يقتطع تذكرة وليس لديه صرف ولا يجد عامل الشّباك فكّة . أيّها الحريف قفْ جانبا ريثما تسترجع باقيك . اُنظرْ هذا الّذي يركض نحو شبّاك التذاكر حتى يكاد يسقط. استغراب. صمت . اضطراب. سينطلق المترو بعد لحظات ، وبين لحظة وأخرى يقفل الباب.
في هذه اللحظات يتتالى مرور المسافرين أمامه، لكنّه لا يرى إلاّ الوجوه والعيون والشّفاه والأيادي. ومن الأيادي يعاين حركة الأصابع.
عيون ذكيّة، تتطلّع في فرح، لا شكّ أن أصحابها يحدوهم الأمل في تحقيق شيئا ما. عيون غائمة تنظر وكأنّها لا تنظر. ترجو منك أن تُسارع بتسليمها تذكرة العبور. عيون، مضطربة، خائفة، ترقب في قلق حركة المترو المتوقّف لثوان. وجوه حزينة تكتم ألما داخليّا . تتوجّس خيفة من عدوّ ما . ووجوه لأشخاص يتطلّعون إليك لا همّ لهم إلا تعريتك. وجوه لشيوخ، لأطفال، لعجائز، لصبايا، لموظّفين، لزوجات، لمطلّقات، لبائعات هوى يتطلّعن إليك في رجاء لا تدركه. وجوه جميلة بعيونها كُحْل، وجوه عليها كدمات وحول العيون هالات زرق ؟ . أصابع مضطربة، وأخرى هادئة. أصابع شمعيّة رقيقة، وأخرى متخشبة جافة. وجوه لا يمكنك أن تتعرّف جنس أصحابها. ألنساء هي أم لرجال ؟ .
تَسارُعُ مرور المسافرين وضَغْطُهُمْ يجْعَلُكَ متوتّرا تكاد لا ترّكز على أيّة ملامح . إذ أنّ ما يُطْلَبُ هي التّذاكر ومن يتحدّث إليك هي الشفاه و من يتحرّك نحوك هي الأصابع. أي لها لغة وحوار. لا تعنيهم حياتك وأنت لا وقت لديك لتحادثهم. بنية الخطاب ومضمونه معروف ولا مجال لخروجك عن النّص. وما أنتَ مطالب بتحقيقه شيء واحد، يعرفه الجميع. أجلّ محاور اهتمامك الخاصّة، إلى حين خروجك من هنا. أنتَ أثناء العمل جزء من آلة تعمل حسب برمجة معيّنة، لا يجب أن تتوقّف أو تُعدّل وإلا فسد كلّ شيء.
يكون المترو العائد من الجامعة لم يحلّ بعد، والقادم من العاصمة لم يصل بعد. وتكون " مقهى النعيم "شبه فارغة إلا من نفر قليل يعدّون على الأصابع، ربّما هم مثلي قد بكّروا تجنّبا لازدحام لا يُطاق أو ربّما كانوا يسعون إلى قضاء أشغال مؤكّدة، لا تتطلّب تأخيرا. وتكون القهوة السّاخنة المركّزة قادرة على أن تبعث في جسمك حرارة وتُعيد إليْك ما افتقدته من توازن خلال النوم، في بلد صار عدم التّوازن اليوم السّمةَ المميّزةَ له.
يتوقّف المينباس ، ينفتح الباب أوتوماتيكيا ، ينزل صديقك الذي تعّودت أن تراه يَشْغَلُ شُبّاك بيع التّذاكر . يعبر سريعا الطّريق عند خلوّها من السّيارات. يسير في المحطّة يمين سكّة الحديد . ويكون عليه أن يقطع السّكة أوّلا ثمّ يقطع الطّريق الثانية على اليسار ليدلف إلى مقهى "النّعيم". يصبّح على الرّواد القلائل . أغلبهم يعرفه ويعرف هو أيضا الجميع. يتقدّم نحو مصرف القهوة ويحيي "عمّ حمادي". يُعدّ له هذا الأخير قهوة مركّزة يَطْغى لون بُنّها على كثافة الحليب . ستمدّه بالطاقة ، فينْشُطُ ويصير أكثر تركيزا في عمله أثناء الزحمة على ركوب المترو في هذا الصّباح .
يَفْتحُ البابَ الحديدي لهذا المكعّب الآجري ويدخلُ . البناء عبارة عن صندوق ثابت . قاعدته متر ونصف على متر ونصف . وارتفاعه قامة رجل ربعة.
عليكَ أَنْ تتآلَفَ مع هذا المكان، توضّبه بقدر ما تستطيع. إذا كنتَ طويلا فتقاصر وإذا كنت بدينا فتقلّص. وحذار أن يصدمك عارض. البابُ ، السّقْفُ ، الكرسيُّ أو القاعدةُ الصّغيرةُ التي تفتح على الشّباك الذي يطلّ على الحرفاء وعلى العالم الخارجي . انزع حقيبتك الجلديّة المدلاة على جنبك الأيمن . أخرج رزم التذاكر ، قلم الحبر الجاف، المطبوعة التي سجّلت عليها أعداد التذاكر وأقسامها، التاريخ والسّاعة ورقم المحطّة ، اسمك ولقبك . عند نهاية الدّوام ، لا تنس أن تسجّل المداخيل وتُمْضيَ. ثبّت الطّابعة العموديّة على قاعدة النافذة المرمريّة . إذا كان الفصل حارّا فاركن قارورة الماء المعدني والكأس . وإذا كان باردا فلا تنس أن ترتديَ ملابسك الصّوفيّة. فهذه المسلّة الجوفاء ، سمّها بما شئت إن لم تكن راضيا على تسميتي . ولكن لا تنس أنّها أقرب ما تكون إلى ركن ضيّق، منسيّ ، في سجن أرضي . بردها لا يقاوم وحرارتها أنفاس من حرّ الجحيم. افتح صندوق الصرّف كما تسميه ونضّد عليه تلك القطع النقديّة المختلفة. الدينار وضعفه ونصفه وعشره وخمسه ونصف المائة وخمسها وعشرها . أمّا الأوراق الماليّة الهامّة فابسطها داخل الصندوق الحديدي كما تفعل دائما. بعد دقائق سيدخل المحطّة أوّل مترو متّجها إلى العاصمة. سيبدأ يومك، عناك، ضجرك، غضبك، مَللُكَ، انزعاجك، قلقك، امتعاضك، اضطرابك ولكن لا تبال أو تثر. تعامل مع ما يجدّ من أحداث كما لو لم يحدث شيء وإلا سيرتفع لديك ضغط الدّم أو تصاب بمرض السّكري ولا تنس أنك تُجْبي الأموال. والأموال أموال الدّولة فإياك إياك أن لا تتثبّتَ وإلا خسرت مال الدّولة وثقة القائمين على الدّولة.
أسوأ السّاعات التي يكرهها هي ساعة الذّروة الصّباحية. تلك السّاعة التي تبدو فيها المدينة، كلّ المدينة كأنّها، ترغب في التنقّل والناس، كلّ الناس كأنهم يهربون من زلزال، من موت يطاردهم بلا هوادة وعليهم أن يرحلوا بعيدا حتى لا تصلهم ريحه، أن ينطلقوا إلى حيث لا يعرفهم أحد. فالأمكنة المألوفة هي عين الضّجر. لو تأخّروا قليلا عن لحظة النّجاة هذه لفاتهم قطار الحياة ولتُرِكوا في إحدى عرباته المعطّلة .
يأتي ، يسبقه صفيره بلحظات . الصفير إعلان قدوم وتهيؤ. يتجمّع الرّكاب على طول المحطّة . يكاد الواحد يلامس سّكة الحديد. الجميع يمنّي نفسه بإيجاد مكانا شاغرا . وإذا كانت العربات مكتظّة. يكفي أن يجد الواحد أين يقف وكيفما يكون الوقوف تكون محظوظا. قد تتأذى قليلا في وقفتك ولكنّك ستصل إلى عملك بلا تأخير. إذا لم يكتب لك أن تركب مترو السابعة صباحا فلا مناص من التأخير. ستتتالى المتروهات سريعا وستكون دائما مكتظّة . لذلك اركب كيفما يتهيأ لك الأمر .
يأتي ، يسبقه صفيره بلحظات ، يصاب المسافرون بنوع من جنون الحركة . مشي، توقّف . تسارع . تباطؤ. تطلّع . تأفّف . ضجر . غضب . صفير.تهيّؤ. تَوَجٌّهٌ إلى شبّاك قطع التذاكر. انتظامٌ في صفّ لا يدوم، ثمّ خرقٌ لهذا الانتظام. ينزعج قاطع التذاكر وقد ضيّقوا من مجال رؤيته.
يظهر مسافر فجأة، مصمما على الحصول على تذكرة.لا ندري كيف ظهر . توتّر . هذا يحثّ هذا على التقدّم قليلا . استياء. الصّف لا يتقدم.حريف يقتطع تذكرة وليس لديه صرف ولا يجد عامل الشّباك فكّة . أيّها الحريف قفْ جانبا ريثما تسترجع باقيك . اُنظرْ هذا الّذي يركض نحو شبّاك التذاكر حتى يكاد يسقط. استغراب. صمت . اضطراب. سينطلق المترو بعد لحظات ، وبين لحظة وأخرى يقفل الباب.
في هذه اللحظات يتتالى مرور المسافرين أمامه، لكنّه لا يرى إلاّ الوجوه والعيون والشّفاه والأيادي. ومن الأيادي يعاين حركة الأصابع.
عيون ذكيّة، تتطلّع في فرح، لا شكّ أن أصحابها يحدوهم الأمل في تحقيق شيئا ما. عيون غائمة تنظر وكأنّها لا تنظر. ترجو منك أن تُسارع بتسليمها تذكرة العبور. عيون، مضطربة، خائفة، ترقب في قلق حركة المترو المتوقّف لثوان. وجوه حزينة تكتم ألما داخليّا . تتوجّس خيفة من عدوّ ما . ووجوه لأشخاص يتطلّعون إليك لا همّ لهم إلا تعريتك. وجوه لشيوخ، لأطفال، لعجائز، لصبايا، لموظّفين، لزوجات، لمطلّقات، لبائعات هوى يتطلّعن إليك في رجاء لا تدركه. وجوه جميلة بعيونها كُحْل، وجوه عليها كدمات وحول العيون هالات زرق ؟ . أصابع مضطربة، وأخرى هادئة. أصابع شمعيّة رقيقة، وأخرى متخشبة جافة. وجوه لا يمكنك أن تتعرّف جنس أصحابها. ألنساء هي أم لرجال ؟ .
تَسارُعُ مرور المسافرين وضَغْطُهُمْ يجْعَلُكَ متوتّرا تكاد لا ترّكز على أيّة ملامح . إذ أنّ ما يُطْلَبُ هي التّذاكر ومن يتحدّث إليك هي الشفاه و من يتحرّك نحوك هي الأصابع. أي لها لغة وحوار. لا تعنيهم حياتك وأنت لا وقت لديك لتحادثهم. بنية الخطاب ومضمونه معروف ولا مجال لخروجك عن النّص. وما أنتَ مطالب بتحقيقه شيء واحد، يعرفه الجميع. أجلّ محاور اهتمامك الخاصّة، إلى حين خروجك من هنا. أنتَ أثناء العمل جزء من آلة تعمل حسب برمجة معيّنة، لا يجب أن تتوقّف أو تُعدّل وإلا فسد كلّ شيء.
حين ينطلق المترو وينقطع سيل تدفّق المسافرين تُرَدُّ إليك بعضُ روحك، نعم بعضُ روحك. أنت الآن نصف إنسان ونصف آلة. يمكنك أن تتنفس، تتمطّى، تمسّ أرنبة أنفك، تسعل، تميل إلى الخلف، تتقاعس. تتيه، تفكّر . تتذكّر أشياء قمت بها أو وددت لو قمت بها أو حدثت لك منذ ساعة.
حين تتباعد السّفرات وقد ارتفعت الشّمس نحو كبد السماء، تتحرّر قليلا. تفتح مثلا جريدة « الشروق «التي شريتها صباحا لتمسح بعيْنيْك عناوينها.
كم هي مزعجة هذه المواضيع التي صارت أغلب الصّحف تتناولها هذه الأيام كلّ حسب زاوية نظره. السّياسة ، الإضرابات ، المشاغبون ، المظاهرات التي أخذت تعمّ أرجاء الوطن وتسري فيه سريان النار . عدم الرّضا باد وتباعد الأفراح بيّن . يشعر ، لكأن أنغام حزن تُعزف وأصوات غرابين تنعق . تبدو في نظره أشعّة الشمس كابية وكأنها أي الشمس تستعجل المغيب وكأن الألوان المبهجة تختفي من عالمه تاركة الظلال ، الظلال .
المرأة هي الحياة . منذ أيام قرّر أن يتزوّج. قالت له أمّه: يا بنيّ: ها قد بدأت تزحف نحو سنّ الثلاثين. اختر لنفسك واحدة . وحين قال لها : وأين سأجدها وأنا شبه سجين ؟ . ردّت: لا تقل هذا وأنت بالشّباك تمرّ عليك العشرات من بنات حواء.
يحاول أن يستحضر وجها جميلا لفتاة مرّت أمامه هذا الصّباح . يستعيد بعد جهد ملامح طالبة أنيقة، حيّته في غنج وهي تتسلّم تذكرتها. عيناها تقولان شيئا . كانت تكتب الشعر وكان يحبّ الشعر. وكانت تقرأ الروايات وكان مغرما بقراءة الروايات . لا احد حدّث الآخر عن نفسه ، ولكن حصل تخاطر . يتذكّر أنها قالت له: أتعرف أن عمر السعيدي جعل منك بطل قصّته الجديدة. ثمّ مرّت كما لم تمرّ .
Omar Saidi
11:06 صباحاً
Omar Saidi
يعرف هو عمر السعيدي جيّدا. فقد أهداه كتابه الأخير عن الحبّ . تمنّى لو استبقاها أكثر، لو تحدّث معها، لو سألها عن حياتها الخاصّة، لكنه لم يستطع. طبيعة عمله تأبى أن يتّبع أثرها أو يميل إلى هوى نفسه. غبطها لأنّها حرة .
تأتيه أحيانا أفكار غريبة، فيحاول أن يفلسفها. الناس، في الخارج يشاهدون العالم وأنا هنا أنظر نصف العالم. ما يقع خلفي لا أراه. وما يمرّ أمامي، لا أكاد أتحقّق منه لأنّه منقوص. السيارات والحافلات والشاحنات أجسام ميكانيكية تتحرّك ولا تتوقّف. العابرون لا أتبيّن عدا ، رؤوسهم وأكتافهم . فمثلي لا يمكنه أن يمتلك الحقيقة كاملة . آه، أنا ثابتٌٌ هنا في موقعي هذا، والعالم من حولي يتغيّر.
كم تَمنّى اللّحظة، لو أمكنه التحرّر من هذا المكان ، ليواصل مشاهدة شيئا ما مرّ سريعا وما أمكن له أن يتبيّنه . ماذا لو وضَع مكْتبا بين السّكتين ليَرى ما يُرى دون حواجز . لكنّ البرد والحرّ وتأمين أموال الشركة من النشالين جعله يُقصي هذا الخاطر الأخير .
تتباعد سفرات المترو ، حتّى تكاد تنقطع. ينقطع سيل الركاب . يُصيبه شيء من الخمول ، فيغفو قليلا . يستفيق . المارّة يتكاثرون بالعشرات ثمّ بالمئات . جموع تتقدّم في صمت، لا تعرّج عليه. تملأ الطّريق ومساريْ السكة الحديد والطّوار . لا متروهات قادمة ولا أخرى ذاهبة. يسأل فلا من مجيب . الكلّ يتقدم . هل هي المسيرة ؟ . يقفل المكتب . ويجمع ما جبى من أموال منذ الصّباح . يخبئ أشياءه ويختلط بالعامّة . يشعر بنوع من التّحرر . يعاوده السّؤال . إلى أين نحن ذاهبون ؟ . إلى الشّارع الكبير !. إلى الشارع الكبير.
في هذه اللحظات ، يستحضر ما قاله الشاف "علي " سائق المينباس فجرا وهو ينزله في المحطة رقم 15 " متى تتحرّرون يا هؤلاء من سكن العلب وتكتشفون أجسادكم وعقولكم ؟ .
تونس في 26/12/2014
حين تتباعد السّفرات وقد ارتفعت الشّمس نحو كبد السماء، تتحرّر قليلا. تفتح مثلا جريدة « الشروق «التي شريتها صباحا لتمسح بعيْنيْك عناوينها.
كم هي مزعجة هذه المواضيع التي صارت أغلب الصّحف تتناولها هذه الأيام كلّ حسب زاوية نظره. السّياسة ، الإضرابات ، المشاغبون ، المظاهرات التي أخذت تعمّ أرجاء الوطن وتسري فيه سريان النار . عدم الرّضا باد وتباعد الأفراح بيّن . يشعر ، لكأن أنغام حزن تُعزف وأصوات غرابين تنعق . تبدو في نظره أشعّة الشمس كابية وكأنها أي الشمس تستعجل المغيب وكأن الألوان المبهجة تختفي من عالمه تاركة الظلال ، الظلال .
المرأة هي الحياة . منذ أيام قرّر أن يتزوّج. قالت له أمّه: يا بنيّ: ها قد بدأت تزحف نحو سنّ الثلاثين. اختر لنفسك واحدة . وحين قال لها : وأين سأجدها وأنا شبه سجين ؟ . ردّت: لا تقل هذا وأنت بالشّباك تمرّ عليك العشرات من بنات حواء.
يحاول أن يستحضر وجها جميلا لفتاة مرّت أمامه هذا الصّباح . يستعيد بعد جهد ملامح طالبة أنيقة، حيّته في غنج وهي تتسلّم تذكرتها. عيناها تقولان شيئا . كانت تكتب الشعر وكان يحبّ الشعر. وكانت تقرأ الروايات وكان مغرما بقراءة الروايات . لا احد حدّث الآخر عن نفسه ، ولكن حصل تخاطر . يتذكّر أنها قالت له: أتعرف أن عمر السعيدي جعل منك بطل قصّته الجديدة. ثمّ مرّت كما لم تمرّ .
Omar Saidi
11:06 صباحاً
Omar Saidi
يعرف هو عمر السعيدي جيّدا. فقد أهداه كتابه الأخير عن الحبّ . تمنّى لو استبقاها أكثر، لو تحدّث معها، لو سألها عن حياتها الخاصّة، لكنه لم يستطع. طبيعة عمله تأبى أن يتّبع أثرها أو يميل إلى هوى نفسه. غبطها لأنّها حرة .
تأتيه أحيانا أفكار غريبة، فيحاول أن يفلسفها. الناس، في الخارج يشاهدون العالم وأنا هنا أنظر نصف العالم. ما يقع خلفي لا أراه. وما يمرّ أمامي، لا أكاد أتحقّق منه لأنّه منقوص. السيارات والحافلات والشاحنات أجسام ميكانيكية تتحرّك ولا تتوقّف. العابرون لا أتبيّن عدا ، رؤوسهم وأكتافهم . فمثلي لا يمكنه أن يمتلك الحقيقة كاملة . آه، أنا ثابتٌٌ هنا في موقعي هذا، والعالم من حولي يتغيّر.
كم تَمنّى اللّحظة، لو أمكنه التحرّر من هذا المكان ، ليواصل مشاهدة شيئا ما مرّ سريعا وما أمكن له أن يتبيّنه . ماذا لو وضَع مكْتبا بين السّكتين ليَرى ما يُرى دون حواجز . لكنّ البرد والحرّ وتأمين أموال الشركة من النشالين جعله يُقصي هذا الخاطر الأخير .
تتباعد سفرات المترو ، حتّى تكاد تنقطع. ينقطع سيل الركاب . يُصيبه شيء من الخمول ، فيغفو قليلا . يستفيق . المارّة يتكاثرون بالعشرات ثمّ بالمئات . جموع تتقدّم في صمت، لا تعرّج عليه. تملأ الطّريق ومساريْ السكة الحديد والطّوار . لا متروهات قادمة ولا أخرى ذاهبة. يسأل فلا من مجيب . الكلّ يتقدم . هل هي المسيرة ؟ . يقفل المكتب . ويجمع ما جبى من أموال منذ الصّباح . يخبئ أشياءه ويختلط بالعامّة . يشعر بنوع من التّحرر . يعاوده السّؤال . إلى أين نحن ذاهبون ؟ . إلى الشّارع الكبير !. إلى الشارع الكبير.
في هذه اللحظات ، يستحضر ما قاله الشاف "علي " سائق المينباس فجرا وهو ينزله في المحطة رقم 15 " متى تتحرّرون يا هؤلاء من سكن العلب وتكتشفون أجسادكم وعقولكم ؟ .
تونس في 26/12/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق