الاثنين، 4 مايو 2015

شعريّة التّفاصيل ملمح من ملامح الشعر التونسي:
"دعني أمتلئ بك" أنموذجا

على سبيل التقديم
المستبطن قصائد الروائي والشاعر عبد الرزاق المسعودي التي تضمّنتها مجموعته الشعرية الأولى دعني أمتلئ بك، الصادرة سنة 2011، بعد إصداره روايته أجمل الذنوب (سيرة مكان) 2007، يلحظ عمق احتفائه بالبسيط، العادي والجزئي من مظاهر الحياة: قهوة الصّباح، زخّات المطر "تغسل الروح"، رائحة الأرض بعد أن تكفّ السماء بكاءها، مضاحكة طفلة صغيرة لا نعرفها، استلاف الجرائد عند السفر. وكل مظاهر انتزاع الصّور الواقعيّة الصّارخة من مألوف الحياة اليوميّة: كلّ ذلك يبدو عند الوهلة الأولى شأنا "غير شعري"، ولكن متى تسنّى القبض على تلك التّفاصيل بأصابع ملتهبة، متى أمكن تطويع بداهتها إلى أسئلة حارقة وحيرة، أصبح الشأن "شعريّا" واصطبغت العبارة بلون الحلم الجميل. إنّ قارئ نصوص المجموع الشعري، يكشف محوريّة هذا السّؤال، إذ يتلبّس الشاعر كأن لا أسئلة أخرى، وإن وجدت فضمن نفس المدارات: بحث دائب عن الذّات الضائعة، تقصّ لغورها في إطلاقيتها الإنسانية، وتشظّ بين جملة من المفاهيم المبهمة: الخير والشّر/الحبّ والكراهيّة/الجمال والقبح/الواقع والحلم... ما يحيل بصفة مباشرة إلى كينونة الإنسان وإلى صراعه الأبدي مع واقع كالقضاء وممكن كالعدم.
لذلك، يمكن القول إنّ النزعة الواقعيّة التي صبغت نصوص المجموعة لم تحجب عمق القضايا المطروحة، بل وعمق التأمّل والتوغّل في السّؤال، وقد رأينا أن نجري البحث ضمن مستويين أساسيين غايتهما استنطاق قصائد هذا المجموع الشعري بما يؤكد ما ذهبنا إليه من أنّ شعريّة التفاصيل تمثّل –في جانب من جوانبها- ملمحا هامّا من ملامح الشعر التونسي وسنصرف عنايتنا في المستوى الأوّل إلى تجلّيات الواقع في علاقته بالنّص عتبة ومتنا، أمّا المستوى الثّاني فسنخصّصه لدراسة شعريّة الذات الحائرة  في اتّصالها بمفهوم الشعريّة –من ناحية- واتّصالها بتجربة الشاعر- من ناحية ثانية-.




/ Iتجلّيات الواقع: العين الكبيرة
ننطلق في معالجة هذا العنصر من ما نعتقد في بداهته: عمق الصّلة بين الفنّ والواقع، إذ الفنّ "أسلوب في رؤية الكون" على حدّ عبارة لوسيان قولدمان [1]،(Lucien Goldmen) بل و"يعكس الحياة" كما أكّد برشت[2]، وعلى الجملة فثمّة من يقول باستحالة الحديث عن فنّ خارج واقع الحياة[3]، رغم تضارب المواقف واللّغط الكبير الذي أثير بخصوص هذا الشأن[4]. ولكنّنا لن نعمد في هذه الورقة إلى التفصيل النظري الذي يمكن أن ينزلق بنا خارج حدود القراءة، لن نعمد إلى ذلك، محاولين – في المقابل- مساءلة ما اصطلحنا على تسميته بـ"تجلّيات الواقع" في ديوان "دعني أمتلئ بك"، مركّزين بدءا على مظاهر توصيفه واحتفائه بـ"الرموز" ثمّ، على ما اصطلحنا عليه بـ"تقانات استحضار الجزئي من الذاكرة إلى الشعر".
1/ توصيف الواقع شعرا أو الاحتفاء بالرّموز  
تندرج في هذا السياق جملة من النصوص استمدّها الشاعر من معايشة الأحداث الواقعيّة منها: "ذكرى ذكرى"[5]، و"البطل منتظرا الزيدي[6]، و"مرثيّة في سيد الشهداء"[7] ... وكلّها مثّلت "مثيرا" شعريّا استفزّ المسعودي فكتب في محاولة الاحتفاء بمن اعتبرهم "رموزا" في الفنّ والسّياسة والنّضال: "بكى النّخل لمّا/رحلت، بكى/البحرُ، والأغنيات/بكتْ، سنبلةُ القمحِ/ ناحت/وطوفان حزن على الرّوحِ سالْ ..."[8]. مؤكّدا أنّ الفنانة التونسيّة الراحلة (ذكرى محمد)، ستبقى رغم الموْتِ "لغزا وأسطورة"، معتبرا بعض محاولات التعتيم على منجزها الفنّي ونسيان إبداعاتها الغنائيّة جريمة في حقِّ الفنّ – بوجه عامّ- والوزر لا يتحمّله التونسيون – بوجه خاصّ- إنّما الأمّة العربيّة جمعاء.
 يقول: "... فاغفري جرمنا/إنّنا أمّة/ تُمْعن في مديح الذباب/ وراسخة في اغتيال الغزال/وراسخة في مديح الثعالب/ وراسخة في اغتيال الجمال..."[9]. معرّضا بالأغاني الهابطة و"أشباه الفنانين" الذين يسيطرون على واقع الفنّ العربي، متناسلين كالفقاقيع، مالئين قنوات التلفزيون والفضائيات: "... في كلّ يومٍ/تُطلّ علينا من/التلفازات ثعابين/غربان، مستنقعات../ يقولون همُ صاحبُو/أغنيات جميلة/ وفي كلّ يومٍ مئات العناكب/تشدّ إلينا الرّحال/..."[10].
ما يعني أنّ الشاعر قد آذاه انقلاب القيّم الفنيّة، فالغناء – على اعتباره نوعا فنيّا أصيلا – قد وقع – بحسبه -تحت طائلة الموجود (الكمّي، والمتدهور) من القيم، وأصبح مجرّد سلعة تروّج شأن السّلع الاستهلاكيّة الأخرى.
 وتوصيف الواقع شعرا، لا يقف عند الحدود المشار إليها، فممّا يؤكّد انغراس الشاعر في تربته العربيّة (بعد المحليّة)، انفتاحه على قضايا وأحداث ألصق بالوجدان العربي، من مثل حادثة "اغتيال" الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، يقول، واصفا بسالته ورباطة جأشه لحظة سيق إلى المقصلة: "إلى اللّه كان السّفرْ/شددْت الرّحال إلى/اللّهِ مُستأسدًا، واثقًا، مشرئبًّا/أنت إلى جنّةِ الخلدِ تمْضي/وهمْ في صقرْ/..."[11].
وجلّ ما ورد في هذا النصّ انطباعيٌّ، عاطفيٌّ يصوّرُ هول الفاجعة، ودقّة لحظة التشفّي ومبلغ التأسّي على من اعتبره "ضمير العروبة": "فوا أسفاهُ /على أسد حاصرته/الثعالب من كلّ صوبٍ وشمّت فيه رُعاةُ البقر/ ويا سيّدَ الشرفاء/وسيّدَ من كان حرّا/ أنت عزاؤنا/ أنتَ ضمير العروبهْ / وسهمٌ بقلب العدوّ استقرْ/..."[12].
هكذا إذن، يستلهم عبد الرزاق المسعودي الفنّ من الواقع، يتضافر بصره وبصيرته لالتقاط ما يمكن أن يؤسّس للأصيل والمحيل، غير مستنكف أن يكون الشعر أداة توثيق للواقع وشاهدا على العصر، شأنه في ذلك شأن التاريخ ووثائقيات السينما. يقول شعرا بشأن حادثة قذف الحذاء الشهيرة التي أتاها الصّحفي العراقي (منتظر الزيدي)، مستهدفًا وجه الرّئيس الأمريكي (جورج بوش الابن): "نحن نحبّك يا حبيبي/ ونحبّ حبّك للعروبة/ فلك دموعنا إن أردت/ لك التحيّة والشهادة/ ولنا القصيد/ نعدّه بيتا لك/ ولنا الوفاء/ فاضرب عدوّك/ بالحذاء وبالحذاء وبالحذاء وبالحذاء... "[13]. مرتقيا بها من إطارها المحدود – على اعتبارها ردّة فعل فرديّة- إلى حدّ اعتبارها حربا شعواء، وغزوة عرب للأعاجم تساوت فيها القنابل بالحذاء: "أضرب عدوّك بالقنابل / بالقذائف، بالحجارة، باليدين/ وبالحذاء/ أنت أشجعنا وأشرفنا وأرجلنا/ أنت سيّدنا الأخير، مبجّل كالأنبياء...[14].
   ولا يخفي ما في ذلك من تصعيد (بالمعنى النفسي): واقع عربي مهزوم، انقسامات، تشظٍّ، سقوط مدوّ لزعامات مثّلت لما اصطلح عليه بـ"البعث" و"القوميّة"، و"العروبة"، و"الوحدة"... ولكنّ المقولات جميعها أسقطها الواقع ولفظها الحلم، فلم يبق للشاعر إلّا اللّجوء إلى الاستعارة يحتمي بها: "أنت في ليالينا الكئيبة ضياء/أنت الأمير/أنت منقذنا/وفارسنا الأخير..."[15]. معتبرا (منتظرا الزيدي)، "مفردا بصيغة الجمع"، فهو المعبّر عن وجدان الأمة، بل هو "فارسها  الأخير"[16].
2/  تقانات استحضار الجزئي: من الذاكرة إلى الشعر
إن الشاعر لا يكتفي – ههنا– بتوظيف آليات السرد أو التوصيف في سياق استحضار "الحالة"  أو "المشهد" بل إن أسلوبية التعبير تنكشف في هذا السياق عن فضاء استنطاقي للحالة عبر محاولة استجلابها – بكل حيويتها ومضائها- من حيّز الذاكرة إلى فضاء الشعر. ولتحقيق هذا الغرض، يسخّر عدسة كاميرا مهيّأة بدقة وحرفيّة، حتّى تكون "عينه الكبيرة" التي تلتقط الأحداث وتُصَوِّرها من كلّ جوانبها وعلى اختلاف تلويناتها، إذ قد يكون فضاء الحدث منغلقا ومحدودا، ولكنّ الأحداث تتابع بشكل انسيابي: "تفاصيل صغرى، نعيشها عند السفر: شيخ يقشّر أنثى/بعينين مكدودتين/استلاف الجرائد عند/انتصاف المسافة أو/مضاحكة طفلة تملأ/الحافلة بالصراخ/لتنجو من القلق والضجر..."[17].
ما يجعل الشاعر شاهدا من جهة، ومشاركا فاعلا –على نحو مركب- من جهة ثانية. ولكنّ "الفاعليّة المركّبة" –ههنا- لا تأثر في انسيابيّة الأحداث وتدفّقها العفوي، إذ تعرض في شاشة الكتابة بأقصى ما يمكن من حيويّة ووصلٍ طريف بالواقع. ولكنّ هذا النزوع لا يمنع من تأطيرها وضبطها ضمن تقانية مخصوصة تحافظ على هندسة التشكيل الداخلي للقصيدة والانتماء إلى جنس الشعر بناءً ومعنى: "... الحدائق خاليةٌ/ والمقاهي تنوسُ/وغارقة في الضجر/ ساعي البريد يمرّرُ/ فاتورة مبهمة تحت/ باب البيوت/ويمضي كلصٍّ/الشمس شاحبة/وبقايا مطر/من الليلة الفارطة/تلفها أغبرة وجرائد طائشة وعجاج/..."[18].
والطرافة واضحة في المقطع السابق: صورة الساعي الذي "يمرّر فاتورة مبهمة" ثمّ، "يمضي كلصّ"،  ولكنّ الشّاعر لا يقف عند حدود هذه الجزئيات في النزول بالشعر من سماء المثاليات إلى واقع الماديّات، إنّه يبحث في الذاكرة أدقّ التفاصيل: "تفاصيل صغرى نعيشها عند السفر: تأفّف أنثى جميلة/سائق الحافلة وهو/ يلعن كلبا يشق الطريق/جسدٌ كالكمنجة ملقى على المقعد/ كم نودُّ الجلوس إليه/ لنعطيه كلّ العُمُر/..."[19]
 ما يؤسّس لما يمكن الاصطلاح عليه بـ"شعريّة التفاصيل" والجزئيّات. يُجهد الشاعر ذاكرته للاستحضار، ولكن استنادا إلى قوانين وآليّات مخصوصة تمثّلها قواعد الفنّ الشعري، عبر إنشاء علاقة حميمة بين انتقاء الأحداث من الذاكرة وإخضاعها لوعي الحال الراهنة في الكتابة، ولنقل- بعبارة أدقّ- وعي الحال الشعري: إنّ الأحداث المستدعاة من مكنز الذاكرة –ههنا– مقصودة، غايتها الأساسيّة، التأسيس لنصّ شعري يحتفي بالتفصيلي والهامشي والمختلف مع كلّ ما يعنيه ذلك من تتبّع الوجود اليومي العارض في تفصيل دقيق. والشاعر لا يكتفي باستجلاب الجزئي من الذاكرة إلى الشعر، فحسب، بل يحاول التأصيل لما اصطلحنا عليه بـ"شعريّة الذات الحائرة".
II/ شعريّة الذات الحائرة
ما المقصود بـ"شعريّة الذات الحائرة"؟ ولماذا اخترنا هذا التركيب المخصوص في محاولة النفاذ إلى نصوص الجموع؟ وما جموع التّعبيرات التي يمكن أن يوحي بها متعلّق "الشعريّة" المضاف إلى "الذّات" على اعتبار أنّ بلاغة الشعريّة من بلاغة متعلّقها أي المضاف إليها؟ ثمّ ألا يستوجب هذا الجمع بين المتعلّقين إجراء مدخل تأطيري لمقاربة أوّلهما، على اعتبار أنّ مصطلح "الشعريّة" مصطلح إشكالي بالمعنى المفهومي، ثمّ على اعتباره حاضنا لجماع خواصّ الشعر وواصفا لطبيعته؟ وهل يمكن التغاضي عمّا تمثّله خصوصيّة تجربة الشّاعر الانسانيّة بكلّ ما يمكن أن تحيل عليه- ضمنيّا- من معاني النضج والمراس والتميّز وعلى اعتبارها قادحا يدفع إلى الوقوع على المستفزّ والمبهم والإشكالي؟
1/ الشعريّة مفهوما
لا تتحدّد غايتنا –ههنا- في استعراض مجمل المفاهيم التي أسندت لمصطلح "الشعريّة" أو التوسّع في التأطير النظري، إنّما غايتنا الإشارة إلى أهمّ التّعريفات بالنّظر إلى ما أشرنا إليه من اعتماد "الشعريّة" مدخلا لتجربة الشاعر ومساءلة "ذاته الحائرة"، لذلك نقول عنها إنّها: نواميس انبناء النّصوص وآليات اشتغالها، وهي في الشعر، "قوانين الإبداع المتصرّفة فيه، ومحاولة إدراك الضوابط الفنّية التي ينضبط بها..."[20]. ويتّصل المفهوم بمعاني الصنع والخلق والإنشاء، كما يتّصل – تبعا  لذلك- بوجوه سياسة القول في العمل الأدبي، ومرتكزهُ المغايرة، فلا شعريّة بلا مغايرة، إذ لكلّ شعريّة توصيف وتوظيف[21]، وهو ما يعني، اختيار سياسة القول في العمل الأدبي، فالحديث عن أيّة شعريّة يطرح –بالضرورة- قضايا تتعالق بالمفهوم الأساس (الشعر) وتقنياته التعبيرية[22]، ومؤدى الشعرية ما به يكون الشعر شعرا. كما تجدر الإشارة إلى أنّ المصطلح ترجم إلى مقابله بالعربية (الإنشائيّة) أو (الجماليّة)، وعرّب أيضا بـ"البويتيقا"، عن المصطلح اليوناني "poietikos".
2/ الشعرية في علاقتها بتجربة الشاعر أو الانفتاح على الإشكالي:
كتب عبد الرزاق المسعودي الرّواية قبل انتقاله إلى كتابة الشعر[23]، فعلام يدلّ تنويعه الأجناسي؟ هل ضاقت فسحة الرواية، فلم يجد غير الشعر ملاذا للتجريب، أم مثّل الشعر  "كوّة" إضافيّة أراد أن يطلّ منها على العالم، مشكّلا جملة من تصوّرات مغايرة وفضاءات تختلف عن المألوف؟
إنّ الشاعر يرتّب الأبجديّة في غنائية جديدة وأنساق مشرّعة على الغريب من الأسئلة: "كيف لي/أن أكون ملاكا/وأعلم أنّ / ثلاثين عاما / مضت في مهبّ الخطأ /.. من زمانٍ/ أفتّش عن/ وطن يحتويني/ وعن لغة لم تطأ / فما كان / غير الأفول / ودرب يفرّح فيه/  التّيتّم حتى امتلأ/..."[24]. معبّرا عن مبلغ غربته وتوحّده، في ظلّ واقع اضطربت فيه القيم، وأصبح فيه "للحبّ عيد، وللكره عيد وعيدٌ وعيد"[25]. يقول: "زمان / ومستوحد فيه قلبي/ كذئب/ ترقّصه طلقات البنادق/ من كلّ صوب/ ويمضي إلى حتفه/ في الفلاة وحيد/... "[26].
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المجموعة موضوع القراءة قد حوت نصوصا عديدة مجسّمة لحيرة الذّات الشاعرة، منها هذا المقطع من قصيدة "كيف لي ...؟َ!": "... السماء البعيدة /لا تعطي إلاّ/الغموض وإلاّ / المزيد من الأسئلة والظمأ/ فطوبى لمن / كان مثلي / وطوبى لكلّ الذي/ إنّ أنا شئته لم يشأ!/..."[27].
وممّا عمّق تفجّع الشاعر وتأسيه، ما اكتشفه بعد فوات الأوان:
"ضاع عمري / ومطفأة سنواتي/ بريقي خبا مثل/ زهرة لوز تدحرجها/الريح نحو الخلاء/وكلّ القصائد مقفلة والقلوب/..."[28].
وجماع الصّور في المقاطع السّابقة، تتأسس على معاني الضياع والوحدة والحيرة، بل والموت، تختزلها ملفوظات يتداعى بعضها عن بعض: (مستوحد – وحيد – الخلاء – الغموض- الظمأ- القلوب المقفلة – السنوات المنطفئة)، لتعضدها أفعال تحيل على ذات المعاني: (ضاع – خبا- مضى ... )، فتحتشد جميعها مكوّنة صورا رئيسيّة وفرعيّة، تلتئم في ما بينها مجسّدة ما اصطلحنا على تسميته بـ"الذات الحائرة" بل، ومؤسّسه لبعض الانزياحات الطّريفة المعبّرة عن رهافة الحسّ الشعري، إضافة إلى كونها قائمة على "تصوّر إجمالي" لمعنى الصورة الشعريّة يجعل منها "هيئة تثيرها الكلمات الشعرية بالذّهن، شريطة أن تكون هذه الهيئة معبّرة وموحية في آن"[29].
ولعلّ المقطع التّالي – إضافة إلى المقاطع السّابقة – خير معبّر عن هذا التمشّي: حياتي/حياتي التي/ هرولت مثل لصٍّ/ تُطارده الشرطة في الخلاء/ حياتي التي/ انطفأت في الحانات/ كسيجارة رثّة مُهمَلَهْ/...[30]. ما يعني أنّ ما اصطلحنا على توصيفه بـ"شعريّة الذّات الحائرة"، لا يمكن أن يتأتّى إلّا عبر "تصوير" تلك الذّات في مختلف تجلّياتها والتوسّل بالاستعارة تارة والتّشبيه تارة أخرى، والمحافظة في كلّ ذلك على ما تتّضح فيه العلاقة بين الأطراف، ممّا لا يخلّ بمبدأ التناسب المنطقي بين الأشياء ويحفظ تمايزها واستقلالها. أو ليس الشعر – في أصله- "صناعة وضرب من النسج، وجنْسٌ من التّصوير"[31].
وممّا عمّق انفتاح مجموع "دعني أمتلئْ بك" على "الإشكالي" في علاقته بالذّات تأكيد الشاعر في أكثر من موضع على مدى ألمه وتوجّعه يصرّح قائلا: "...أنا كئيب متعب/ فكأنّ في قلبي سؤال قاتل وملامةٌ/ وفجيعة وكأنّ/ في قلبي جنازة وكأنّ/ أوطاني البكاء/..."[32].
وما تواتر التّشابيه وتآلفها فيما يمكن تسميته بـ"الإسناد الشّاذ": ( كأنّ في قلبي جنازة/ أوطاني البكاء)، إلّا بوّابة مرق منها الشاعر للحديث عن توتُّر العلاقة بين هذه الذَّات وبين الواقع: ".../ لم أعش يوما سجين الواقع اليومي/عشت محتفلا بأخطائي/ ماضيا في فكرة التهديم دون هوادة/ أعلو على الوقائع، أقفز/ فوق ما يبدو مُهمّا ولازِمًا /..."[33]. ما يعبّر عن تبرّمه بـ "العادي" و"اليومي" و"البديهي"، واحتمائه بالشعر ملاذا وسكينة وحياة. فالقصيدة وجدها تمثّل الامتداد الطبيعي لمعيشه الأرضي القاسي، وهي وحدها –أيضا- القادرة على إلغاء المسافة بين الكتابة فعلا اعتباريا وبين موجوديّة الشاعر المتعيّنة واقعا.
خاتمة
     انتخبنا لهذه القراءة تجربة الشاعر التونسي عبد الرزّاق المسعودي، وأعملنا النظر في مجموعه الشعري "دعني أمتلئْ بك"، ودرسنا تحديدا تجلّيات الواقع، ثمّ ما اصطلحنا عليه بشعريّة الذات الحائرة.
وقد سعينا في كلّ ذلك إلى التّفصيل، فعرضنا في العنصر الأوّل كيفيّات توصيف الواقع شعرا ومختلف مظاهره، سواءٌ من خلال احتفائه بالرّموز (ذات المرجعيّة الواقعيّة)، أو استنادا إلى توظيف تقانات مخصوصة (استجلاب الجزئي من الذّاكرة إلى الشعر). أمّا في العنصر الثّاني فسعينا –بدءا- إلى الوقوف على مفهوم الشعريّة بالنّظر إلى اعتقادنا في سيادة هذا المفهوم على مجمل أشعار المجموع، ثمّ في اتّصاله الوثيق بتجربة الشاعر المنفتحة على الإشكالي من الأسئلة والمظاهر الّتي عبّر عنها بالرمز والإيحاء تارة، وبصفة مباشرة تقريريّة تارة أخرى. وكانت لغته الشعريّة في كلّ ذلك لا تقوم على وصف الشيء بل تسعى إلى تعيين تأثيره. وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنّ ديوان دعني أمتلئْ بك، ما هو إلاّ لبنة أولى من لبنات "مشروع" شعري متكامل يسعى صاحبه إلى تأسيسه وترسيخه في إطار المشهد الشعري التونسي عموما.





[1] - لوسيان غولدمان، الواقعية في الفنّ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، بيروت، 1987، ص 27.
[2] - برتولت برشت، "المنطق الصغير في المسرح"، ترجمة، أحمد الحمّو، مجلّة الآداب الأجنبيّة، العدد 2، تشرين الأوّل، ص 139.
[3] - جورج بليخانوف، الفنّ والحياة الاجتماعية، باريس، منشورات اجتماعيّة، 1975، ص7.
[4] - للوقوف على تضارب المواقف بخصوص هذه المسألة، يمكن الرجوع إلى أعمال نظريّة عديدة نذكر منها:
-مادام دوستال،(ت1817)، الأدب في علاقته بالنّظم الاجتماعية.
-Mme de STAEL, De la littérature considérée dans ses rapports avec les institutions sociales.
-جورج بليخانوف (ت 1918)، الفنّ والتصوّر المادي للتاريخ.
-George PLEKHANOV, L’Art et la conception matérialiste de l’histoire .
- جورج لوكاتش (ت1971)، الفنّ والمجتمع.
-Georges Luckas, Art et société

[5]- ديوان، دعني أمتلئ بك، المغاربيّة لطباعة وإشهار الكتاب، ط1، 2011، ص ص 46-48.
[6] -المصدر نفسه، ص ص 49-51.
[7] - المصدر نفسه، ص ص، 52-54.
[8] - المصدر نفسه، ص 46.
[9] - المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[10] - المصدر نفسه، ص47.

[11] - المصدر نفسه، ص52.
[12] - المصدر نفسه، ص54.
[13] - المصدر نفسه، ص51.
[14] - المصدر نفسه، ص49.
[15] - المصدر نفسه، ص51.
[16] - التعبير للشاعر، ص 51.
[17] - المصدر نفسه،  ص62.
[18] - المصدر نفسه، ص 80.
[19] - المصدر نفسه، ص61.

[20] - للوقوف على هذا المعنى، راجع: مبروك المنّاعي، في إنشائيّة الشعر العربي، مقاربات وقراءات، تونس، دار محمّد علي للنشر بصفاقس، مركز النشر الجامعي، 2006، ص 36.
[21] - حمّادي صمّود، محمد لطفي اليوسفي، هشام الريفي، محمد قوبعة،عبد الله صولة، دراسات في الشعريّة (الشابي نموذجا)، تونس، بيت الحكمة، 1988، ص26.

[22] - صلاح فضل، أساليب الشعريّة المعاصرة، بيروت، دار الآداب، ط1، 1995، ص11.

[23] -عبد الرزاق المسعودي، أجمل الذنوب، سيرة مكان، تونس، المغاربيّة للنشر، ط1، 2007.
[24] - عبد الرزاق المسعودي، دعني أمتلئ بك، المصدر نفسه، ص 33.
[25] - التعبير للشاعر، ص 45.
[26]- عبد الرزاق المسعودي، دعني أمتلئ بك، ص 42.
[27] - المصدر نفسه، ص 34.
[28] - المصدر نفسه، ص 66.

[29]- للوقوف على هذه المعاني، راجع: عبد القادر الرّباعي، "الصورة في النّقد الأوروبي"أأوروبي"، المعرفة، العدد 204، 1976، ص30.
[30] - عبد الرزاق المسعودي، دعني أمتلئْ بك، ص20.
[31] - عبد الملك مرتاض، "الصورة الأدبيّة: الماهية والوظيفية"، علامات، الجزء 22، مجلّد 6، ديسمبر 1996، ص179.
[32] - عبد الرزاق المسعودي، دعني أمتلئْ بك، ص40.

[33] - المصدر نفسه، ص 78.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق