"طقوس سرّية...
وجحيم"، لحياة الرايس: فتنة اللّعب السردي ووجوه اللّعب
د. عبد القادر عليمي
القاصّة
والمسرحيّة والشاعرة حياة الرايس ليست في حاجة إلى تعريف يؤطّر مسيرتها الأدبيّة
الحافلة والممتدّة - نسبيّا- وسنكتفي في هذا التقديم بالإشارة إلى أهمّ أعمالها
وتصنيفها تصنيفا أجناسيا، لننتقل بعد ذلك إلى الخوض في آخر إصداراتها الإبداعيّة،
وهي مجموعة قصصيّة عنوانها: طقوس سرّية...وجحيم".
من أولى المجموعات القصصية التي أصدرتها، مجموعة عنوانها: "ليت
هندا..."، وصدرت بتونس سنة 1991. ثمّ، أنجزت في الدراسة النقدية كتابين
هامّين، هما: "المرأة، الحرّية، الإبداع"، الصادر عن مركز الدراسات
والبحوث بتونس سنة 1992. و "جسد المرأة: من سلطة الإنس إلى سلطة الجنّ"،
الصادر عن دار سيناء، القاهرة 1995.
كما كتبت المسرحيّة، وتجسّد ذلك في نصّ عنوانه: "سيّدة الأسرار
عشتار"، الذي نشر بتونس سنة 2003، وأعيد نشره في طبعة ثانية سنة 2004. وقد
كان للشعر في مسيرتها نصيب ترجمه ديوانها "طقوس سمراء" الصادر سنة 2004.
وهكذا، فالمحتفى بها تمتلك قلما إبداعيّا متنوّع الاختصاصات. وهذا - في حدّ
ذاته – من الميزات التي يندر أن نعثر عليها عند المبدعين، حيث يغلب
"التخصّص"، أو لنقل التوجّه إلى جنس أدبي دون سواه.
هذا، عن مجمل أعمالها - أو بعضه على الأقلّ – أمّا في ما يتّصل بمجموعتها
القصصيّة الجديدة "طقوس سرّية...وجحيم"، فقد حاولت حياة الرايس أن تحلّق
خارج سرب القصّ المألوف، ف"استحدثت" تعديلا فنّيا طوّح بأبنية القصّ في
معماريته المألوفة، وتجلّى ذلك في التقسيم الداخلى، ولنقل التبويب الذي اندرجت
ضمنه هذه النصوص، فقد جاءت المجموعة مبوّبة ضمن أربعة أقسام، يتميّز كلّ منها
بتصنيف أجناسي يميّزه عن ما سواه، ويميّز -بالاستتباع- محمولاته الفنّية
والدلالية. وجاءت هذه الأقسام مع نصوصها تحت المسمّيات التالية:
- قسم أوّل، تحت عنوان: "قصص"، وضمّ ثمان (08) قصص، هي:
"طقوس سرّية...وجحيم"، "أنا وفرنسوا...وجسدي المبعثر على
العتبة"، "اغتيال على ضفّة السين"، "عزرائيل والكاتب"،
"ليت هندا..."، "تحيّة"، "أحلام الشيخ مسعود
"العزّام" "، و"إعلان زواج".
- قسم ثان، جاء تحت مسمّى: "أدب الرسائل"، وخصّ بعنوان جامع هو:
"رسائل أخطأت عناوينها"، وضمّ تسع (09) رسائل، هي على التوالي:
"طقوس الرسائل القديمة"، "نوستالجي"، "كلّما تدثّرت
بالسفر يعرّيني الحنين"، مؤانسة الذكرى"، "كلّما أنكسر أقرأ
رسائلك"، "موعدي أن أشرب القهوة معك هذا الصباح"، "إلى عابر
سبيل"، "إلى عابر مقيم"، و "لعبة الأمكنة في مخاتلة الزمان".
- ثالث الأقسام، عنوانه: "من
أدب السيرة الذاتية"، واشتمل على نصّين هما: "يوم في حياتي"، و
"في حدائق دجلة: "شهرزاد تشتهي عودة اللّيالي".
- أمّا آخر الأقسام، فوسمته القاصّة بعنوان: "شهادة أدبيّة"،
وتكوّن من النصوص التّالية: "سؤال الموت والكتابة المخاتلة للخلود"،
"حكايات وأساطير "أهل الجزيرة" أو شهوة الرجل إلى الولادة وهزم
"الأمّ"، و"عليسة مأساة بحجم عظماء قرطاج ".
هذا عن محتوى المجموعة، ولكن ما يمكن ملاحظته –بدءا- أنّ لغة السرد
وإيقاعها لا تسير على وتيرة واحدة، كما أنّ إيحاءات المعنى وإحالاته يتجدّدان من
قصّة إلى أخرى، والقاصّة في كلّ ذلك تهب مهجتها للكتابة وحدها، والإبداع وحده، ما
يليق بمبدعة تسكب روحها الأمّارة بالإبداع في فضاء شاسع هو فضاء النّص. وهل
الكتابة الإبداعيّة غير ذلك؟ أليست مجاوزة للتخوم وتحليقا في فضاءات غير مسيّجة
دون جناحين، ولحظة مختلسة للإطلال على ما وراء السجف والحجب؟
أوليس المبدع عبر مختلف تسمياته، شاعرا كان أو ناقدا أو قاصّا أو روائيا
مختلفا عن الآخرين: يسيرون ويطير، يثبّتون أقدامهم في الطين ويسبح في الملكوت؟
يهرفون سمج القول وسخف الكلام، ويصطنع المبدع مجازات الحياة والموت وما بينهما؟
ثمّ، يصطنع بأنامله الدقيقة طقوسه الخاصّة: سعادته وجحيمه، حياته وموته وما
بينهما، حتّى "يتّعض" الآخرون: سدنة "الجاهز" والجثث المحنّطة
والرضى بالمكتوب.
إنّ نصّ: "طقوس سرّية...وجحيم" بمختلف تفريعاته وحدة متكاملة،
إنّه نصّ ينبض بالحياة ويشرّع لكشف الأسرار والبوح والفضح - ربّما – وهو بالاستناد
إلى ذلك يحتفل بالإنسان في كلّ تجلّياته. ولنا في الإيماءة الأنيقة في العنوان
(وهي إيماءات في الحقيقة)، خير دليل على تلك "المنطقة الوسطى" أو
"البرزخ" الذي يمكن أن يفصل أو يجمع (الأمر سيّان هنا) بين ما اصطلحت
على تسميته القاصّة ب"طقوس سرّية" وبين "الجحيم"، بين وجود
كالعدم وعدم كالوجود، بين متحقّق كالمستحيل ومستحيل يتحقّق.
تلاعب حياة الرايس اللّغة وتداعبها، لتبحث من خلال ذلك عن ذاتها المبدعة في
زحام "الّذين يأكلون الخبز ويمشون في الأسواق"، تبحث عن اختلافها بجوهر
أصيل، غير مبتذل أو سوقيّ...ثمّ، قد تجد تلك الذات أو لا تجدها فالأمر سيّان، تقول
في القصّة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة: " تشرق الشمس على النوافذ لكنّها
لا توقظ القلب. أيّام ساكنات والأحلام لا تغادر ليلها..."، ثمّ تضيف:
"هذه امرأة لم نعد نعرفها". وتعقّب في شكل حوار بين حلمها المحبط وطقسها
السرّي القديم: " كلّ أيّامك مهدرات، يصرخ الحلم المحبط، يهمس الطقس السرّي
القديم: متى نعود إلى سالف عهدنا؟ متى سنمارس جنوننا وطفولتنا؟ متى نعيش إبداعيا
على الأرض"؟ والمقصود ب"الطقس السّري القديم" في هذه "القصّة
المفتاح" هو الوله بالكتابة والشغف بها حدّ الهوس، تقول: "أمسك قلما
وأنتشر من جديد بين البياض، تقبل عليّ أحلامي كما يقبل الفلاّح على نهر، أستعيد
طقسي السرّي القديم". فهل بعد هذا الوله وله؟ وبعد هذا الشغف شغف؟
ثمّ، تنوّع حياة الرايس من طروحانها القصصيّة شكلا ومضمونا، تطرح الأسئلة
الحارقة في قصصها، ومن أمثلتها: نقد بعض الظواهر المتفشية في مجتمعات التخلّف، مثل
ظاهرتي الشعوذة والدجل في قصّة: "أحلام الشيخ ابراهيم العزّام"، هذا
الشيخ الذي يدّعي القدرة على شفاء كلّ من مسّه سحر أو ألمّ به داء، فيده كما تصف
القاصّة: " تجمّد الماء وتعمّر أرحام النساء"، وهو في الأصل متحيّل،
فاسق وزان...النّاس لا يتصوّرون (والعبارة للقاصّة) "أنّ الشيخ العزّام لا يحلم، لا يتمنّى،
لا يعشق، لا يشتهي..."...لكنّه اشتهى "ساسية القابسية" العاقر، هذه
المرأة التي التجأت إليه خوفا من أن يطلّقها زوجها، وعندما "وقعت تحت سيطرة
مجتمع نبذها لمّا خذلها رحمها، متوسّلة الشيخ آخر املها". لتنتهي القصّة
بانتهاك شرف "القابسيّة" التي سقطت مغشيّا عليها بعد أن شربت مخلوطا في
كأس قدّمه الشيخ العزّام.
هذه بعض مدارات القصّ في مجموعة حياة الرايس الجديدة، وفي الجزء الثاني من
مصنّفها توسّلت متهج، أو لنقل طقوس الرسائل القديمة في بثّ لواعجها وأشواقها وانكساراتها
وانتصاراتها ولواعجها المشتعلة أبدا...تلك التي لا يطفؤها ماء ولا يبلّ جراحاتها
دواء...تسوق كلّ ذلك بأسلوب رائق، شائق يعبّر عن خوالج النفس الإنسانية ويجلو ما
ترسّب في أعماقها السحيقة من عبق الذكريات ومغامرات السفر وطقوس الغربة و عميق
التحنان غلى الأصل والجذور...
ثمّ، لا تستنكف حياة الرايس من تدوين سيرتها الذاتية او
"الغيرية" – ربّما- في ثالث أجزاء مجموعتها، توثّق ذلك توثيقا إبداعيا
لا تسجيليّا من خلال استحضار "يوميات" امرأة مثقّفة، أو كما توصّف هي:
"مجرّد موظّفة لها أوقات عمل معيّنة تقضيها ثمّ تعود على بيتها...". ولم
تنس في هذا السياق استحضار رمز "شهرزاد" الذي يحيل على جماليات الحكي،
فكأنّما المرأة -على وجه العموم- لم تخلق إلاّ لتكون قاصّة.
الجزء الرابع من المجموعة عبارة عن "شهادة أدبية" تدلي بها حياة
الرايس، وأهمّ ما يلخّصها جملة موجزة، تقول: "كلّ شئ منذور للموت إلاّ
ماكتب...". فهل بعد هذا الكلام كلام؟
إنّ الكتابة خلود، وما دونها محض فناء، الكتابة فعل خلاص و ما دونها فعل
تورّط وشقاء.
في الجزء الأخير من مجموعتها تعود بنا القاصّة إلى فضاءات التخييل السردي،
تستحضر شائق الحكي وما يخلب من الأساطير. وتستحضر تحت عنوان: حكايات وأساطير أهل
الجزيرة" حكاية "عليسة"،
"حيث تتشابه الحقائق والأخيلة، حيث لا معنى لحقيقة بلا خيال، وحيث لا
معنى لخيال لا يبني له بيتا من الحقيقة"
هذا عن المجموعة، نصوصا وطقوسا و...جحيما. وتلك بعض ملامح فتنة اللّعب
السردي في نصّ حياة الرايس الجديد، ومن تجلّيات وجوه اللّعب الفنّي بالخصوص يمكن
أن نشير إلى التحوّل في مفهوم الكتابة الأدبيّة وأسلوبها، والتحوّل –هنا- منتج من
حيث الرؤية للذات والكزن والنّاس والأشياء، ذلك أنّ الأدب مفهوم تتجدّد دلالاته من
خلال تجدّد شكله. ثمّ، غنّ هذا التحوّل لا يعني قطيعة مع الشكل القصصي القائم
قدرما يعني التطوّر، وهو ديناميّة حتميّة لا يمكن أن يتملّص منها منطق الأدب الذي
يواكب تحوّلات الذّات والسياسة والمجتمع. وهكذا فقد يعرق الادب "انفلاتات
بنيويّة" انسجاما وتماهيا مع تلك التحوّلات. ولعلّ "طقوس سرّية... وجحيم
"، لحياة الرايس لا تخرج عن نطاق هذه الرؤية، فالانفلاتات البنيوية حاصلة –لا
محالة- في هذا النّص، فهو ليس بالقصّ الخالص، وليس أدبا محضا للرسائل، وليس
مذكّرات شخصيّة، كما أنّه ليس أدبا للسيرة الذاتية. إنّه نصّ جامع يأخذ من كلّ ذلك
ويتماهى معه ليتركه في حالات أخوى إلى "تهويمات" تخرج عن نطاق كلّ تصنيف
أو تجنيس.
لقد أنجز هذا النّص بعيدا عن المواصفات الجاهزة والمألوفة لنظام ترتيب
القصّة القصيرة، كما ابدعت القاصّة نوعا قصصيّا يقترح تفكيك المفاهيم السائدة
وتدميرها سرديا، فهذا الأنموذج يبني بكتابته شكل قراءته، وهو ما يجيز اقتراح أسئلة
جديدة حول القصّة القصيرة، ومنها:
-هل ثمّة وعي نقدي بأشكال الكتابة السردية الجديدة ومن بينها النّص الذي
نحن بصدد تقديمه؟
-ألا ينحرف السؤال النقدي في حالات كثيرة عن الجوهر الأدبي في مثل هذه
النصوص ليتحوّل إلى معالجة الإشكال الأجناسي والوعي به، وكأنّ التجنيس هو هوّية
النّص الأساسيّة، ولا ينتبه هذا النقد إلى الأهمّ المتّصل بوصف "الحالة"
الأدبيّة الجديدة وتحليل بناء نظامها الجديد والانتباه إلى تبدّل مواقع عناصرها
واستلهام عناصر جديدة تنهض لإنتاج أدبّية الأدب؟
ثمّ، ألا يمكن أن يعرف الأدب بكلّ تعبيراته الأجناسيّة انتقالات في تحديده
وتحوّلات مفهومه ولكن دون أن يؤثر ذلك في جوهر منطقه؟
نطرح هذه الأسئلة التي أثارتها قراءتنا لنصّ "طقوس
سرّية...وجحيم" لصاحبته حياة الرايس، ونعوّل على فطنة القارئ/ المتقبّل
للوقوف على تجلّياتها في النّص المذكور، وأظنّ أنّ ذلك لا يكون إلاّ من خلال
قراءته وليس الاكتفاء بقراءة هذا التقديم الذي لم يف هذا النّص حقّه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق