الخميس، 4 يونيو 2015

"منمنمات"، يليها "أخبار مدرج الريح"، للشاعر التونسي فتحي النصري






فتحي النصري



مُنَمْنَمات
يليها
أخبار مَدْرَجِ الريح















مقدّمة

                                                                                                                                                                                                   I.             

ما المطلوب الشعر أم الحداثة؟
كثيرا ما عاودني هذا السؤال لا سيّما في السنوات الأخيرة. وقد اتّفق أن أثرته مرّة في حضرة صديق حصيف إثر قراءة واحدة من قصائد "منمنمات"، فردّ قائلا: وهل يتعارضان؟ ورغم ما في هذا الردّ من الوجاهة، فإنّني قد أجيب: أجل، وذلك عندما تغدو الحداثة هوسا يستبدّ بفعل الكتابة وعندما تختزل الحداثة الشعريّة في المغايرة الشكليّة وتُطلب الأشكال الجديدة لذاتها باعتبارها علامة الحداثة التي تغدو والحال هذه إجراء شكليّا ومفهوما زمنيّا. فالحديث يعني الجديد وكلّما كان الشكل أجدّ كان النصّ الشعريّ أحدث.
إنّ هذا التصوّر يحكمه منطق ضمنيّ هو منطق تطوّريّ يصنّف الأشكال الشعريّة وفق تعاقبها في الزمن من الأدنى إلى الأرقى. ووفق هذا المنظور يرى بعض الشعراء والنقّاد في قصيدة النثر بحكم حداثتها الزمنيّة  شكلا أرقى من القصيدة  الحرّة التي تعدّ بدورها شكلا أرقى من نظام الشطرين.
وقد أفضى هذا المنطق التطوّري، لاسيّما عندما يتعلّق الأمر بقصيدة النثر إلى رواج بلاغة للأشكال الشعريّة متعالية على المنجز النصّي. فتُبنى الأحكام النقديّة والجماليّة على مفاهيم نظريّة معياريّة بغضّ النظر عن واقع الممارسة الشعريّة وحقيقتها.وكأنّ الذين يكتبون قصيدة النثر يصدرون عن شعريّة واحدة ويُجسّمون بتماثلهم جوهرا شعريّا واحدا هو الجوهر الشعريّ لهذا الجنس من الكتابة.
وقد ساهم هذا السلوك النقدي في تأجيج معركة الأشكال الشعريّة وتغذية التعصّب لهذا الشكل أو ذاك. فالمتعصّبون لقصيدة النثر يعدّونها غاية في الشعريّة والمتعصّبون عليها يقصونها من الشعر. وهكذا استبدل نقد الشكل الشعري بنقد الشعر.وكأنّه يكفي أن يكتب أحدهم قصيد النثر حتّى يُحسب لنصّه ما يُحسب لهذا الجنس الشعري من "مزايا" أو يكتب آخر في الشكل العمودي حتّى يكتسب نصّه "أصالة" شعريّة ما.
لقد اختُزِل سؤال الحداثة في الشكل الشعري واختَزَل الشكلُ الشعري سؤالَ الشعر. وطفت بلاغة للأشكال الشعريّة جعلت أجيالا  من الشعراء  يقفون ممارستهم الشعريّة على شكل واحد يلزمونه ولا يفارقونه وكأنّهم مسخّرون لخدمته. غير أنّي ما زلت أعتقد أنّ الأشكال الشعريّة ملك للشاعر وليس الشاعر ملكا للأشكال الشعريّة. وهو مؤهّل لتصريفها وفق ما تقتضيه الحاجة الفنّيّة.وإذا لازم الشاعرشكلا معيّنا فلا ينبغي أن يكون ذلك بسبب "بلاغة" ما ملازمة لهذا الشكل وإنّما لأنّه يلائم منحاه في الكتابة. فليس الشكل الشعريّ في ما أرى موضوع اختيار ثابت أو نهائيّ وإنّما هو ينبني بانبناء النصّ الشعري وفي تناغم مع سائر مكوّناته اللغويّة والإيقاعيّة والتخييليّة. ومن هذا التناغم تنشأ وحدته الفنّيّة التي فيها وحدها تكمن أصالته.
بهذا المعنى يمكن القول إنّ الشاعر لا يختار الشكل الشعري وإنّما منطق انتظام مكوّنات القصيدة هو الذي يستدعي شكلا بذاته وفق ما يتطلّبه مبدأ التئام الشكل والمادّة. فإذا لم يلتئما بدت الصدوع في النصّ. فما أكثر القصائد النثريّة التي ليس لها من هذا الجنس سوى الكتابة خارج الوزن والقصائد الحرّة التي لم تحتفظ من تحوّلات الشعر الحرّ بغير الإجراء العروضي والقصائد العموديّة التي ليس لها من عناصرالشعريّة سوى النظم.
                               II.             

لم أستطرد إلى هذه الملاحظات عن الحداثة والشكل الشعري إلاّ لأنّ الأسلوب الذي كتبتُ به قصائد "منمنمات" قد استدعى التفكير في هذا الموضوع.  فسيلاحظ القارئ نزوعا واضحا إلى استخدام أشكال شعريّة ثابتة أو شبه ثابتة (السوناتة، الشكل المقطعي، الرباعيّات...)، مثلما سيلاحظ مراعاة ضرب من الانتظام في بناء الإيقاع  حتّى في القصائد الحرّة.
ولا أخفي أنّ مباشرة هذه التجربة في الكتابة  لم تخل من تردّد. ولا أستبعد أن يرى البعض من القرّاء  ولاسيّما المطّلعين منهم على كتاباتي السابقة في استخدام هذه الأشكال الشعريّة ردّة فنّيّة. غير أنّي أؤكّد بدءا أنّني لم أخطّط لتوخّي هذا الأسلوب الشعري وليس للأمر علاقة بسلفيّة أدبيّة أتبرّم منها بطبعي. وإن كنت لا أنفي أنّني في الفترة  التي كتبت فيها هذه القصائد كان يلازمني إحساس مبهَم يغريني بالهجرة إلى الجنوب. وقد يكون لهذا الإحساس صلة بمناخ ثقافيّ عامّ. غير أنّ ذلك لا يعني وجود تخطيط سابق. فقد بدأ الأمر عفوا بقصيدة بل بهذا البيت :
دعنا إذن نَمضِ إلى الجنوب!
وكان مجرّد نغمة أو رجع صدى. فأثبتّه على ورقة ونادرا ما أفعل ذلك. وبقي يتيما ما يناهز الشهرين لا أدري ما أصنع به حتّى استوى المقطع الأوّل في شكل رباعيّة ثمّ تلتها رباعيّات أخرى.غير أنّي أدرك الآن أنّ ما يحدث في البداية صدفة يتحوّل تدريجيّا إلى ما يُشبه المواضعة. وذلك أنّ الشاعر إذا استطرف شكلا شعريّا تأتّى له مال إلى الاستمرار فيه ولو لفترة من الزمن لاختبار ممكناته الفنّيّة.
ولقد كانت هذه التجربة مصدر أحاسيس متناقضة. فقد أذكت فيّ إحساس من يكتشف البيت من جديد، وفي الآن نفسه كنت لا أعرضها على أصدقائي دون توضيح وتعليل وهو ما ينمّ عن حرج ما. وقد كانت هذه الحيرة الفنّيّة مدعاة إلى إثارة  أسئلة عن الشكل الشعري والشعريّة والحداثة. وكثيرا ما كنت أذكّر هؤلاء الأصدقاء بأنّ أهمّ قصائد الشعراء الذين ما زلنا نعدّهم منبع الحداثة الشعريّة في العالم من أمثال بودلير وملاّرمي وأرتر رامبو قد أنجزت أساسا في الأشكال المنتظمة بل والثابتة (السوناتة). وعندما نتكلّم عن بودلير نذكر قصائد "أزهار الشرّ" لا "قصائد نثريّة صغيرة".
وبعد، فهذه تجربة في الكتابة أردتُ أن أعتقها من ربقة الرقابة الذاتيّة التي قد يمارسها الشاعر المعاصر على ما يكتب خشية أن يخلّ "بمقتضيات الحداثة"! وليكن أنّها مباينة للمطّرد في كتاباتي السابقة فما الحرج في ذلك؟ أم أنّ ولادة الشاعر في النصف الثاني من القرن العشرين تقضي بألاّ يكتب في غير الشكل النثري أو الحرّ؟
لاشكّ أنّ قصيدة النثر فسحت في المجال للشاعر لطلب الشعر خارج معيار النظم وأنّ الشعر الحرّ حرّر الشاعر من التقيّد بتناظر الأبيات والالتزام بنظام محدّد في التقفية. غير أنّه ثمّة في الممارسة الشعريّة تحوّلات سابقة لا تقلّ أهمّيّة بادرت إلى التمرّد على الأوزان الشعريّة التقليديّة دون أن تتخلّى عن مبدإ النظم (الموشّح في ضرب منه) أو تحرّرت من القافية الموحّدة دون أن تتخلّى عن مبدإ الانتظام (الموشّح، الشعر المقطعي). وأعتقد أنّ تحوّل الشعر العربي عن القافية الموحّدة إلى تنويع القوافي ثورة حاسمة لم تُقدّر حقّ قدرها. إذ سرعان ما عدلت الممارسة الشعريّة في العصر الحديث عن الشعر المقطعي المتنوّع القوافي إلى الشعر الحرّ، وكأنّ الأوّل قرين الرومنطيقيّة والثاني بديل ضروريّ عنه وليس شكلا ممكنا فحسب. ولا شيء في ما أرى يمنع الشاعر المعاصر من أن يستثمر الشكل المقطعي أو غيره من الأشكال التي تحتفظ  بعنصر الانتظام في بناء الإيقاع ولا شيء يمنعه من أن يستوحي منها أشكالا أخرى وهي في تقديري غير نهائيّة.
ولقد أتبعت مجموعة "منمنمات" بنصّ "أخبار مدرج الريح". وهو نصّ تخييلي يتأثّر فنّ الخبر و"كتاب الأغاني". وقد راوحت فيه بين الأخبار والأشعار. وإذا كان قد أُريدَ للمنظوم الوارد فيه أن يثبت شيئا فهو أنّ النظم متاح لمن يطلبه ولكنّ الشعر قلّما يتأتّى. وربّما  كان  ردّا على الادّعاء الذي كثيرا ما لمسته عند بعض من يكتب الشعر العمودي. غير أنّي لا أظنّ أنّ بإمكان هذا الشكل، على خلاف الأشكال الشعريّة الأخرى، وذلك بسبب قافيته الموحّدة بالذات، أن يفضي إلى غير ما كرّسته التقاليد الشعريّة. ولذا فإنّني أرى في  عودة شعراء معاصرين إلى استخدامه سلفيّة أدبيّة وما ينجز في إطاره يعدّ إذا قورن بمنجزات الشعر العربي الحديث تقهقرا فنّيّا.    























مُنَمنمات














سوناتة

كان حـلمـاً عَـجَـبـاً كـيـف غــــدا
حـيــنـمـا حــاولـــتُ أن أذكـــرهُ
مـقْـفـلا حـجّـبـه الـصـحْـوُ عـــدَا
أثـــــــرا يُـــعْـــتِـــمُ مـــا إنْ أرَهُ

طُـفْـتُ فـي نـومـي بـأسوارِ إرَمْ
وانقضى التِطوافُ لكن ما دخلتُ
أتُــرى أعْــوزنــي الإيــمــانُ أمْ
أخـذ الإعــيــاءُ مــنّـي فـغـفـوتُ؟

وإذا فــي غــفــوتـي حـلــمٌ ألَـمّـا
لأرى في صَحوتي في نومِ نومي
أنّ ما اسـتذكـرتُه لم يَعْـدُ رسْـمـا

 نَـدَّ عـن فـكـري. وما قرّ بفهمي
أنّـني في الحلم قد حاولـتُ حـلْمَـا
يــتـأبّـى أن يُــرى أو يـتـســمّــى





لغو الظهيرة

          

ما الذي أيقظ الصمتَ
ألقى حصىً في المياه
وأودع في اللحظة الأبديّهْ؟

ما الذي في احتدام الظهيرة
رنَّقَ طائرُه
بين صحو ورؤيا نبيّهْ؟

ما الذي رفَّ هوناً
فرقّت حواشي الهواء وقرّتْ
بأجنحة وبريّهْ؟

ما الذي لاح مثل الحمامة
تخطرُ فوق الغمامة
خطوتُه الملكيّهْ؟

ما الذي من أعالي الأعالي
أسرّ إلى كائنات الزوال
بأشواقها الأزليّهْ؟

ما الذي فتّح اليوم لي في السماوات بابا
وأغرى يدي
بثمار جَنِيّهْ؟

............................
............................
............................

أين ذاتُ العماد إذن
كيف أظفَر بالحجر الفلسفيِّ
وبالجِزّة الذهبيّهْ؟ 












الظلال


حين يُقفر مـمْشى الحديقـهْ
   من خطى الزائرينْ
   يـسـتفـيقُ الـحـنيـنْ
   في الجذور العميقَهْ

 في المَمرّات أُلْفي الظلالْ
   من فُرادى ومَثْنى
   تَـتَـمشّى الهُوَيْـنى
   مِن أسىً أو كَلالْ

صُوَرٌ من شفيفِ الظلامْ
   أثْـقـلـتـها الـرؤى
   ورنـين الصـدى
   ذبَّ عنها المنامْ

عـالـقًا لـم يزلْ بالمـكانْ
    بين ماض مواتْ
    لا يُــولّــي، وآتْ
    راغ عنه الزمانْ


اسمعُ الصوت لا أستبينْ
   منه غير حسـيـسْ
   في المكان حبيسْ
   أو رجـيـع أنـيــنْ

( لا الذهابُ هناك تسنّى
   لا الـبقـاءُ هـنـــا
   لا الـبقـاءُ هـنــا
   لا الذهابُ تسنّى)

بعد حين تضِجّ الحديقـهْ
   بخطى الـزائريــنْ
   ويغيضُ الـحـنـيـنْ
   في الظلال العتيقهْ












صُوَر


صوَرٌ تمـضي كأشـتات سـحــابْ
بـعـثرتها الـريحُ في يوم خـريــفْ
أو كأوراق هـَوتْ دون حــفـيــفْ
في قرار الصـمت أو قاع الغيـابْ

صـورُ الأوْجُه من تـحـتِ نـقـــابْ
تـتـبـدّى لــي ولا أبــصـر مــنــها،
إن أنـا حاولتُ أن أُجـْلـيه، وجــهَا
فـي مـرايا يـتـغـشّـاهـا الضبـــابْ

صورةُ الطفل الذي هـَـلَّ وغــابْ
عـبَـرَ النــهــر إلـى زُرْق المــيـاهْ
عـبَـر النــهـر ولـم يــتــركْ وراهْ
غيرذكرى الماء أو خفْق السرابْ

صورةُ الوجه الذي من خلف بابْ
شـعّ كـالشـمـس التي تَـعْـقُب غيمَا
صـورة الـوجـه الـذي مثّلتُ دوْما
بـبـياض لاح فـي ريـش الغــرابْ

صـورةُ الراحـل مـن غـيـر إيـابْ
صـورةٌ مـُُثْــبـتـةٌ فــوق الــجــدارْ
حـيـن أجـلو ما اعتلاها من غـبارْ
يـنـجلي البلّورُ عن وجه الـتـرابْ


صوَرٌ أخرى نضَتْ عنها الحجابْ
صورٌ أخرى وذكـرى إثر ذكـرى
يـهـبـطُ اللـيـلُ فـتـأتـيـنـيَ تَـتْــرى
ثـمّ تـمـضي مـثـلَ أشتاتِ سحابْ















البيتُ الآخر


ليَ بيتٌ غيرُ هذا البيتِ
أُلْفيهِ إذا جَنَّ الظلامْ،
هو بيتٌ آخرٌ
غيرُ الذي آلفتُهُ
لا يتبدّى ليَ إلاّ في المنامْ،
غيرَ أنّي إذْ أوافيهِ
وأمضي في نواحيهِ
أرى مأوًى أليفَا،
وأَراني فيه مثل الماء
إذ ينساب في الماء خفيفَا.

هو بيتٌ آخرٌ
غير الذي أعرفُهُ،
بعضُه ضوءٌ
 وظلٌ بعضهُ،
لكنّه دانٍ حميمْ،
كلّما طوّفتُ فيه
خِلْتُني مغتربًا
آبَ إلى الحيّ القديمْ.

هكذا يأخذني الليلُ إلى بيت
بأقصى الجهة الأخرى
بأطراف المدينهْ،
فإذا باغتني الإصباحُ
لم أُدركْ سوى طيف توارى
بين أطلال دفينهْ.
وسُدًى أجْهَدُ أن أحفظَ منها صوَرَا
فلقد جافَتنيَ الذكرى
وها إنّيَ ما عدتُ أرى
بيتيَ المنسيَّ حتّى في الكرى.

























مذاق الغياب


                                       الى الطاهر الهمامي




 للغياب مذاقٌ أليفْ
كأنْ
تلتقي مثلاً
رقمَ هاتفه دون قصد
على شاشة الهاتف الخلويِّ
وتوشكَ أنْ..................
................................
ويَرينُ على شمسِ أيّارَ غيمٌ
وترى جرسًا في الغيوم يرنْ
وانهمارَ البنفسج فوق الرصيفْ.
للغياب مذاقُ الشجنْ
في الربيع الخريفْ

 مذاقُ الذي لايسمَّى
ويُبْديه حِسُّ
أرأيتَ الألمْ
لا تؤدّيه تسميةٌ
إنّما هو شيء يُجَسُّ
كذاك الغيابُ مِجَسُّ العدمْ
يتمشّى خفيفًا
في فراغ الكيان الخفيفْ

الغياب دبيبٌ لطيفْ

دبيبُ الذي لا يُرى
أو تَرى
وطْأةَ الحيّ فوق الثرى
في وضوحِ خيالٍ يَطيفْ
وترى
صحوةً في الكرى
وكرًى في عيون الصُحاةِ
فتوقنُ أنّ الحضور غيابٌ
وأنّ الغيابَ حضورٌ شفيفْ

 قد تشيم مخايله في الوجوهْ
أويُهيب بسمعك هاتفُهُ
وتُهيب به
و تشقّ اليه
نُثارَ البنفسج فوق الرصيفْ
أتُراه هنا ؟
أم تُراك هناك ؟
ربّما،
بين حدّيْنِ نحنُ نُقيمُ
على حدّ نَصْلٍ رهيفْ

الغياب حضورٌ نزيفْ

الغيابُ نقيضُ الغيابْ
فلا شيء قد ينسَخُ الآن
أنّا التقينا،
وإنْ صدفةً،
عند هذا الممرْ
ومضينا معا فوق هذا الترابْ
وأنطنا قناديلنا بالقمرْ
وأضاء لنا منه وعْدٌ وأمْرُ
وحبٌّ وذكرى وخمرُ،
ذاك زادُ المسافر في شهر أيّارَ
عاجَ على دارةٍ بالمَصيفْ

الغياب  حضورٌ  مُنيفْ

حضورُ الذي يتبدّى ويخفى
ونحسَب أنّا نراه هنا أوهناك
كأنْ نتوقّعَ في أوّل الفجْرِ
خُطوته في الرِواق
ونلمحَ في غفوة الظهرِ
في نظرة القطّ نظرته
ونُصيخ الى صوته اذ يغِطُّ
وقد يعبر البيتَ رفُّ جناحٍ
فنُسْلم أرواحنا  للرفيفْ

الغياب حضورٌ كثيفْ.



الحالم


الحالمُ الذي مضى
مخلّفا في ذِمّتي
نَجمتَه المُنْكدرهْ

رفيقيَ الذي أوى
معي إلى الغارِ
ووافانيَ عند الشجرهْ

صاحبيَ الذي بكى
لمّا رأى الدربَ خلاءً
رصَدتْهُ السحرَهْ

الأعزلُ الذي قضى
في صُحبة الوحشِ،
وظلّتْ روحُه المنكسرهْ

ترِفُّ عند هامتي
كنجمةٍ ميّتةٍ
عند مياهٍ كدِرهْ

الحالمُ...
لم ينبُتِ الربيعُ فوقَ قبرهِ
ولم تُغرّدْ قُبّرَهْ






















الغريق

ولم أَنْسهُ يطفو ويرسبُ تارةً   ويظهرُ للرائينَ ثمّ يغيبُ
البحتري

هلْ طفا فوق فراغ هائلٍ؟
بعد لأيٍ فتّحَ العينين
لاشيءَ...سوى رَجعِ الهديرْ

كم تُرى مرّ عليه
وهْو ثاوٍ بين ماءٍ وسماءٍ
جسدا لوّحَهُ لَفْحُ الهجيرْ؟

أين منه الساحلُ الآخَرُ؟
لا أرضَ لكيْ يحلمَ  بالأرضِ
ولا طيرَ مدى العين يطيرْ

منذُ حينٍ هبط الليلُ
وهزّتْ رِعدةٌ أوصالهُ
حين أسرى حذوَهُ جسمٌ ضريرْ

هو ذا يُدْرك أنّ الوحْشَ آتٍ
لا تعاويذَ ولا أسماءَ قد تُنْجي
من الوحش المُغيرْ

أطبقَ الليلُ عليهِ
!كم هو الكونُ بلا معنى   
!وكم أنتَ وحيدٌ أيّها الكونُ الصغيرْ 

نَظرةٌ  شاردةٌ
عَقَبَتْها نظرةٌ باردةٌ
قبل أن يُسْلِمَ للقاع الأخيرْ.
















القصيدة السوداء

                        إلى سَمِيّي الذي أوْدَتْ به غَضْبةُ الخبز...
                                                        وكان نِسْيا منسيّا.

دَعْنا إذن نـمــضِ إلى الجـنــوبْ
آن وقـــد أَمَـــضّــها القُـــعــــودْ
أن تـصـهل الـروحُ على دروبْ
يصـهـدها لـظى شمـوس سـُــودْ

فـها هـنـا قـد شـرب الإسـفـلـتْ
روائـــحَ الــدمــاء والبـــــارودْ
وبـارك السـاحـرُ خبزَ الــموتْ
وأطــعــم الثـاكـلَ والـجــنـــودْ

وأنـت حـيث تسْــبُتُ الــبــذورْ
فـي مـهدها وينْـغــلُ الجــســدْ
مـرّتْ ولم تـأبَـهْ بـك الجــذورْ
فـي رحـلة العَـودِ إلـى الأبـــدْ

كـأنّ شــيـئا كان لــم يــكــــنْ
لا خـبـزَ لا خـمـرةَ لا نســـاءْ
ومـا هـنـاك أو هـنــا عــــدَنْ
انْـخـسـفتْ أرضُك والسـمــاءْ

لكن عـزائي حــيثُ لا عــزاءْ
أنّ الحـيـاةَ حـيــثُ لا حـــيــاةْ
تكـنُسُ حـول الـدارةِ السـوداءْ
ما طـوّحتْه الريـحُ من رُفــاتْ

مذْ بانَ عـند الشرق نـجمٌ آفـِلْ
وانطفأتْ في الأعين الشموسْ
وعرّشَتْ خَشْــخاشةُ الدواخِـلْ
وهَـمَـدتْ نيرانُـها المـَـجــوسْ

فلو بـلغـتَ مثـليَ الخـمـسـيــنْ
لَنُــؤتَ مثـلـي الآن بالذنـــوبْ
وربّما استَـخَـفَّـكَ الحــنــيــــنْ
وصحتَ"فلْنمضِ إلى الجنوبْ"











spleen 

أو
رباعيّات للمدينة، ماي 2011





لـسـتُ أدري لــمـاذا المــديـنـهْ
وهـي تـلْــقى بـقــانـي الـورودْ
والأغـانـي وضافـي الــوعـودْ
موعدَ السـبتِ، تـبـدو حـزيـنـهْ

ثَــمَّ شــيءٌ يــهـيجُ الســواكــِنْ
نَـــزَقٌ يَــســـتــخـــفُّ الأنـــاةْ
يُـطلـقُ الـعـابــرون الـنــكـاتْ
تَــبْـسِـمُ الـفــتــيــاتُ ولــكـــنْ

فــي السـمـاء الخــفـيـضـةِ ما
يجعلُ الروح تُذكي الـحـنـيـنْ
فـي الـهــواء ركــود يـَـريــنْ
فــي الــمــدى زرقــةٌ إنّــمــا

تَــرْشَـح الـزرقـةُ الـغـائـمــهْ
مـــطـــرًا لا نــــــــــراه ولا
تـسـمـعُ الـجَـكَــرَنْـدا إلـــــى
قــرْعِ أجـراسـه الـهـائــمـــهْ

للـبـنـفـسـجِ وقْــعُ الشــجـــنْ
وهو يرسبُ فوق الرصيـفْ
ولأَيّـــارَ رَجْــعُ خـــريـــفْ
نَــدَّ عــن دوَران الـــزمـــنْ

ضجّ صوت:إلى أين نمضي
صوبَ رُوما، أجاب الرفيقْ
أنّ  آخـر: أخـشـى الطريـقْ
لستُ أدري إلى أين تُـفضي

والـمـؤرّخ قـرب الـكـنـيسـهْ
يـتـهـجّـى كـتـاب الـحـجـــرْ
ذاهـلا وهـو يـقـفـو الـخـبــرْ
عـن فـصـيـلـة دمِّ الـفـريسهْ

والخـطـاطيفُ عـند المغيبْ
تـتـهـاوى ولا مُـسْـتــقَـــــرْ
أو تُـرنّـقُ فـوق الشـجـــــرْ
وهـي تـرْسم شكل الصليبْ

فـي السـمـاء يلـوح الهـلالْ
مِنْجلا في انتظار الحـصادْ
والـذيـن بِــحُــبِّ الـــبــلادْ
أَتْرعوا الكأس منذ الزوالْ

فرغوا. وتجوبُ الـمديـنـهْ،
مــتــلاعــبـةً بـــالــــورودْ
والأغـاني ورجـع الوعـودْ
آخـرَ اللـيـلِ، ريـحٌ حزينـهْ
























النُّحام الورديّ




تـتْـركُ الــمـرْجَ إلــى نَــزٍّ وطـيــنْ
     حيثُ تَذْرو الجُلـّنـارْ
ما الذي استهواك في الماء الحزينْ
     أنـتَ من وردٍ ونـارْ

يُـخْـرِفُ الـوقـْتُ فـتـأتـي والـغـمـامْ
     بـاذلا للـمـِلْـحِ لونَـكْ
 يـا طــيــر النُّـحــامْ!أيّـهـا الـورديّ
     ربّما أهدرتَ حُسْنَكْ

مـثـلـه أحْـرى بـه الـفـصـلُ الـبديـعْ
     أيـّها الطيرُ الأنـيـقْ     
أم تُـرى بالأمـس واعـدتَ الـربـيـعْ
     ثـمّ أخْلفتَ الطـريـقْ

جـارتِ الـريـحُ وجـاراها الـجـنـاحْ
     فاطْوِ يا صاحِ الشراعْ
نـحـن لا نـمـلـك تــوجـيـه الـريـاحْ
     أيّـهـا الـطـيـرُ الـوداعْ






















النّحام 2




أُ رجُـــوانــيٌّ فــورديٌّ فـــأسْـــوَدْ
      مُفْرَدٌ والثوبُ شتّى
      أيُّ أثــوابـكَ أنــتَ
حين تَعْرى في مرايا الماء أَوْحَدْ؟

أُرجــوانٌ أو رداءٌٌ مــلَـــــــكـــيُّ
      مُخْملٌ قانٍ وخـمـرُ
      موقدٌ يَزْهَرُ. جـمـرُ
ولـسـانٌ مـن لـهـيـبٍ قِــرْمــِزِيُّ

ودَمٌ سـال عـلـى الأبيـضِ. وَرْدُ
      يتمشّى في الـمـيـاهْ
      كـلّـمـا شــعَّ بـهــاهْ
يتوارى الليلُ في الماء، ويبــدو

في خوافيكَ. أَمِنْ أسْوَدِ مـائــكْ
     صِرْتَ ليلا في الدواخِلْ؟
     أم تُرى لونُكَ حائلْ؟
آهِ. ليتَ الوردَ ما تحتَ ردائـكْ
















تنويعٌ على ليل امرئ القيس
تمرينٌ في الوصف


تطاولَ الليلُ علينا دمُّونْ
امرئ القيس


                                                            
ليلٌ كموج البحرِ
ليلٌ بلـون الحبـرِ
ليلٌ كسُودِ الطيرِ
   ليلْ...


ليلٌ كموج البحْرِ قادمْ
ليلٌ بِلَـون الحبر قاتـمْ
ليلٌ غُـرابـيُّ القــوادِمْ

ليلٌ كموج البحر قادمْ
   غيرُ خافِ
ليلٌ بلون الحبر قـاتـمْ
   بلْ وجافِ
ليلٌ غـرابيُّ الـقـوادمْ
   والخَوافـي
   ليلْ...

ليلٌ كَمَدِّ السـيـلِ
ليلٌ كَدُهْمِ الخيلِ
ليلٌ سليلُ اللـيـلِ

ليلٌ كمدّ السـيـلِ
فاضَ عن الضفافِ
ليلٌ كدُهمِ الخيـلِ
تُمْعنُ في الـفـيافـي
ليلٌ سليلُ اللـيـلِ
بـلْ لـيـلٌ خُـرافـي
   ليلْ... 

لـيـلٌ وأهــونُـهُ شــديــــدْ
ليلُ الذئابِ على الوصيدْ
لــيــلٌ وآخــرُهُ بــعــيــدْ

لـيـلٌ وأهــونُـهُ شــديــــدْ
   ليـلٌ مُـصـافِ
ليلُ الذئابِ على الوصيدْ
   والنجـمُ غـافِ
لــيــلٌ وآخــرُهُ بــعــيــدْ
   فـمـا يُــوافـي
   ليلْ...

ليلُ الفتى الملكِ الطريدْ
لـيـلٌ يُـقـاسـيـه وحــيــدْ
أنّـى يُـزجّـيـه الشـريـدْ؟

ليلُ الفتى الملك الطريدْ
   إلى المنافي
لـيـلٌ يُـقـاسـيـه وحــيــدْ
   لاَخـلَّ وافِ
أنّـى يُـزجّـيـه الشـريــدْ
   من القوافي؟
   ليلْ...

















بيتُ القصيد
أوْ
محاولاتٌ لاقتناص مشهدٍ واحد

-1-
غيمٌ على غيمِ
وكان المَرْجُ مِن أردِيَةِ الضبابِ في حِجابِ
لا خُضرة  قد تجتلي العينُ سوى
ذُ ؤابةٍ طَفَتْ على سحابِ
فَرعٌ سما إلى السما
لكن بلا جِذْعٍ
ولا جذرٍ
ولا ترابِ
شُجيرةُ العراءِ في سديمها
فُلكٌ على بحرٍ من الضبابِ

-2-
غيمٌ على غيمٍ رسا
فالجوّ في سحابِ
والمرجُ في سحابِ
لا خضرة تلوحُ للرائي سوى
ذُؤابةٍ طفَتْ على ضبابِ
فرعٌ سما إلى السما
لكن بلا جذعٍ
ولا جذرٍ
ولا ترابِ
شُجَيْرةُ العراء في سديمها
كالفُلْك في أكفنة العُبابِ

-3-
غيمٌ على غيمٍ رسا
فالجوّ في حجابِ
والمرجُ في حجابِ
لا خضرة قد يجتلي الرائي سوى
ذُؤابةٍ علَتْ على ضبابِ
فرعٌ سما إلى السما
لكن بلا جذعٍ
ولا جذرٍ
ولا ترابِ
شُجيرةُ العراء في سديمها
أم خيمةٌ حطّت على سحابِ؟

-4-
غيمٌ على غيمٍ
(...)
شجيرةُ العراء في سديمها
أو رايةٌ تخفُقُ في السرابِ

-5-
(...)
شُجيرة العراء في سديمها
أم رايةٌ نِيطَتْ على سحابِ؟

-6-
...................................
...................................














بيت القصيد
أو
محاولاتٌ لاقتناص مشهدٍ واحد
(إعادة توزيع)


غـيـمٌ على غـيمِ وكان المَرْجُ مِنْ        أردِيَةِ الضبـابِ في حِـجـابِ
لا خُضرة  قد تجتلي العينُ سوى        ذُؤابـةٍ طـَفَـتْ عـلى سحـاب
فَـرْعٌ سَـمَا إلـى السـما لـكـن بـلا        جِــذْعٍ ولا جــذرٍولا تــرابِ
شُـجَـيـرةُ العــراءِ فـي سـديـمـها         فُلكٌ على بحرٍ من الضبـابِ
























أخبار مَدْرَج الريح








إلى الذين أحدثوا الشعر وسمَّوا الشعراء
إلى هؤلاء المنسيّين، الرواة


















"ومدرج الريح من شعرائهم"
                             لسان العرب



"وإنّما سمّي مَدْرجَ الريح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنّه يهواها من الجنّ وأنّها تسكن الهواء وأنّها تتراءى له."      
                                                                         الأغاني











ديباجة


أريد بادئ ذي بدء أن أوضّح لك، أيّها القارئ، أنّ ما تقرأه في الصفحات التالية ليس لي فيه غير النقل وشيء من الترتيب والتبويب. ولا أرى داعيا إلى أن أثقل عليك بذكر الملابسات التي أوقعت بين يديّ المخطوط الغريب الذي نسخت منه أخبار الشاعر عامر بن المجنون المسمّى مَدرج الريح. ولكن لهذا المخطوط حكاية لامناص من أن أقصّها عليك، أيّها القارئ، حتّى تقف على علّة ما قد يلوح لك فيه من اضطراب فلا تحملْه على تقصير منّي ولا تُلقِ تبعاتِه عليّ.










حكاية مخطوط


شاءت الصدف أن تجمع إبّان اندلاع أحداث أفريل 1938 بتونس ثلاثة من الطلبة المتآلفين في بيت أحدهم غير بعيد عن جامع الزيتونة حيث كانوا يزاولون تعليمهم. ولمّا كانت السلط الاستعماريّة قد شدّدت الخناق على المدينة  وكان الجندرمة يقبضون على كلّ مشتبه فيه فإنّهم اضطرّوا مكرهين إلى ملازمة البيت طيلة أيّام.وكان الشيء الوحيد المتاح لهم لتزجية الوقت ومدافعة الملل، بعد أن استنفدوا أحاديث السياسة واستفرغوا ما عندهم من طرف ونكات، "كتاب الأغاني".
وإذ كان هؤلاء الفتية من المتأدّبين الظرفاء المولعين بالأخبار والأشعار، فقد تداولوا على قراءته بشغف حتّى انتهوا إلى خبر الشاعر المسمّى مَدْرَج الريح وعشقه الجنيّة التي تسكن الهواء. وكان أبو الفرج قد اقتصر على هذا الخبر اليتيم وأرجأ سائر أخباره إلى موضع آخر من الكتاب. ولمّا استهوت حكاية هذا العاشق المجنون الجماعةَ فقد جدّوا في البحث عن هذا "الموضع الآخر" ولكن دون جدوى.
ونالت الخيبة من حماس الفتية فرغبوا عن مزاولة القراءة وعاودهم الملل وكاد يستبدّ بهم الخمول لولا أن عنّت لأحدهم فكرة لاقت هوى في نفوسهم. فلقد أزمعوا على سدّ هذه الثلمة وإكمال ما بدأه أبو الفرج وسها عن إتمامه. فطفقوا يولّدون أخبارا عن مدرج الريح وينحلونه أشعارا. وما كانوا ليجدوا في هذا اللعب  حرجا فهم على حدّ تعبير أحدهم يزاولون صناعة قديمة. والحقّ أنّ تسليمهم ببعض النظريّات الرائجة آنذاك عن الشعر الجاهلي، رسّخ لديهم الاعتقاد بأنّ ما ينسب إلى الشعراء القدامى من أشعار وأخبار إنّما هو من وضع الرواة.
ومهما يكن الأمر فقد ترك الجماعة غبّ الحصار كمّا هائلا من الأوراق المتناثرة هنا وهناك في جميع أنحاء البيت. وكان على صاحبه أن يرتّب هذه الفوضى فحزم ما عدّه صالحا منها في رزمة بعد أن خطّ في أعلى الصفحة الأولى، وقد ارتسمت على  شفتيه ابتسامة ماكرة، العبارة التالية :" استدراك ما فات الإصفهاني من الأصوات والأخبار في الأغاني". ثمّ ألقى بالمخطوط في صندوق خشبيّ كان يحفظ فيه أمتعته. ولم تكن حكاية مدرج الريح بعد ذلك سوى ذكرى تعَْرض في أوقات التندّر والفكاهة، قبل أن تدفع بها تقلّبات الحياة والأحداث المتسارعة في البلاد إلى زوايا النسيان القصيّة.
وكان هذا هو المآل المفترض لرزمة الأوراق لولا أنّ الصدف شاءت مرّة أخرى، وبعد ما لا يقلّ عن نصف قرن، أن يعثر عليها في الصندوق الخشبيّ نفسه، ولكن هذه المرّة في قرية جنوبيّة على مشارف الصحراء، شابٌّ هو حفيد الطالب الذي أضاف صحبه خلال تلك الأيّام العصيبة من شهر أفريل.وكان الزمن قد فعل فعله في المخطوط إذ تَلِفت معظم أوراقه وامّحى المداد في مواضع كثيرة منه. غير أنّ الشاب الذي ورث عن سلفه ولعه بفنّ الخبر وموهبة النظم، بذل ما يكفي من الجهد لقراءة المخطوط أو بالأحرى ما بقي منه وقد أدرك أنّه تأليف جماعيّ واستطاع أن يميّز خطّ جدّه من سائرالخطوط. وقد أباح له نزقه الموروث أيضا،على ما يبدو، أن يكمل ما انقطع من النصّ ويعلّق عليه بل زاد فوضع عن مدرج الريح أخبارا ونحله أشعارا. وكان وهو يفعل ذلك يعتقد بدوره أنّه يزاول صناعة قديمة.  




































استدراك ما فات الإصفهاني من الأصوات والأخبار في الأغاني












صوت

حُبّي ابنةَ  الجنّيّ لم تـتّـســعْ      أرضٌ له ولم تسَـعْـه سـمــاءْ
ماذا سؤال الإنس عن دارها      والدار بالجوّ فرحبِ الفضاءْ
يـلــوح مـنـهـا أثــــرٌ دارسٌ       وأسْطرٌ مرْقومة في الهـواءْ
فـكـلّـمـا رُمـتُ حـلـولا بـهـا      عرجتُ في الجوّ كأنّي الهباءْ
ولم أزلْ في الجوّ مُستدْرَجا       حـتّـى أوافِـيهَا بـفـجّ الخـفـاءْ


خبر


حدّث رجل من بني عامر قال: عشق مدرج الريح جارية من بنات الجنّ فكان يهذي بذكرها ويقول فيها الشعر ويهيم على وجهه في القفار. فكان يغيب  عن أهله ردَحا من الدهر حتّى ييأسوا منه ثمّ يظهر في حيّ من أحياء بني عامر. فيقبل عليه القوم يسألونه عن أمره فيخبرهم أنّه كان في بعض نواحي الجوّ عند ابنة الجنّي فيتركونه وقد أيقنوا فسادَ عقله. ويجاريه في حديثه من الفتية من يريد العبث به فيسأله: وكيف عرجت في السماء؟ فيقول: ركبت الريح.



خبر

 حدّ ث الراوية العامريّ قال : أخبرني غيرُ واحد من رعاة الإبل أنّ مدرج الريح كان يَرْقُب الأعاصير ويسأل الرعاة عن أوان هبوبها. فإذا هبّت لاذوا بالأودية واعتصموا بكهوف الجبال واتّقَوها بما استطاعوا. أمّا هو فكان يلقاها كالمشغوف بها. قال: وأخبرني راعي إبل قال: شاهدتُ مدرج الريح وقد أقبل على إعصار فدخل فيه حتّى غُيّب  عنّي ومكث ساعة لا أراه.فلمّا سكن الإعصار ألفيته طريحا فأتيته وإذا هو مغشيّ عليه. فنضحت على وجهه ماء فانتفض وأخذ ينشد:
حُبّي ابنة الجنّيّ لم تتّسعْ     أرضٌ له ولم تَسَعْه سماءْ
الأبيات.






















صوت


تَلَبّستْ جسمي فإنّي لها      جسمٌ وقد أضحتْ ليَ الروحُ
فكيف لا أغدو على إثرها    حيث غدتْ مَدرجتي الريحُ



ويروي من زعم أنّ عامر بن المجنون إنّما سُمّي مدرجَ الريح بهذا الشعر:

تـلبّـسـتْ جـسـمي فإنّي لـها      جسمٌ وإنّ روحها روحي
فكيف لا أعرج في الجوّ إذْ      تعـرج إنّي مـدرجُ الريحِ












صوت


لابنة الجنّيِّ قصفٌ  ومرَحْ       في رحاب الجـوّ مـا دارَ قـدَحْ
كـلّـمـا بـشّـرنـي مـُرْسَـلُـها       هـشَّ للريح فـؤادي وانـشــرحْ
فـإذا مـا فـاتـنـي مـركـبـُها        طرتُ محمولا على متن قُزحْ




خبر


زعم الراويةُ العامري أنّ مدرج الريح لم يقل شعرا إلاّ غُنّي فيه. وذلك أنّ الجنّيّة التي كان يهواها تصْنعُ في كلّ أبيات يعملها  لحنا وتطرحه على صبية الجنّ فإذا أخذوه أوعزَتْ إليهم أن يُلهموه أساتذة الغناء من الإنس فيفعلون. ولم تزل كذلك حتّى شاع شعره بين الناس ورُويَ.
قال: فلمّا استوحشت الجنّيّةُ من مدرج الريح وسخِطتْ عليه أَنْسَتِ الرواةَ شعره وأخْملتْ ذكره.









صوت


صادني سليلُ مَهـا         لا تطيش أسهُمُها
السـمـاء مـنـزلـــه          والنجومُ أكرمُـها
داره مــجـافــيـــةٌ          ضلّ من يكلّـمُـها
جــنّـةٌ مـعـلـّـقـــةٌ          كيف لي تجشُّمُها
عـلـّتي مُـخـامِـرةٌ          لـم أزلْ أُكَـتِّـمـها
في الضلوع ثاويةٌ         لا يَبين معْظـمُـها
والدموعُ جـاريــةٌ         في الفؤاد أسْجمُها
ساء قولُ عاذلتي:        "واهـمٌ ويُوهـمـها"
عظّم الورى حَجَرا       كيف لا أعظّـمـها
والضياء عنصرها      والبهاء  مِـيـسـمُـها
لا أزيـدها صـفــةً       كيف لـي تَـعـلُّـمُـها
والـبـلـيغ تُعـْـجـزهُ       والفحول تَـعْـدَمـها
مَن يرومُ صورتَها       فــاتــه تـوهّـمُــها
فـالـدنُـوّ يُـبْـعـدهــا       والبِـعـادُ يـقْـحِمها
والمـثـولُ يَحْجُبهـا       والغيابُ يرسمُـها
لوْ جَلَتْ لها صفـةٌ       في المياه أرقُمُـها



خبر


حدّث الراوية العامريّ، والخبر مصنوعٌ لا يخفى التوليدُ فيه، قال: عشق مدرجُ الريح الجنّيّة وهو غلامٌ ناهدٌ وكان حسنَ السمت وله وَفْرة. وكان أوّلُ عشقه إيّاها أنّه ورد ماء يريد أن يسقي بعيرا. فلمّا أشرف على الوِرْد حرن البعير وأبى أن يتقدّم. فعقله ودنا من الحوض يستجلي الأمر. فتراءت له في الماء صورةُ جارية كأنّها الشمس أشرقت فيه. فتطلّع إلى الجوّ فإذا ورقاءُ قد صعّدت فيه حتّى غابت عنه. فارتدّ ببصره إلى الماء فلم يجدْ للجارية أثرا. وظلّ ساعة يقلّب بصره من الماء إلى السماء ومن السماء إلى الماء حتّى صُرع وخرّ مغشيّا عليه. فأدركه فتية من الحيّ وهو على تلك الحال فاحتملوه إلى أهله. ولازمته الحمّى أيّاما فكان يهذي بكلام لا يفهمه أحدٌ عنه.
فلمّا أبلّ تاقت نفسه إلى الجارية فكان يقعد عند الماء لا يحوّل بصره عنه فلا يرى فيه غير صورته. فبينا هوكذلك يوما من الأيّام إذ أقبل عليه من قاع الحوض غلام على ظليم فسلّم وقال له: أبشر أبا خولة، وكان أوّل من كنّاه بهذه الكنية، أنا عامر الجنّيّ قرينُك وقد جئتك برقيتك. فقال: وما هي؟ فأنشده:
صادني سليلُ مها     لاتطيش أسهمُها
الأبيات.
فكان ذلك أوّل شعر نفثَتْه الجنّ إلى مدرج الريح.   











صوت


وريـمٍ رمـيـتُ عـلى غـرّةٍ       فلمّا أحسّ بسهـمـي رنا
إلـيّ بـلـحْـظٍ بـه صـادنــي       كأنّي رُميتُ بسهمي أنا
وكم من قنيصٍ غدا قانصا      وجانٍ على نفسه قد جنا






خبر


زعموا أنّ مدرج الريح رمى ظبية فلمّا نفذ السهم عن القوس أحسّت به ورنت إليه فتذكّر بلحظها صاحبته الجنّيّة. فعدا إثر السهم يريد الإمساك به قبل أن يُدركها. فلم تزل الظبية تروغ عن السهم وهو يعارضها ومدرج الريح خلفهما حتّى أمسك بقُذّة السهم ونجت الظبية.







صدى


ويحك جدّي أتنسب إلى مدرج الريح ترّهات أبي حيّة النميري وما عرف الناس أكذب منه؟ فإذا صحّ أنّ أخيل وهو سليل الآلهة لا يستطيع إدراك السلحفاة فكيف يدرك النميري السهم. ولو كنتَ عشت إلى زمننا هذا لوقفتَ على حقيقة الخبر الذي ذهب أدراج الرياح.
قال الراوي: فلم تزل الظبية تعدو والسهم إثرها ومدرج الريح إثر السهم. وظلّ ثلاثتهم كذلك ساعة من الزمن. وبغتة أدرك منشئ الخبر- وكان، لأسباب تتعلّق  بعجزه عن حلّ مفارقة  المتأخّر الذي كلّما جدّ في اللحاق بالمتقدّم ازدادت المسافة الفاصلة بينهما، قد انتهى إلى التسليم بمفارقات زينون الإيلي عن الحركة - أنّ هذه الحالة قد تستمرّ دهرا ، لأنّه إذا لم لم يكن بوسع أسرع عدّاء في أثينا أن يلحق بالسلحفاة فليس للسهم أن يدرك الظبية ولا لمدرج الريح أن يمسك بالسهم ولو كانت الجنّ له ظهيرا. وما إن أدرك ذلك حتّى كفّت الظبية عن العدْو وسكن السهم في الهواء وثبت مدرج الريح في موضعه دون حراك.
وإذ انتفت الحركة بقيت الحكاية بلا نهاية. ولم يجد صانع الخبر مخرجا من هذا المأزق. فانشغل بالنظر إلى العابرين وكان قد دأب على الجلوس للكتابة صباحا في مقهى تطلّ واجهته البلّوريّة على الشارع الرئيسي بتونس العاصمة . وبينا هو كذلك إذ بعشرات الفتيات يخطرن أمامه وقد ارتدين التنانير ونادين بشعارات لم يتبيّنها. وإذ رأى تلك التي كان يدعوها غزالته بينهنّ تذكّر رسالتها الإلكترونيّة التي أخبرته فيها بدعوة مئات التونسيّات عبر الفايسبوك إلى ارتداء التنّورة القصيرة والتظاهر احتجاجا على العنف المسلّط على المرأة التونسيّة وهو عنف لم تسلم منه وفق ما ورد في البيان حتّى المغازلات اليوميّة.واستغرب من إغفاله  الموعد خاصّة وأنّه رأى في هذه الحركة، على خلاف الكثيرين الذين حملوها على الترف الذي أفرزه فراغ فئة من النساء، تعبيرا عن حنين غير معلن إلى الزمن العذري.   
 وهمّ باللّحاق بغزالته لاسيّما وقد لاحظ أنّ شابّا يجدّ في السير إثرها ويسرّ إليها بكلمات كانت تردّ عليها  بابتسامات بدت له أنّها تتصنّع الخفر. وقبل أن يخطو خطوة واحدة في اتّجاه المسيرة تأكّد أنّه، بناء على مفارقة القسمة الثنائيّة، وقد فاته أنّها وجدت حلّها في رياضيّات القرن التاسع عشر، يستحيل عليه إدراك صاحبته، لأنّه قبل أن يقطع المسافة التي تفصلها عنه عليه أوّلا قطع نصفها -أي المسافة-  وقبل ذلك عليه أن يقطع نصف النصف وهكذا إلى ما لانهاية له... وهو ما يعني أنّه لن ينطلق أصلا. وحين فرغ من تأمّلاته انتبه  إلى أنّه لم يتزحزح فعلا عن مكانه.  ونظر فلم يجد للغزالة أثرا فاستبدّ به الوسواس وشغله شأن صاحبته عمّا كان فيه، بل لقد نسي وإلى الأبد أمر مدرج الريح والظبية، فلا غرو  أنّه لم ينتبه إلى أنّ الدفتر الذي كان يدوّن فيه قبل لحظات قليلة الخبرَ قد اختفى ، وكأنّ يدا غير مرئيّة  اختلسته في غفلة منه.
قال الراوي: وليس بمستبعَد أن يكون للجنّيّة يد في ذلك.  





صوت


أفْنينتُ فيها العشقَ كلّهْ    لـم أُبْـقِ مـنـه ولـو أقـلّـــهْ
لو جشّموني وصلَ أخـــرى لم تَطِبْ نفسي بوُصْلَـهْ
إنّي لـعـمـري عـاجـزٌ    عن عشق أنثى غيرِ خولَهْ


خبر


رُوي أنّ أهل مدرجِ الريح  كانوا يأتونه بالجارية كأنّها القمر، ويقولون له: إذا شئتَ زوّجناكها أو زوّجناك انفسَ منها. يريدون بذلك أن يصرفوه عن ذكر الجنّيّة والهذيان بها.فيأبى وينشد:
أفنيتُ فيها العشق كلّهْ      لم أبق منه ولو أقلّهْ
وهي قصيدة طويلة ذهب معظمها.
وزعموا أنّ مدرج الريح سُئل عن خولة هذه من تكون فقال: هي عند الجنّ كليلى عند الإنس، كنايةٌ عن المعشوق وعُوذة لإخفاء الحبيب.


صدى

وفي رواية أخرى  أنّ خولة اسم تواطأ عليه الوزن والقافية. وللناظم، إذا شاء، أن يستبدل به عبلة لولا أنّها لعنترة وعنترة لها. ولكن له أن يقول في رويّ اللاّم:
أفنيتُ فيها العشق بذْلاَ      لـم أُبْـقِ نــزْرا أو أقــلاّ
لو جشّموني وصل أخــــــرى ما أباح القلبُ وَصْلاَ
إنّـي لـعـمـري عـاجـزٌ     عن عشق أنثى غير ليلى
فإذا خرج إلى رويّ آخر جاز أن يقول:
أفنيتُ فيها كلّ وجْدِ      لـم أُبْـقِ للـعـشّـاق بـعـدي
لو جشّموني وصل أخــــرى ما رضيتُ ولو بهندِ
إنّي لعمري عـاجـزٌ      عن عشق أنثى غيرِ دعْدِ
وقد  يقول في روي القاف:
أفنيتُ فيها كلّ عشقي     لـم أبـق مـنـه وكيف أُبقـي
لو جشّموني وصل أخرى ما رضـيـتُ سـواكِ بَلـْـقِ
إنّي لعـمـري عـاجـزٌ     عن عشقِ أنثى غير علْقي
وبلْقِ مُرَخَّم من بلقيس.   وإذا شاء الناظم دأب في تغيير  الأوزان والقوافي حتّى يستبدل مدرجُ الريح بخولة النساء جميعا.

 










صوت


حـيِّ أحياءَ الجــنّ بـالأجــواءِ        وابنةَ الجنّ بالمحلّ الـنـائـي
تتراءى لي دون غيري وأنّـى       يبصر الإنسُ كائنات الهواءِ
لا أسـمّيها إنـّمـا هـي أعــنـي        إذ أكـنّـي بـكـنـيـة الإخـفـاءِ
فهي ليلى طورا وفاطمُ طورا       أو سـعـادٌ أو مـيّـةُ الـعـلـيـاءِ
وهي حينا هندٌ وحينا سُلَيْمـى        والـثـريّـا وعـبـلـةٌ بـالجـواءِ
فلها اسمٌ من كلّ أنـثى مُـعـارٌ       وحَجبتُ اسمَها عن الأسمـاءِ















صوت


أقلّب طرفي في السماء عسى أرى       بأطـرافـها آثارَ رهـطٍ مـن الـجــنِّ
يـلـوح ويَـخْـفـى رسـمُـهـم كلّما بدا       كما يتوارى البرقُ في كنَف الدَجْن
وقـد قـرِحَتْ منّي الجفونُ ولم أزل       صريعَ ابنة الجنّيِّ مذ غرُبوا عنّي
فيـا من رآهـمْ أو رأى مـن  رآهـمُ        ألا خبّرنْ عنهمْ سلِمتَ من الـبـيْـنِ

















صوت


ما لابنةِ الجنِّ جافَتْ بعد أن وصلَتْ        وانحلّ من حبلها ما كان معقـودا
سحابةٌ مطَلتْ مـن بـعـد أن هـطَـلتْ        والماءُ غار وكان الوِرْدُ مورودا
كـأنّـنـي إذ أشـيـمُ الجــوّ مـرتـصـدا         كـمن يحاول أمرا ليس موجـودا
العشقُ وهـمٌ جميلٌ قـد شُـغـِلْـتُ بـه         ومـا أرانيَ حقّا كـنـتُ مـعـمـودا
وقــد يُـصـدّقُ مـَرءٌ مـا تــوهّــمــه         وقد يُري عينه ما ليس مشـهـودا


خبر

زعم  راوية بني عامر أنّ لصاحبة مدرج الريح أختا كانت تكثر من لومها في عشقها آدميّا وتقول لها: ما لكِ وللإنس يهرمون ويعتلّون ويُهلكهم الدهر. أتتركين بني عمومتنا كانّهم الدراريّ  وتتعشّقين إنسيّا هامةَ اليومِ أو غد. فتقولُ لها: إنّما أعشق منه الروح والروح لا يموت. فتنكر عليها قولها وتسألها: وهل يعشق روحَك؟ ثمّ تنشد:
غرّها منه في الهوى ما ظهرْ     ربّ جـنّـيّـة غــواهــا بــشَــرْ
حسبتْ أنّـه صـحـيـحُ الـهـوى     والهوى عنده رهـيـنُ الـنـظرْ
صـورةٌ أصـْبَـتْـهُ فـهـامَ بـهــا      إنّـمـا يَـعـشَـقُ الأنـامُ الصورْ
دون أرواحــها وأنّــى لــهــمْ       أن يرَوا أمرا لا يراه البصرْ

ولم تزلْ الأخت تلُجّ في اللوم حتّى أزمعَتْ صاحبة مدرج الريح أن تتبيّن أمره فقالت لأختها: لقد أرسلتُ إلى عامر من يُحضره. فإذا جاء تحوّلي إلى صورتي وتراءَيْ له وحدّثيه طويلا ثمّ أطمعيه في نفسك وسأمكث قريبا منكما لأرى ما يصنعُ. فأجابتها إلى ذلك وتصدّت لمدرج الريح وقد عزمت على إغوائه فحدّثتْه بما يُصبي القلب وعرضت عليه الوصل. فلمّا همّ بها برزت له صاحبته وقالتْ : أغدرًا يا إنسيّ. فبُهِت وأطرق برهة لا يَحير جوابا ثمّ أنشد:
أنَّى أميّز منك أختَكِ إنّمـا      سيماكِ سيماها وشكلك شكلها
والدلُّ دلُّكما بسمْتٍ واحدٍ       والدار دارُكما وأهلك أهـلُـها

ونظر فلم يرَ لهما أثرا. قال العامريّ: وكان ذلك آخر عهده بالجنّيّة.
























قال مدرج الريح وقد يئس من الجنّيّة وبطُل همّه منها،وهو بيتٌ يتيم وليس فيه غناء:

كلِفتُ بلا شيءٍ وحاولتُ لاشيئَا              وأُبْتُ بلا شيءٍ فأَعْظِمْ به فيْئَا


خبر



 حدّث العامريّ قال: سُئلَ حمّاد الراوية عن أغرب بيت قالته العرب فحضره قول مدرج الريح:
كلِفتُ بلا شيءٍ وحاولتُ لاشيئَا              وأُبْتُ بلا شيءٍ فأَعْظِمْ به فيْئَا
فسأله بعضُ من حضرالمجلسَ: لمَنِ البيت؟ فقال :لمدرج الريح. فسأله : ومَن مدرجُ الريح؟ فقال: شاعرٌ ذهب شعرُه ولا أعرف له إلاّ قولَه:
لابنةِ الجنّيّ في الجوّ طلَلْ     دارسُ الآياتِ عافٍ كالخلَلْ
دَرَسَتْهُ الريحُ من بين صَبًا    وجنوبٍ درجتْ حينا وطَـلْ
صدى

وزعموا أنّ ابن أبي عتيق قال لمّا أُنشد هذا البيت وقد حسب أنّ قائله يشكو رقّة الحال ومنع العطاء:  مَن كان هذا شعره استَوجب العُدْم. أما كان ينبغي أن يقول كما قال الشاعر:
اليومَ أبْرَدْتُ الجوانــــــــحَ ليس أخلى من فـؤادي
وحفِظتُ من طمع يدي    ويئستُ من حِفْظ العبادِ
وعلــمـتُ أنّ الـعِيَّ أنْـــــــفـقُ في موازين الكسادِ


صوت

حسْبيَ اللاّشيءُ من كلّ شيءِ       لا يُوقّرْ كاهلي أيُّ عـبْءِ
ليميني عِـدْلُ حِـمْـل شِـمـالـي        وشمالي  لم تُحمَّلْ بشيءِ
إن تبُـؤْ نـفـسي إلـيّ بـنـفـسي        فلقد باءتْ بأعظـمِ فَـــيْءِ


خبر


حدّث راويَة بني عامر قال: كان مدرجُ الريح بعد أن اختلستْ الجنّيّةُ عقلَه لا يُلبسُه أهله ثوبا إلاّ خرّقه وخرج على الناس كما ولدته أمُّه. فيقولون له يا أبا خولة، وكانت تلك كنيته، لِمَ لا تأتزر. فيقول: ولكنّي مؤتزر. فيسألونه: بمَ؟ فيُجيب: بلا شيءٍ. ويُمِرُّ كفّه على جسمه كأنّما يلامس ثوبا يراه هو ولا يراه الناس. قال: ولم نرَ قبله من اصطنع شيئا من لاشيءٍ.




صدى

ولم نر بعده مَن اصطنع  شيئا من اللاّشيء  إلاّ أبا العتاهية. فقد حدّث الجاحظ قال حدّثني ثُمامة قال: دخلتُ إلى أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلاشيء. فقلتُ كأنّك رأيته يأكل خبزا وحده. قال: لا. ولكنّي رأيته يتأدّم بلاشيء. فقلتُ: وكيف ذلك؟ فقال: رأيت قدّامه خبزا يابسا من رقاق فطير وقدَحا فيه لبنٌ حليبٌ فكان يأخذ القطعةَ من الخبز فيغمسها في اللبن ويخرجها ولم تتعلّق منه بقليل ولا كثير. فقلتُ له: كأنّك اشتهيتَ أن تتأدّم بلاشيء. وما رأيتُ أحدا قبلك تأدّم بلا شيء.




صدى

علمتُ أنّ أديبا فرنسيّا جليلا تعلّقت همّتُه بأن يكتبَ كتابا عن اللاّشيء  فلم  يُفلح. ويبدو أن لا أحد أفلح في ذلك حتّى نجم في تونس المحروسة من المتأدّبين من يزعم أنّه يكتب بالممحاة على ورق بلا رأس ولا ذيل نصّا بلا نحو ونحوا بلا نصّ. فقلت  لعلّه ظفر بالمطلوب وأصاب المرغوب. وقصدت  المتأدّب وسألته أن يذكر لي بعض عناوينه فقال لي إنّ كتبه بلا عناوين ولا متون ولا هوامش وإنّما هو يبدأ رواية ولا يكتبها وليس من شأنه أن يركّب جملا مفيدة. ودلّني على مكتبة اقتنيت منها مؤلّفه الأخير وقرأته من أوّله إلى آخره ومن آخره إلى أوّله فلم أظفر منه بشيء.
فقلتُ حقّا هذا هو اللاّشيء  ولم يبق إلاّ أن تجود علينا القرائح بكتاب عن اللاشيء. ولم يطل انتظاري فقد أصدر بعض النقّاد الذين برعوا في فهم كلّ شيء دراسة جاء فيها أنّ أديبنا كتب نصّا افتراضيّا ينهل من العدم مباشرة حيث الاسم بلا مسمّى والمعنى بلا معنى والكتابة لاكتابة. عندئذ زال عجبي وأدركت أنّني إذا لم أظفر حتّى بخفّي حنين من قراءة الكتاب فلأنّ مضمونه افتراضيّ لاوجود له إلاّ في حقل الفراغ المشترك  بين النصّ المرقون والكاتب المجنون والقارئ المغبون. ولئن فاتني إدراك الفرق بين أن يبدأ الأديب رواية لايكتبها وأن يعجز عن كتابة رواية فإنّني في المقابل تبيّنت أنّ حجّام المقامة الحلوانيّة لم يكن به مسّ من الجنون وإنّما هو سلَفُ أديبنا وقد سبقه إلى السوبرحداثة بقرون. فترحّمت عليه.









صوت

ربّ يومٍ ظَـلْتُ فـيه بين قومـي          ومساءً صِرتُ في الجوّ الفُساحْ
عند بنتِ الجنّ في خير وِصالٍ          بــيــن نُــدمـان وأقـــداحٍ وراحْ
لَسْتُ جـنّيّا ولا طـيـرا ولــكــن         رِيشَ لي مِن طائر الشوق جناحْ

حاشية
الشعر لو علموا أمضى من السيفِ، في حدّه الحدّ بين الصدقِ والزيفِ. وإنْ هذه الأبيات إلاّ نظم فإذا انطوت على  بعض الفضل فالأولى به شاعرُ وادي النمل حين قال فاستوفى المعنى كلّه بأوجز عبارة وألطف إشارة:
لم نكن جنّا ولم نعلم سوى    أنّنا طرنا بشوق معلَنِ
وإنّما جاريتُ جدّي في هذا اللعب حتّى لايدّعيَ ناظمٌ فضلَ أدب.





خبر

حدّث الراوية العامريّ قال : لمّا فُقد مدرج الريح وطالت غيبتُه التي لم يكن له بعدها عَودٌ شاع في بني عامر أنّ الجنّ استطارتْهُ. وذلك أنّه لمّا اشتدّ عليه هجْرُ الجنّيّة وغلبتْ عليه السوداء كان يأتي حوضَ الماء الذي تراءت له فيه أوّل مرّةٍ، ويظلّ يطوف به ويتمثّل ببيت المجنون الآخر:
ألا يا طبيبَ الجنّ ويحكَ داوني       فإنّ طبيبَ الإنسِ أعياهُ دائيَا
ولم يزَلْ طولَ يومه يردّده حتّى يُصرَع ويخرّ مغشيّا عليه. قال: فلمّا طالت  عليه هذه الحال رقَّ له طبيبٌ من الجنّ فأرسل  من أخذه إلى بلاده.



صدى

وفي روايةٌ أخرى أنّ مدرج الريح لم تستطره الجنّ ولكنّه اعتلّ بعد أن هجرته الجنّيّةُ حتّى لم يبق منه سوى خيال ولم يعُدْ يَقْوَ حتّى على المشي فكان يُحْمل كما يُحمل الصغير. فلمّا أحسّ بدنُوّ الأجل اشتاقت نفسُه إلى الطواف بالبيت. فحمله فتية من قومه وطافوا به حوله. فكان كلّما احتكّ به بعضُ الطائفين ذهب منه شيء. فلم يُتِمّوا الطواف حتّى تلِف ولم يجدوا له أثرا . فكأنّما تبخّر في الهواء كما يتبخّر الماء.

















الفهرس


منمنمات
سوناتة
لغو الظهيرة
صوَر
البيت
مذاق الغياب
الحالم
الغريق
القصيدة السوداء
Spleen أو رباعيّات للمدينة، ماي 2011
النحام
النحام 2
تنويع على ليل امرئ القيس
بيت القصيد، أو محاولات لاقتناص مشهد واحد
أخبار مدرج الريح









هناك تعليق واحد:

  1. جميل ما نشرتموه في هذه المجلة. هي نصوص تحتاج إلى ساعات من القراءة والفهم والتذوق. وأنا أميل إلى التذوق أكثر. غنها ثمار الأدب ملونة وجميلة وطيبة المذاق. كالقهوة نترشفها على مهل. لا بد من العودة إلى هذه النصوص. تحياتي للدكتور عبد القادر العليمي وللشاعر فتحي نصري

    ردحذف