الأحد، 21 يونيو 2015

***(من الرواية)


الأصدقاء في كلّية الآداب كثر كأن لا عداوة أو أحقاد في هذا العالم. الأعداء أكثر من أن يحصى عددهم كأن لا صديق.... 
في منوبة الحبّ والكراهية قيمتان من جوهر واحد. ألم يكونا كذلك عند بداية الخلق ثمّ طوّحت بهما الطرق فافترقا كلّ إلى سبيل؟
إنّ التعايش بين الخير والشرّ في هذا المكان لشدّما أدهشني، ومن واجبك العاطفيّ - هنا - أن تختار أصدقاءك بعناية ثمّ، تتكفّل بإعدائك. إذا أسقطت ذلك من حسابك أو توانيت ولم تكن حاسما، فيجب أن تعرف أنّك من الخاسرين.
منوبة صراع النوازع البشرية وتناقضاتها في مكان مسيّج: الخير والشرّ، النجاحات المدوّية والإخفاقات الفاجعة، التأمّل الصافي والتوجّس، الأمل المحفّز و الهواجس الدامية، يسر الحياة وعذوبتها ثمّ، القلق والوحشة والريبة من الذات والآخر، من كلّ شىء وأيّ شيء.
فكيف يمكن أن يجتمع كلّ هذا في مكان واحد، ويصيب الجميع في آن واحد؟
منوبة فضاء يراوغ المتعيّن والممكن والمستحيل. يتفصّى من الحقائق ليعانق الوهم الذّي يشبه الحقيقة، ولأنّ العكس صحيح أيضا فإنّ كثيرين مرّوا من هنا وأطلقوا على المكان اسم "العالم المنوبي"، قالوا بتأكيد لا يقبل الدحض: "المكان يختزل العالم وقد يلغيه...يقوم شامخا ممتلئا بأسراره كأن لا عوالم عداه. هو نسغ الأشياء الأوّل، وهو البداية والرحلة والمنتهى.
* * *
على جانبي الدرب الممتدّ من "سيدي عمر" إلى كلّية الآداب تنتثر حقول اللّوز والمشمش والتين. على مرمى البصر تمتدّ السهول الخضراء المبذورة قمحا وشعيرا وذرة. تتجاور "سواني" الخضروات بانتظام، تتصدّر واجهاتها أسيجة واطئة لحمايتها من عبث المتطفّلين من المارّة وطلبة كلّية الآداب تحديدا. بيوت الفلاحين صغيرة، متناثرة، لا بهرج فيها، يغلب على طلائها الجيري اللّون الأبيض في انسجام مع الامتداد الأخضر الّذي يحوطها.
رغم الأسيجة وعيون الفلاحين المتربّصة كثيرا ما كنّا نتسلّل نحن الطلبة إلى تلك الحقول نقطف ثمرها حلوا وحامضا. نجني خضرها حتّى نعدّ طعامنا بأيدينا عندما تكون الأكلات التي يقدّمها المطعم الجامعي رديئة، وفي الغالب ما تكون كذلك. كنّا في بداية الشباب وفورته، وحوشا حقيقيّين، مقدامين ومغامرين. العواطف جيّاشة، الأجساد قويّة وطيّعة والحياة قدّامنا، فممّا نخشى وممّن نخاف؟
أعضاء "شلّتنا" كانوا من مختلف مناطق البلاد، شمالها وجنوبها: المهدية وبنزرت وسوسة والمنستير والقصرين وقفصة وتوزر والكاف وسيدي بوزيد و القيروان وقابس وغيرها من المدن الكبيرة والقرى الصغيرة و"الدشر" والأرياف...كنّا شتات أمزجة وطبائع، ولكن جمعنا المكان ووحّد بين نفوسنا. جئنا للدراسة، ولرغبتنا في "ضمان" مستقبل واضح كما يقول الآباء وتردّد الأمّهات بحكم العادة وبمناسبة وبغير مناسبة، وذلك لإيمان راسخ أنّ الدراسة هي سبيل النجاة الوحيد من براثن العطالة والخصاصة والفقر، هي فقط من تضمن الوظيف و "المسمار في حيط"، كناية عن الراتب الشهري الثابت.
هكذا جئنا، ولهذه الأسباب نحن هنا في كلّية الآداب منوبة تحديدا.
الآن، وبعد انقضاء هذه المدّة الكافية للنظر إلى تلك الأحداث التي وقعت منذ أعوام بعيدة بحياد معقول، الآن سأروي لكم ما حدث بالضبط ...
**
عبد القادر عليمي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق