الكُـرْسِـــيّ الهَـــــــــــزَّاز..
رواية:
لآمال مختار
في النهاية،
أجدني دائما وحيدة!
وحيدة حتى
العزلة،أرتب في بيت نفسي أشيائي، آلامي وأحزاني، أفراحي وجنوني.
لماذا إذن،
أحتاج أحيانا وبشدة، الى ذلك الأحد/الآخر الذي أعرف جيدا أنه لن يستطيع أبدا أن
يكون أنا، وأنني سأظل في حضرته وحيدة !!!؟؟
الفصل(1)
لم تتحسّن حالة والدي. كما أنّها لا تَعِدُ بأي تحسن قد
يجيء به القدر ذات لحظة من لحظات العطاء
الإلاهي..
ظلّ حامد عبد السّلام نصف جثة ممدّدة على السرير، أو
جالسة على الكرسي الخاص بالمعوقين بعد أن كان يجلس على كرسي العظمة في مملكته
الصغيرة.
في أماسي الصيف أجلسه على كرسيه، أدفعه أمامي حتى
الفرندا أسقيه شايا منعنعا كما يحبّ.. وأنتظر أن يمهد لي ذلك طريق الغفران.. أجلس
على الدرجة الثانية من الدرجات الثلاث التي تربط الفرندا بالحديقة وأسترسل في حديث
القربان.. أركّب لطيف الكلام لأتسلّل في غفوة من صده الى قلبه الذي كنت أتربع
فيه.. ثم طردني منه ذات لحظة هي غباء القدر..
أحدثه عن الجيران والأحباب الذين يسألون عنه بالتلفون
بعد أن ملّوا زيارات المجاملة فكفوا عنها.. بينما يسرح هو بنظراته في الحديقة التي
جفت أزهارها ونباتاتها.. ثم يحوّل بصره المخذول الى الأقفاص الفارغة بعد أن أطلقتُ
عصافيرها التي كان يربيها..
هل كنت رحيمة بالعصافير فمنحتها حريتها، بينما كنت قاسية
معه فأطلقت الى قلبه السهم تلو السهم؟.. وبعد أن كان والدي - ومنذ أن استفاق وعاد
من المصحّة إلى البيت-ينظر في عيني بتحدّ، وبسؤال ساذج: لماذا فعلت ذلك؟ قرر فجأة
أن يكفّ عن النظر إليّ فأصبح كلّما حدثته
يغمض عينيه، أو ينظر بعيدا عني.. لا يشير ولا يردّ، لا بيده ولا بنظراته على
ثرثرتي المتدفقة كنهر في محاولة يائسة للغفران..
ظلّت نظراته الأولى التي كان يحدجني بها معلّقة في
الفضاء كخنجر سينفلت في كل لحظة لينغرز في روحي.. فيسيل الوجع على خدود القلب
دموعا سوداء.. أغرق في بركة الصمت، وألوذ بالتهويم. أدلّي صنارة يأسي علّني أفوز
بالنسيان.
إلا أن قراره كان الذبح..
إنّه كعادته قادر على القطع حتى وهو بارك في العجز.
في السنوات الأخيرة قبل الحادثة ذبحني بسكين صمته.. لم
نكن نتحدث إلاّ في الشؤون العامة للبيت والحياة التي تجمعنا بحكم هذه العلاقة
الواضحة حتى الإبهام: الأبوة !
ما معنى ذلك؟
أحمل الإرث الجيني دون أن يكون لي حول ولا قوة.. وأحمل
الإرث الأخلاقي الذي رضعته مع الحليب منذ كنت عجينا إنسانيا يصنعون مني ما
يشاؤون.. وأحمل إرث الاسم دون أن تكون لي فرصة الاختيار.. ولما يشتد عود عقلي
أنتبه فإذا بي تابعة لشخصية أخرى منفصلة عني جسديا لكنّها تكاد تكون أنا.. ومطلوب
منّي الطاعة.. ولا شيء غير الطاعة وإلا اتحد الجميع ضدي لاتهامي بالعقوق.. وسط هذا
الاستعمار اللّطيف وهذا الحصار العاطفي الحنون أين أنا؟ أين شخصيتي.. وأين
استقلاليتي؟..
ولأنه لا بد لهذه الشخصيّة من النمو، فإنّها ستفعل ذلك
وسط الحصار كالنبتة الطفيليّة تماما.. ستنمو مضغوطة بلا ضوء ولا هواء لتمتدّ وتأخذ
حجمها الطبيعي، لذلك غالبا ما تكون هذه الشخصيّة غير سوية، قزمة، مليئة بالعقد..
هل أنا كذلك؟..
الآن هاهو يأخذ قرار مقاطعتي.. من غابة ضعفه الكثيفة
يضفر سوط قوّته من جديد ليجلدني.. منذ انتبهت وجدته لا يفعل شيئا سوى أن يلف جسدي
بالاهمال والحرير.. ويجلد روحي بالسوط.
في خلوتي أرفع الرداء تلو الرداء فتتبدى الروح مختومة
بوشام الذكرى..
يوم عثر عليّ ألعب مع أبناء الجيران.. و يوم مزقت صفحة
من أحد كتبه بالمكتبة لأستعملها في ملف مدرسي.. و يوم شكتني أمّي إليه لما اكتشفت
أنّي قصصت شعري الطويل وتزينت بمكياجها..
كم تمنيت لو أنه ضربني بيده أو بعصاه بدل أن يضربني
بسياط كلماته ومحاضراته الطويلة التي أظل خلالها أرجف كالقصبة في العاصفة بينما
تهطل أمطار الخوف بين فخذيّ..
تسبق القسوة كلماته فتفتح لها الطريق مباشرة الى أرضية
روحي الطفلة الهشّة.. تتوغل الكلمات حارقة.. تلتصق بالروح.. فتظل منقوشة.. أقرؤها الآن
بوضوح شديد فتعود اليّ تلك الرجفة.. وتهجم الرغبة في التّبول.. فأسرع الى الحمام..
أقترب من حافة الانهيار والسقوط المتعمّد في العدم.. رمق
أخير مازال صامدا يسند بقايا رغبة في المقاومة..
وقع الحادثة التي أكتمها ولا يعرفها إلا مراد ومحمّد..
قرار والدي بالقطيعة.. وحدتي .. عزلتي.. وابتعادي حتّى عن مجدي.. كل ذلك أسقطني في
تلك المنطقة الوسطى التي أمقتها.. وأكره المشي المتعثر فيها بين ضباب الحيرة
وسذاجة التردّد.. فماذا أفعل؟
منذ وقوع الحادثة، منذ ثلاثة أشهر.. تكمّشت روحي
فتقوقعتُ عليَّ.. انقطعت تماما عن الحياة
بعد أن انتحرت رغبتي في كل شيء.. أردّ على بعض المكالمات ببرود أو بصمت.. أستقبل
بعض الأقارب والأحباب في ذهول.. والكلّ يغرقني في طوفان من المجاملة دون أن يدري
ما حدث في أعماق هذا البيت الذي كتب له أن يمتلئ دوما بالصمت وبكلام الإحساس فقط!
هتف مجدي طالبا زيارتي له فرفضت.. كنت أعلم جيدا أنه لن
يمنحني الأمان الذي أنشد.. ولن يغدق عليّ الطمأنينة التي أتوق إليها.. منذ أكثر من
سنة فقدت الأمان والطمأنينة الى جانبه.. وفي المرات القليلة التي أخضع فيها للرغبة
المجنونة فألاقيه كان يسكنني هاجس بأن خطرا ما سيداهمني في أيّة لحظة. أصبحت أرى
لا مبالاته وأنانيته عاريتين وسط خشخشة ثرثرته لما كان يغادر صمته ولوحته ويتكلم..
لم أحس بحاجة إليه في أزمتي.. وحتى حين لجأت إليه لما كان والدي بالمصحة وقضيت
أسبوعا في بيته، فإن ذلك لم يكن بدافع البحث عن وتد يسند روحي المهشّمة.. بل كان
بدافع الهروب من موقع الحادثة، من بيتي.. العادة
وحدها أخذتني إليه.
لما عدت الى الجامعة بعد شهر من الغياب زارني مراد أحد طلبتي أكثر من مرّة في مكتبي.. أعلمته بما
حدث في الزيارة الأولى، ثم أصبح الصمت يوشّح اللقاء.. كنت أغرق في بركة من الإحساس
بالذنب والشفقة بعد أن ألقيت به معي في دوامة الجنون، هو الذي لم يتهيّأ بعد لدخول
المعمعة.. لقد انتشلته من بساط أحلامه لأقتل ابتسامته على شفتيه وأضع على وجهه
ملامح الحزن والكآبة..
لقد بدا لي أنّ السرّ الذي دفنته في قلبه بدل العشق الذي
كان يصبو إليه أكبر من جسده الفارع.. وصدره العريض.. أما هو فكان يدخل.. يجلس
قبالتي على الكرسي.. يدخّن، بعد جهد.. وبعد أن يتسلق ربوة الصمت ألف مرة يفلح
السؤال في الخروج من بين شفتين انطفأتا وظلّتا جثة لا تجيد غير الكلام . : " هل تحسنت أحوال
الوالد؟ ".
أجيبه بهزة من رأسي أن لا .. ويظل رأسي يجيء ويروح ذات
الشمال وذات اليمين كأنه رأس آلي سقط منه البرغي الذي يشدّ حركته..
كنت في تلك اللحظات أتيه في هلوستي.. فيبدو لي أن ما
فعلته مع مراد لم يكن إلا شكلا من أشكال الاعتداء على ذات بشرية عذراء..
تركض هلوستي في شعب الخيال.. فألجمها.. يختفي إصبع
الاتهام الموجّه الى صدري كرشاش.. وتسقط التهمة على البلاط فتتكسر وأسمع دوي
اللطخة فأنتبه.. أوقف رأسي الذي ينفي
الاتهام.. وأقف صارمة.. عندها يدرك مراد أن اللقاء قد انتهى.. فيغادر وهو
يجرّ وراءه حكاية أثقل منه.
كان اليوم خميسا.. عدت الى البيت.. فتحت باب غرفة
والدي.. تطلّع عند سماع الحركة ثم عاد سريعا الى ظلامه، ولم أكن لأدري إن كان تحت
جفونه نائما أم هائما.. ألقيت نظرة مرتبكة على الكرسي الهزّاز.. عصر قلبي وجع..
أغلقت الباب هاربة ودخلت غرفتي.. بملابسي تمددت على السرير.
تثبت بصري على لطخة سوداء رمادية في إحدى زوايا السقف.. إنها
مياه متسللة عبر الشقوق... لقد كان والدي ينوي ترميم السقف هذا الصيف.. سأنجز
المهمة.. لعل ذلك يفتح لي باب الغفران.عاد
مشهد الحادثة يطرق باب ذاكرتي بعنف و تساقطت علىّ صوَرُه متقاطعة..
يروح الكرسيّ الهزّاز و يجيء فارغا في حركة مجنونة ثمّ
تتواتر عليه الأجساد و
تشتبه عليّ الوجوه..
وجه أمّي منطفئا و حزينا.. وجه مراد مرتبكا و ذاهلا
..وجه والدي فزعا و
قاسيا.. وجهي مشرقا تارة و غائما تارة أخرى ..
تقترب الوجوه حتّى التّشوّه و تتناءى حتّى تصبح نقطة في
آخر النفق المظلم.
تنغرز أصابعي تمزّق قميص مراد تنهش الجسد المتوتّر..
يطلّ والدي ... تشتدّ حركة الكرسيّ في غدوّه و رواحه..
تتصاعد ألسنة اللّهب و يتخدّر الجسد برقصة الموت..يلفظ الكرسيّ الأجساد التي
أثقلته .. ثلاثة أجساد ملقاة حوله كأنّها الجثث. وتتلاشى حركته شيئا فشيئا .
ينهض جسد والدي كالمارد من رماده و يصرخ ثانية.
حدّقت في ما حولي فزعة مرتعشة .. وقد تيبّس حلقي وجفّ
ريقي.. بدا لي أنّي غفوت للحظات أفسد متعتها كابوس لم يبق منه إلاّ الوجع.. تطلعت
الى الساعة.. قفزت الى الأرض.. أحسست بضعف قواي ودوار حتى إني كدت أفقد توازني..
تشبثت بحافة السرير وجلست عليها..
بعد أن تماسكت.. ذهبت الى المطبخ.. أفرغت في جوفي ما بقي
في القنينة من ماء بارد.. توجهت الى مكتبي.. شكّلت رقما هاتفيا.. يرن الجرس هناك..
لا أحد يردّ.. يبدو أن محمّدا غادر مكتبه.. لا بد أنه يجلس مع رفاقه في الحانة..
أخذت حقيبة يدي ومفاتيح سيارتي وأسرعت أبحث عنه.. كمن يبحث عن دواء ضروري في
صيدلية الليل.
توقعت أن يكون في حانة "السان جورج".. حدثني
عنها مرات فهي تذكره بشبابه الأول وبأيام الصعلكة.. لذلك يخبئ لها هذا الوفاء رغم تراجع مستواها أمام حداثة
الحانات في الفنادق.. هناك يلتقي بمجموعة أخرى من الأصحاب الحميمين، غير أولئك
الذين يلقاهم في حانة "الأفريكا"..
لأول مرة أقتحم المكان. وبرغم تشجيعات محمّد المتتالية
لأرافقه الى هنا فقد كنت أرفض.. ولا
أعرف سببا لرفضي بالرغم من تأكيد محمّد
الدائم بأن هناك العديد من العجائز الأجنبيات المقيمات بتونس يرتدن هذه الحانة..
وكنت أقفل باب الكلام دوما مازحة:
" أتقارنني بالعجائز أيها الشيخ؟! "
تجاوزت الباحة وترددت أبحث عن المدخل. عثرت على باب ثم
ممرّ.. ثم باب آخر من تلك الأبواب المروحية الخاصة بالحانات غالبا.. دفعته..
وتريثت بعده بخطوات.. تطلعت أمامي أبحث عن اللحية الرمادية.. جلب حضوري انتباه
نادل فجاء مهرولا، وسائلا بنوع من الاستنكار:
- تفضلي!!..
بدا لي الفضاء أقل بشاعة مما صوّره لي خيالي. فإذا به
مطعم أقرب منه الى حانة رجالية شعبية .. لم يكن مزدحما ، كانت الطاولات المشغولة المغطاة بمفارش صفراء قليلة
بينما ظلّ أغلبها شاغرا..
انتبهت للنادل منتصبا أمامي كعلامة تعجب فطلبت منه أن
يبلّغ السيد محمّد بلحاج أن هناك من يطلبه.
لفّني النادل النحيل بنظرة شاملة ووقحة أدارتني في
الفضاء كالقصبة بينما وصلني ردّه متأخرا وقد خلّفه وراءه :" لحظة ..."
من إحدى الزوايا جاء محمّد مهرولا بجسده النحيف ولحيته
الرمادية التي تسبق أنفه العريض الفزع حيث تجلس نظراته في هدوء.
رفعت يدي مشيرة إليه قبل أن يقف أمامي تماما مهدئة من
فزع أنفه الذي ترفّ أرنبتاه.. ولما اقترب مسك يدي وضغط عليها بعنف حتى كاد يكسر
أصابعي.. وبين القبلتين على رماد لحيته أطلقت صوتي في شبه همس:
" اشتقت إلى ثرثرة لحيتك وسخرية صلعتك! "
ابتسم حتى بانت أسنانه الصدئة.. ثم ضحك فتعرت أضراسه
البنية المسوسة وقال وهو يجرني الى طاولته: " فقط ؟ ".
سحبته في حركة مضادّة أوقفت اندفاعه وقلت: لنغادر إلى
مكان آخر.
مرّر كفّه على صلعته كأنه يمسح عنه التردد.. ثم قال:
"سنجلس هنا. الحانة شبه خالية.. وهذا ركن قصيّ.. لن يزعجنا أحد.."
كنا قد بلغنا الطاولة.. جلست.. استأذنني محمّد دقيقة قصد
خلالها أصدقاءه في الركن المقابل.. وجاء بسترته وسجائره.. جلس قبالتي.. تطلّع إلى
وجهي وحدق في عينيّ طويلا.. ثم اتكأ على ظهر الكرسيّ وقال:
- كأنّ الأمور
بدأت في التحسن؟
قطع النادل كلامه سائلا:
- سي محمّد ماذا تشرب؟
كرّر عليّ محمّد السؤال. فقلت: "قهوة".
التفت إلى
النادل وقال:
- اثنتين من البيرة الباردة.
ثم التفت إليّ وقال:" ستنعشك ".
ظلّ عنادي خاملا ولم ينهض مشاكسا كعادته..
وضع النادل زجاجتي البيرة الخضراء على الطاولة فنزل
بردهما قطرات ماء على المفرش الأصفر.. قبض
محمّد على واحدة في غير انتباه
لمائها المندلق وقال:
- نعم، أستمع إليك..
ألقيت برأسي المثقل إلى الوراء.. ألحقتها بكأس البيرة
وشربت مرة واحدة نصف الكأس.. تتبعت توغل المشروب في أعماقي من خلال برودته.
تنهّدت. مسحت فمي. و همست : " تعبت ، تعبت.إن ما حدث كان بمثابة القطرة التي
تسببت في الطوفان.. لقد اندلق كل شيء بعضه
على بعض.. ولم تعد الفوضى داخلي مرتبة على طريقتي.. لقد امتزجت كل التفاصيل حتى
غدت الحكاية بلا معنى.. وامتزجت كل الروائح لتصنع رائحة نتنة تحاصرني حتى
الاختناق..أكره فكرة الانتحار.. لكنّها لا تكفّ في ليالي العتمة والأرق عن التزيّن
لي.. وممارسة فعل الغواية عليّ. لم أخضع لها بعد.. لكني أهمس بيني وبين ذاتي
المهشّمة لم لا؟ "
قاطعني محمّد :
- ما هذا الخراب بأعماقك ؟ أنا الذي تكهنت أن الأمور في
طريقها إلى التحسن.. فكرة الانتحار؟.. أنت
المتشبثة بالحياة حتى الجنون، بفكرة وجودها حتى العبث تستسلمين لغواية الانتحار
الساذجة.. أبدا لا أصدق.. لا أصدق.. ما الذي يستحق هذا السواد الذي تلفين به
روحك.. حادثة يمكن أن تقع لأي إنسان آخر..
وماذا بعد؟.. هل هي نهاية الكون؟ تمزق رداء الصمت صدفة بينك وبين والدك
فشاهدك عارية مع أحد طلبتك على الكرسي
الهزاز. ليست النهاية. وهو ليس الإلاه الذي سيحاسبك.. هو إنسان.. وأنت أيضا.. وإذن
أين هي الكارثة التي تهوّمين فوقها.. انزعي عنك هذه الأوهام.. وتعاملي مع ما يحدث
بحكمة الصبر. ولا تجعلي الأمر قضية عاجلة
يجب حلّها والتخلص منها تماما الآن
.. إنّ الغفران الذي تبحثين عنه عند والدك
لن يمنحك إياه أبدا.. أبدا لن تعود العلاقة بينك وبينه كما كانت. ثم لماذا تبحثين
أنت عن الغفران.. لماذا لا تتركين الأمر للزمن يصنع ما يشاء. وعودي أنت إلى ممارسة
فعل الوجود كما كنت.. عودي أنت كما كنت مع ذاتك.. ومع الحياة.
ترقرق الشراب باردا ومعه تسلّل كلام محمّد الذي لم أستطع
بلعه. قد يكون في كلامه منطق.. لكن معطف النصح الذي ارتداه أفزعني.
أحبّ المعاطف الأنيقة الطويلة التي تمنح الرجل رشاقة
الوقوف وخيال الغموض.. أما معاطف النصح فإنّي أمقتها..
لقد قصم الشرخ
البيت ولن تعود العلاقة بيني وبين والدي كما كانت . أمّا أنا فقد قررت أن أهدم
البيت.. بعد أن فشلت، وبعد أن خسرت المعركة .
الفصل(2)
كان المساء صيفيا منعشا.. ورغم ذلك رفض أبي بعناده
الخروج إلى الفرندا.. وظلّ في فراشه يشاهد التلفزيون..
كنت في المطبخ أعدّ حساء البقول للعشاء.. رنّ جرس
الهاتف. في الرنّة الثانية وضعت فنجان القهوة التي أترشفها على رخامة المطبخ.
أطفأت السيجارة عند نصفها في منفضة من خشب عين دراهم. عند الرنّة الرابعة كنت في
مكتبي.. وفي الخامسة رفعت السماعة وأنا أهمس لنفسي: "له صبر أيوب".
على الخط كان منجي زميلي بالكليّة. بعد التّرحيب و
السؤال عن حالة والدي الصحّيّة حاول
إقناعي لأعدّل موقفي في شأن مطلبه . أكدت له أن الظرف غير مناسب لمفاتحة أبي في
مثل هذا الموضوع الآن. ورجوت أن تكون زيارته للاطمئنان عليه فحسب.
يا إلاهي. ما أثقل روحه ودمه، وجسده أيضا !كيف فكّرت في الارتباط بهذه "الجثّة؟ " .. كيف
سأحتملها ؟.
عدت إلى المطبخ، وضعت البقول المسلوقة في الرحى
الكهربائيّة. ضغطت على الزرّ. علا الصوت كأنه محرّك سيارة. وفي لحظة تحولت البقول إلى حساء بلون الكبّار. أمّا السلطة
المشويّة التي أحبّها فإني مصرّة على دقها بالمهراس . تقول أمّي رحمها الله.. إنها
تحافظ على نكهتها بالمهراس أفضل من الرحى الكهربائيّة التي تحوّلها إلى عصيدة..
أرى طيف أمّي دوما في المطبخ يرافقني،
يبتسم لي، يربّت على كتفي. أحتفظ بها حيّة في ذاكرتي وقلبي، فأراها متى
شئت. وأختصم معها متى شئت. ما يحزّ في نفسي ويملؤها حقدا على الموت أنه لم يمهلها
حتى تفرح بزواجي. وحتى لو أمهلها كل هذه السنوات منذ أن كنت طالبة وحتى الآن هل
كانت ستفرح بي؟ ولولا هذه الظروف التي جدت هل كنت أقبل فكرة الزواج أصلا؟ لولا
أملي في أنّ أبي قد يرضى ما كنت سمحت للفكرة بأن تتسلّل إليّ. كيف أُمْضي أمام
القانون، وأمام العالم كله على ورقة،
كأنّها عقد بيع وشراء، لرجل غريب كي يتصرّف في ذاتي، وفي رغباتي،
وفي حريّتي، ومع ذلك أخدمه ؟ كيف
وبأي وجه من وجوه الحكمة نفعل ذلك؟ شيء وحيد يصنع الارتباط ويجيزه بين كائنين..
ليكمّل أحدهما الآخر هو العشق.. العشق غير الحبّ والغرام والعشرة.. العشق انصهار
كلي لروحين وجسدين.. في العشق نرجسية
ونديّة، و في الحبّ تضحية، وفي
الغرام حبّ من طرف واحد.. أما العشرة فهي
للصداقة والجيرة و الزواج التقليدي..
قران العشق لا يحتاج أبدا إلىعقد قانوني. إن العلاقات
العاجزة وحدها تحتاج إلى سند خارجي.. أما العلاقات الطبيعيّة السليمة المتكافئة
فإنها تملك سندها في أعماقها.. هذا طيف
أمّي يبتسم لي مشجعا فكرة الارتباط بمنجي.. وأرى أمي تقف أمام الرخامة تقول لي:
" ما باله منجي،
إنّه رجل ككل الرجال، و الرجل لا يعيبه إلاّ جيبه، وجيب منجي عامرة، سيُسكنك في فيلا فخمة، وسيشتري لك الذهب والألماس، وسيشتري لك سيارة فخمة بدلا من سيارتك التي
أصبحت تتردد كثيرا على الميكانيكي،
وسينتشلك من حياة الصعلكة التي انغمست فيها إلى حياة المجتمع الراقي حيث
السهرات في البيوت والمطاعم الفخمة.لا فرق بين رجل ورجل إلاّ بدرجة حبّه لك، لا يهم إن كنت تحبينه أم لا، المهم هو أن يحبك هو، تلك هي السعادة في
الزواج، سيدلّلك، ويخضع لكل رغباتك.
"
أنقطع عن دقّ المهراس وأنظر إلى وجه أمي الصبوح.. وأهمس:
- لكني لا أقبَلهُ.. إنه قبيح رغم شقرته ولونه الأحمر
الذي يشبه لون "التريليا"*[1]..شعره
مجعّد.. عيناه متدليتان بلا شخصيّة، وبلا لغة، شفاهه رقيقة لا تملأ القبلة أبدا..
" جثته " ضخمة لن أحتملها.. رائحته تقرفني، وتحثّ رغبتي على القيء.. "
تمسك أمي بيديّ،
تضغط عليهما، تمرر لي شحنة عالية
من الحنان وتهمس: " ستتعودين
عليه، النتيجة النهائيّة في الزواج واحدة
سواء تزوجت رجلا جميلا تحبينه أو رجلا قبيحا تكرهينه، النتيجة واحدة، عشرة وأطفال" .
وأفزع. أسحب يديّ من طراوة الحنان وأجفل إلى الوراء
وأقول:
" أطفال من
منجي القبيح.. أبدا.. لن يكون ذلك.. "
ويلاحقني طيف أمّي حتى الممرّ: " يا مهبولة.. أطفالك سيأخذون جمالك.. "
جهزت طبق العشاء سريعا كتلميذ تأخر في إنجاز واجبه
وأخذته إلى غرفة أبي. جلست على حافة السرير لأساعده على الأكل رغم أنّه، فهو يرفض
مساعدتي، و لا ينفك أبدا عن تذكيري برفضه لي ولخدماتي.
بعد العشاء جئت
بالشاي. هممت بالجلوس إلى جانبه.. ثم عدلت. عند الباب اتّخذت دون وعي قرارا واضحا.
وإذا بي أتجه إلى الكرسيّ الهزاز وأجلس عليه بثقة عالية. تقلّصت عضلات وجه حامد
عبد السلام. تكمّشت ثم أغمض عينيه كأنّه لن يفتحهما أبدا..
كنت هادئة وقد تساقط عني الإحساس بالذنب الذي كان
يلبسني. لم أحسّ بأي ألم. بل لعلني كنت أشعر بمتعة خفيّة متنكرة في متعة الاهتزاز
على الكرسي..
كنت أعلم أن الوجع كان ينخر قلب أبي في تلك اللحظة
تماما. وكنت سعيدة بعرائه الروحي هذا. لقد كان دوما يخفي إنسانيته وراء بهرج
الأبوّة وعظمة هذا الكرسيّ. أمّا الكرسيّ.. فقد انتهكت قداسته بلا تخطيط. وشرخ مارد الأبوّة. وها هو يتكسّر. وقلبي عامر
بفرح ما. هل هو الكرسيّ الذي منحني القوّة والعظمة والسلطان والقسوة؟ شقّ صوتي
المشهد كأنّه السيف وقلت:
" غدا
سيزورك زميل لي في الجامعة.. سيكون ذلك في السابعة. إنّه الدكتور منجي عزوز يودّ
الاطمئنان عليك."
لم أكن لأحدس كيف تقبّل صوتي وكيف تفاعل مع الخبر في
أعماقه.. لم يفتح عينيه. لعلّه استعاد مشهد الحادثة..
لن أنهض وسأواصل عزف لحن الكرسيّ الذي ظلّ يؤرجحني ويثبت
أفكاري.
وطلع صوتي من عنادي قائلا:
" الدكتور منجي رجل محترم - ورنّت كلمة "محترم
" في أعماقي-. إنه أصيل مدينة القيروان، وهو رجل ميسور الحال، لديه أملاك
وفيلا كأنّها القصر في المنزه السادس وسيارة مرسيدس، وهو مثقّف - ورنّت الكلمة أيضا في داخلي- ، إنه
يودّ الزواج منّي، يكبرني بست أو سبع سنوات، لكنه مازال يحافظ على شبابه رغم بدانته. لقد تزوّج سابقا من امرأة فرنسيّة لما
كان يدرس في باريس لكنّه لم ينجب منها أطفالا . ولأنها رفضت العيش في تونس
انفصلا.. "
اعتقدت أن الخبر سيسعده. وتصوّرت أنّه طالما حلم بزواجي وأطفالي يلعبون في الحديقة. وهو
يركض وراءهم يمنعهم من العبث بالورود والنباتات.. غير أنّه لم يفصح عن رغبته في
زواجي إلاّ بعد أن بلغت الثلاثين. قبل ذلك كان يرفض الأمر بشدّة خاصّة لما كنت
تلميذة مراهقة وبعد ذلك شابة طالبة في الجامعة. إثر تخرجي كان يلوذ بالصمت كلما
طرح عليه أحدهم الموضوع..
بعد الثلاثين،
وبعد أن تشكل نمط حياتي الذي لم يرض به قطّ أصبح يتعجل زواجي..
ظلّ وجهه موصدا، وكأن أمري لم يعد يعنيه، أتزوّج أو أذهب إلى الجحيم سيان عنده، ذلك هو حامد عبد السلام عندما يجلس على القمة
الأخرى، قمّة اللامبالاة والبرود، بعد أن كان يجلس على قمة الأبوّة وحبّها
المرضيّ.
لكني سأتزوج منجي.
أدرك أنني أسعى إلى هوة العدم لكنّي سأفعل، ولأسقط. فبعد السقطات العديدة لم يعد هناك خوف
من التهشم..
لما انتبهت كنت أحدق في صور التلفزيون غير أنّي لم أر
شيئا.. حامد عبد السلام مازال متكورا مغمض الجفنين..
سحبت الكرسيّ الهزاز.. أخذته إلى الفرندا.. كنت أنوي
إعداد قهوة. إلاّ أن الرغبة انتابتني
فذهبت إلى غرفتي أبحث في الخزانة
عن بقايا قنينة ويسكي.. صببت قليلا من السائل العسلي في الكأس، ملأتها ثلجا
وانهرت على الكرسيّ الذي ركض بي سريعا في أرجوحته..
أخيرا أخذت منه الكرسيّ. سلبته تاجه وصولجانه، لأتركه جثة هامدة على
فراش العجز. هي القسوة ؟ لا. هو الانتقام ؟ لا. هي فقط دورة الزمن وقدره.
تسلّل إلى روحي صوت المعلّم وجِنّيُ الموسيقى عبد الوهاب
يغني لي:" أحبّ عيشة الحريّة ".
تعانقت روحي مع صوته وراحا يرقصان رقصة عشق مجنون. انتشيت حتى تفتحت أبواب
الحلم، فرأيتني أبني قصرا أعمدته من
الياسمين وسقفه من الحرير، جدرانه من المرايا، أما السرير فهو الشِعْر. سأصنعه
سريرا مدوّرا واسعا وسأحيط دائرته بستائر ورديّة، سأشعل سبع شمعات: الأولى لي والثانية
له والثالثة للعشق والرابعة للجسد والخامسة للكتابة والسادسة للحياة والسابعة
للموت.
في جذع الشمعدان مجمرة سأملأها بخورا شرقيا، صندلا وندا
وعنبرا، سيعبق دخان البخور حاملا على كفيه رائحة الطيب التي تهيّج الروح.
عندها سأكون قد خرجت لتوي من حوض الحمام المملوء عطرا
ووردا. ستكون أحضان مجدي مهيأة لأستلقي على طراوتها بينما يغطيني ريش حنانه. أغفو
فيحرسني كالملاك. وعندما تدغدغني أصابع رغبته أصحو فيتحول الى شيطان يغويني
بنحافته، وغرّته السوداء المتناثرة على جبينه الأسمر، ورشاقة أصابعه الطويلة
الجميلة المغرية. ولن أتردد في السقوط في غواية الشيطان.
توقف الكرسيّ عن
الاهتزاز. وترك الكأس على فخذي بركة ماء صغيرة باردة، منعشة. نفضت الماء وجففته
بطرف التنورة القصيرة، ثم اتجهت مباشرة إلى التلفون. أدرت نصف الرقم ثم توقفت
وهمست لنفسي:" منذ متى أستأذنه في الذهاب إليه؟ سأفاجئه. الساعة على معصمي
كانت تشير الى العاشرة والنصف ليلا، مازال الليل طويلا ".
تجسّست على والدي. لم ينم. كان ساهما في صور
التلفزيون.سحبت باب غرفته في هدوء كي لا ينتبه. وكذلك فعلت مع الباب الخارجي،
وخرجت. انطلقت سيارتي تنهب طريق المرسى بسرعة مجنونة. ومن جهاز التسجيل كان صوت
العندليب عبد الحليم حافظ يدغدغ روحي : "على قد الشوق اللّي في عيونك ياجميل سلّم".
فجأة تبادر إلى ذهني خاطر: " وإن وجدتها هناك؟
"
اندلق ماء بارد على تهيجي فأطفأه. لما وصلت كانت سيارتها
الرينو الزرقاء هناك. إنّها في الداخل. لعلّهما يتسامران تحت الياسمينة. لن أتراجع
هذه المرّة ولن أخضع كرامتي. كانت عصبيتي جليّة وأنا أركن سيارتي تحت أشجار
الحديقة المتفرعة خارج السور.
تمشيت حتى الشاطئ. وقفت على الصخور. استنشقت هواء بحريا
متوحّشا.. ها إني أعود. وهذا الخيط الذي أجره يأبى أن ينقطع. وفي كل مرّة أجيء
لقطع آخر خيط للوصال فتتأجج النار من جديد. يتسلّم التحدّي ورغبة الانتصار زمام
الأمور فأُصبح مجرّد بيدق بين فكيّ التحدي المجنون.
لن أخدع نفسي. لم أعد أعشقه منذ مدّة. كان الملل والفتور
قد شرعا ينخران عشقنا الذي كان خرافيّا،
ليسقط في براثن العادة، عندما جاءت لتصبّ" بنــزيـــنــا " على
الرماد فتلتهب الجمرات المدفونة ويعود السعير من جديد..
لقد لعبت دور المحرض لنعود في التوغل أكثر في أعماقنا
ولنتأكد أن العشق لا يـؤجج إلاّ في الظروف الصعبة الغامضة الممنوعة دوما..
العشق نبتة بريّة. تكره الرعاية. وتكره أن تكون نبتة ظلّ
في أصّ. نسقيها ماء نظيفا. ونمسح عنها الغبار. العشق نبتة متوحشة تنبت وتصمد وتنمو
في الأحراش، في الأدغال، في الأراضي الوعرة. وكانت هي الأحراش التي يسّرت لعشقنا أن ينمو من
جديد بعد أن كاد يصبح نبتة أهليّة لما فكرنا في
الزواج.
لقد كان عشقي لمجدي الوهم الوحيد الذي صدقته واسترخيت
فيه حتى إنّه زين لي فخّ الزواج. لمّا اصطدمنا بجدار الفكرة ارتد كل منا إلى ذاته
وقد أدرك أن الخطر قادم.
في تلك اللحظة تماما عثر عليها مجدي تتسكّع صدفة في
معرضه، فجاء بها، اقتادها من يدها كطفلة
وجاء بها لتكسّر النظام الذي أصابنا فتعيد الفوضى إلى قلوبنا.
كنت أعدّ قهوة المساء وأهيّئ الجلسة تحت الياسمينة
منتظرة عودة مجدي من زيارته السريعة لمعرضه في قاعة عرض عمّار فرحات بسيدي بو
سعيد.. عندما دخل وهي برفقته.. امرأة
تجاوزت الأربعين قصيرة لكن جسدها جميل، أمّا وجهها فمدوّر وشفتاها غليظتان
متوحّشتان تغريان بقبلة مجنونة. ويبقى أبشع ما فيها جحوظ عينيها المدورتين
وحاجباها القصيران المنتفان ومكياجها السائل. كانت ترتدي فستانا قصيرا مشجرا ولم
تكن جميلة ولا أنيقة.
قدّمها لي مجدي:
- ألفة التركي محامية مغرمة بالرسم..
ثم اقترب مني،
طوّقني بذراعه وقال:
- مُنَى عبد السلام، دكتورة بالجامعة..
ثم ابتسم وأضاف:
- صديقتي جدّا، حدثتك عنها في الطريق.
لم أحسّ بالراحة قطّ. أنذرني حدسى بأن عاصفة ما تهوّم في
الأفق، ستنفجر بعد حين لتحطّم كل شيء.. جلستْ في ارتباك. قدمتُ لها القهوة فابتسمت
ببلاهة. الشيء الوحيد الذي كانت تنجزه بثقة هو الرسائل التي كانت تحمّلها نظراتها لتبلغها الى مجدي الذي كان يداري
التخطيط الذي قد يكون رسمه. أمّا أنا فكنت متشائمة مما سيحدث بينما كان الشيطان
فيّ يهلّل لذلك.
تركت الصخرة التي كنت أجلس فوقها. توجهت نحو الفيلا
الغارقة في الظلام. على الشاطئ كان بعض الناس يتمشون. ومن الدور المجاورة تتهادى
إلى المسامع همهمات الساهرين وضحكاتهم..
اقتربت. تلصصت على الحديقة من خلال السور. إنهما في
الداخل عكس ما توقعت. دفعت باب الحديقة الحديدي بهدوء، لكنه أصرّ على الصرير رغم
محاولتي كتمانه. الفيلا غارقة في العتمة إلاّ بصيص نور خافت نابع من شبّاك غرفة
النوم. الباب الخارجي مغلق. قررت ألاّ أستأذن في دخول بيتي.. فتحت حقيبة يدي. وبحثت طويلا عن المفتاح
الذي لم أعد أستعمله كثيرا حتى أني نزعته من سلسلة مفاتيحي. لم أعثر عليه. وبدأت
أعتقد أني تركته على المكتب في البيت. وأخيرا عثرت عليه. بحذر شديد فتحت الباب.
كنت واثقة ومُقدمة على تجسّسي ... على رؤوس أصابعي، تقدمت في نصف العتمة، على الكنبة في الصالون
رأيت أشياءها مبعثرة: حقيبة يدها، تنورتها " مريولها " على الأرض وعلى الطاولة بقايا عشاء ونبيذ..
هاهي تأخذ كل شيء : مكاني، ورَجُلِي، ومتعتي.. وها أنا أتجسّس سارقة لأخضع شيطاني
للفضول.. أين كرامتي ومبادئي؟
مبادئي ! أيّ هراء !
في أدغال المتعة لا نتعامل بالمبادئ، بل بقانون
الغاب، وقانون البقاء للأقوى.
تجاوزت الممرّ،
باب غرفة النوم موارب تطلع منه الأنّات والآهات مرصوصة في الفضاء تعلن عن
غرقهما في يمّ المتعة.
إنها تسبح في بحري،
وتشرب من كأسي، وتنام في سريري،
وتسكر من رَجُلي.
فجأة طلعت منى امرأة لا أعرفها، أراها لأوّل مرّة .
امرأة سوقية، شرسة، ابنة حارة.. اندفعت منّي وتركتني في الممر فاغرة فمي. بينما
وقفت هي عند الباب ترتعش. تشنشن خيوط الذهب في معصميها.
كان ممددا. وكانت فوقه. كان يدخّن وكأنّ ما تأتيه من
صعود ونزول لا يعنيه. كانت تتأوه. وتئنّ وتلهث وراء متعتها.
في تلك اللحظة تماما انقضّت عليها المرأة السوقية، أنشبت
أظافرها في كتفيها، اقتلعتها بعنف. صرخت ألفة من هول الصدمة والألم ثم نهضت من قاع
الهوة التي سقطت فيها وواجهتني
عارية، الدم ينزف من كتفيها والألم
يـنـزّ من عوائها. حاولت التكلم فلم تقو. تقدمت نحو المرأة السوقيّة التي
"تطرشق" العلكة ودفعتها بكل ما تبقى لها من قوّة. عادت المرأة السوقيّة
إلى أداء دورها. وانهالت عليها ضربا مبرحا،
وشتيمة، ونتفا لشعرها البنّي
الطويل، ثم طرحتها أرضا وغرست ركبتها بين
نهديها وراحت تضرب بين فخذيها وخيوطها الذهبيّة تشنشن وتصرخ معها في وجه مجدي
المذهول:
" هل هي أفضل مني،
أجمل مني، تمتعك أكثر مني، فقط قل
لي؟."
في تلك اللحظة انتبه مجدي من غيبوبته، قفز خفيفا ،
دفع المرأة السوقيّة وخلّص ألفة من براثنها ورماها على السرير كأنها خرقة
بالية.
تقدم نحو المرأة السوقيّة المتكئة على الجدار تتفرج في
لا مبالاة ... نظر في عينيها بحقد أسود ثم صفعها بكف غاضبة عنيفة..
تحسست وجع الصفعة على خدي.. وبحثت عن المرأة السوقيّة كي
تردّ.. فإذا بها قد اختفت.
الفصل(3)
وقفت متوترة أحدق في صورتي في المرآة الكبيرة المذهّبة
المعلقة فوق رخامة المدفأة..
لن أخضع لتحريض كبريائي ولن أنسحب. رأيته في المرآة يقف
ورائي وجهه مبلّل. بيده منشفة بيضاء. جلست على الكنبة. جلس بجانبي. جفف وجهه. سحب
سيجارة من علبتي المارلبورو. ظلّ يدخّن ويتحاشى النظر إليّ. في حين كان ذلك
العِرْق المتشنّج في جبينه مكــتـنزا غِلاًّ يرفّ ويكاد ينفجر. هو يحسن كتمان غيظه
وترويض شراسته.
من غرفة النوم كان نحيبها يصلنا متقطعا. ثقل الصمت. صببت
بعض النبيذ الأحمر في الكأس. شربت نصفها، وعاد الصمت.
بعد زمن أطفأ سيجارته. مرسها في المنفضة المعبأة
بالأعقاب. نفخ وقال:
- لماذا لم تتلفني ؟..
تطلعت إليه بنصف نظرة متعالية وقحة وقلت:
- أجيء هذا البيت متى أشاء، وبلا استئذان.
- هو بيتك، مرحبا بك في أية لحظة، لكن عليك احترامي..
- تعني احترام خياناتك؟
- منذ متى أصبحت تؤمنين بالخيانة وتتحدثين عنها ؟ ألست
المرأة الواعية التي تؤمن بذاتها فقط، وبمبادئها التي وضعتها لنفسها ؟
- أرجوك لن نعود الى هذا الجدل.
- أنا أقدّر الظروف الصعبة التي تعيشينها في بيتك لكن
ذلك لا يسمح لك بإهانتي..
- قبل كل شيء عليك أن تطرد هذه "ال.." لقد
انتهى دورها.. لن أسمح لها بأن تشاركني
فيك..
-كيف أطردها وأنا الذي دعوتها؟.
- اطردها وإلاّ عليّ وعلى أعدائي.. لن أتأخّر الليلة في
ارتكاب أشنع الجرائم.
زاد في الاقتراب مني، حاول احتضاني.. دفعته بعنف وقلت:
- لا تقترب.. اطردها أولا..
عاد الصمت بيننا جبلا يفصلنا ويبعدنا ويفتت آخر ما تبقى
بيننا..
لم يتحرّك، ولم يتكلّم، وظلت أنفاسه تجرح الصمت. فجأة
نقر كعبها جبل السكون. دخلت الصالون. آثار البكاء على وجهها. تجاهلتني ووجهت إليه
الكلام:
- سأذهب.. لا تنس أن كرامتي أهينت في بيتك..
وطلع رأس المرأة السوقيّة مني يصرخ:
- لا تفكري في العودة إلى هنا أبدا، في المرة القادمة
سأحرقك..!!
لم تردّ.. جمع لها مجدي أشلاءها. ارتدت على عجل، وخرجت،
نطّ وراءها، ووقفا بالحديقة. كانت
نبرات صوته التي تهيجني تتسلّل إليَّ، كان يراضيها بالتأكيد. بعد زمن زمجرت السيارة
وابتعد الصوت..
عاد يجرّ ساقي الارتباك في سرواله الدجينز الذي ذهب لونه
حتى اقترب من البياض.. لمّا همّ بالجلوس نهضت في هدوء. أمّا صوتي فقد فرقع في الفضاء كأنّه القنبلة.
" لقد انتهى دورها، ولن أسمح بعد
الآن بحضورها بيننا، أبدا لن أسمح. يجب أن ترحل بدون رجعة لأنني لن أتنازل بعد
الآن باسم المبادئ وحرية الإنسان واحترام الآخر ورغباته.. انس هذا الموّال
والأفكار البالية التي طوقتُ بها أنوثتي طويلا،
لقد كبّلتها من حيث كنت أعتقد تحريرها. أنا امرأة قبل أن أكون دكتورة في الجامعة
وقبل أن أكون امرأة مثقفة تقرأ كثيرا وتحب الشِعر، والأفكار. أنا أنثى تعشق وتغار،
نعم أعلن أني أغار، ولن أخجل بعد الآن، لقد أرغمت نفسي على تقبّلِها فمرضتْ.. وها أنا أكسر القيود
النظريّة التي كنت أكبّل بها أنوثتي. أنوثتي التي اصطفتك عشيقا، واحدا أوحد.. لأنّك وحدك تمنحها المتعة
والطمأنينة والأمان.."
اختنق صوتي عند هذه الكلمات.. لقد كنت أدرك في أعماقي أن
كل شيء انتهى. وأن ما حدث الليلة قد يكون النهاية الحقيقيّة. لأنّني لم أعد أحسّ
بذلك الأمان وتلك الطمأنينة..
غطستُ في نوبة بكاء حادة.. كنت بحاجة أكيدة إلى دموعي كي أتطهّر. كي أغسل قرفي من ذاتي.كي
تعود الخفّة إلى روحي التي ثقلت بأدرانها..
اقترب مجدي. مسك يدي. أحسست بالبرودة رغم حرارة
الطقس.
وهمس: " اهدئي"..
بلغني صوته غريبا، بعيدا ورأيته بشعا قبيحا كأني لم
أعرفه قطّ ..
مسحت دموعي. سحبت حقيبة يدي ووقفت. اتجهت نحو الباب فركض
ورائي: "لا تذهبي هكذا.. نامي الليلة هنا.."
بطرف عيني رمقته، وبخيط من الاحتقار الذي لفّه ولفني
همست بصوت مشروخ مهزوز:
" لا تستحق ذلك ".
كانت طريق المرسى تتلامع تحت الأضواء. وكانت الساعة قد
تجاوزت منتصف الليل. كنت أقود السيّارة ببطء بينما لم تنقطع دموعي، لقد كنت في حاجة الى كثير من الطهر والخفّة.
لمّا دخلت بيتنا،
لفحتني رائحة الحساء والسلطة المشويّة.. المتشبثة برطوبة الهواء فلم تغادر
المطبخ بالرغم من أنني فتحت النافذة قبل
أن أخرج.
الظلام والسكون يغمران غرفة والدي، وتساءلت: هل نام
حقا؟.
أضأت الممرّ، تسلّلت إلى غرفته. وصلتني أنفاسه منتظمة.
دخلت غرفتي استلقيت على سريري. دخنت سيجارة. قمت. فتحت النافذة. سحبت مفكرتي التي
حوّلتها إلى شبه يوميات أو مذكرات. أغلقت الدرج ، وانبطحت على السرير، أورّق
الصفحات لأتوقف عند إحداها وأقرأ..
"فيم
تُفكِرُ الآن؟ سيرقص فرحي، ستعربد روحي لو تعلم أنكَ تفكر فيّ.
كلمات مختلفة الأجناس، سياسيّة، ثقافية، سريالية،
تهويمات ترصفها بعناية وذكاء و خبرة وحبّ.. وتصنع منها جلساتك وتؤثث بها انتظارك.
هل يقتحم وجهي الذاكرة؟ هل يجذب الكرسي ويجلس إليك في
موعد السابعة؟ هل تبوح عيناه بالشوق إلى
الابتسامة، الى الضحكة الكبيرة، والخصلة السوداء على الجبين الأسمر طريق إلى شفاه
مغرية وحميمة، قريبة وبعيدة ؟.
تتباعد جدران الغرفة في الفندق وتحدّق في الدّهشة..
ويمدّ السرير لسانه سخرية.. مشفقا عليّ وعلى ناري الملتهبة التي ستحرق الطريق إليك
وتفرش رغبتي ممشى يأخذك إلى هنا.. هنا جاء
الكلّ في موعده إلاّك..
جلستَ، تشرب القهوة، تعبث بالمعاني، تلهو بالحروف وتكتشف
الانتظار..
موعد السابعة وهم في الغياب.. وانتظار.. هل يقف العالم
على قدميه، هل يعود المنطق إلى الأشياء.. فيأتي الوطن إلى المنفى، والأزمة إلى
الحلّ..و السلم إلى الحرب، وأنت إليّ؟
هنا تزحف السلحفاة مثقلة بالزمن، تحلم بالوصول، تخترق
ضباب الخوف من الوصول، من اللّحظة، من الدمعة التي تتأهب للسقوط.
سأرفع عن عظمك الجاكيت الأبيض، وعن صدرك الصوف الرمادي،
وعن عينيك رداء المراوغة.. سترتعش دفئًا حتى الصراخ.. لا تكتم الصرخة.. القصف صمّ
آذان الأجوار، وأنا ألبّي دعوتها إلى الرقص
- الصرخة- سأرتدي فستاني الأسود المخصّر وسأترك سمرة الكتف اللامعة لأصابع
الصرخة وسنهمس للحلبة برقصة « الفالس ».. سينتشر فستاني مشرقا على
الحلبة.. أجلس على طرفه و أنظر إلى فعل الحياة.. أندس في الضحكة وفي أحرف العبث.
ذلك هو الفعل المشؤوم، فيه نلتقي ومنه يكون الفراق!..
كم مشت السلحفاة؟
إنّها لم تتحرك بعد،
والشيب راودني وتسلل إلى موطن الفعل، وأنت لم تأت بعد. يبدو أنّك هناك في موعد السابعة تجالس
كسلك، تشرب الانتظار وتعتقل الفعل. والرغبة هنا زرعت الورد حتى ذبل، فرشت الياسمين حتى اسودّ، ثم شاب فعاد إليه
بياضه. كنت أعتقد أن التاريخ سيشغلني عنى وعنك. كنت أعتقد أن وجه الإمبراطورية
العظيمة على صفحات المتاحف سينئيني عنك. كنت... وكنت أسأل الدليل الغبيّ : لم كل
وجوه التاريخ سمراء؟ لم كل وجوه التاريخ مختومة بضحكتك الناصعة ؟.
تنهدتُ. كتبت هذا النص لما كنت في سفرة إلى اليونان، كان
ذلك في بداية عشقي لمجدي. سحبت القلم من الدرج. قلّبت الصفحات حتى بلغت واحدة
بيضاء وكتبت لأزيد في ثقل الدفتر بأوجاع روحي وشجنها:
" كأنّي رميت حملا ثقيلا كان يشدني إلى الألم
والارتباك. انتهى زمن الألم اللذيذ، والوجع الذي ألهث وراءه ليبقى راكدا في
الأعماق حزنا غبيا ووجعا أغبى.
من أجل أيّ شيئ أتحمل هذا العبء؟ من أجل اللاشيء، من أجل
العدم.
هل تحمّلتُ ذلك من أجل التردد الذي أكرهه، ومن أجل الأقنعة التي حلّت محلّ الصدق والجمال
والعشق المجنون ؟
لقد دخلنا اللّعبة بوعي اللّعبة وإذا به يحوّلها إلى
حقيقة.
مبروك أيّها العشق،
ها قد فشلت كل الوعود، لقد أعلنتَ أنَّك لن تكون بين الكذب والخداع
والمجاملة والملل.
مبروك، ها قد سقط كل شيء في العدم وأنت كذلك. في لحظة
غضب مجنون حدث ذلك. لكني لم أحس بالخسارة قطّ... كانت أحاسيس الراحة مزهرة بأعماقي
وكان رنين الهدوء كالفضة الصافية".
أغلقت المفكرة. دسستها تحت الوسادة. وضعت رأسي عليها
وتطلعت إلى السقف. تسلّلت يدي لتطفئ الأباجورة. وعندها تذكرت أني لم أعلم مجدي
بقرار زواجي من منجي..
الفصل(4)
سأقتله ! أجل سأقتله!
سحبت ورائي باب الحديد وأنا أتعثر في انكساري وتوعدي له
بالقتل. كنت كالمدمن، أو كمن فقد ذاكرته. مشيت خطوات. توقفت. التفتّ لا شعوريا إلى
الوراء. بدا البيت صامتا، مذهولا ومتكتما على أسراره. أبوابه الزرقاء مغلقة،
نوافذه مشققة وقد ذهبت الرطوبة بطلائه. الأثاث وراءها يطلّ من الشقوق
ويناديني، ثم يرتبك لا يدري كيف يتصرف.
يعترف أم ينكر. يشهد أم يكتم الشهادة !
الياسمينة تكتم بأحد أغصانها دهشتها، بينما تناثر دمعها
أبيض على تراب الحديقة تحت جدار غرفة النوم. هل شاهدت الياسمينة التي تحرس الغرفة
كل شيء؟ هل تروي لي المشهد حيّا كما رأته ؟ فترحم خيالي من حبك السيناريو وراء
الآخر. لعلّه كان أقل إثارة مما تصورته.
عدت فأغلقت باب الحديد جيدا كأنّني أحكم المراتيج على ما
تركت ورائي فأخفيه عنّي وعن الناس.
مطفأة كعقب شمعة ذائبة... مشيت مباشرة إلى كومة الصخور
اليتيمة على شاطئ المرسى الرملي.. أصوات
المصطافين تأتي إليّ بعيدة. بعيدة كأنّها قادمة من أعماق بئر ضيّقة.
أشباحهم تتحرك ببطء في غبش الرؤية التي بدأ يجتاحها ضباب الغيبوبة. تكلّس
الإحساس، وانقطع التفكير، وتوقفت الحواس عن أداء مهامها. الحدث صنع
الفوضى بأعماقي فشلّ كل حركة، وكدت أسقط، لولا ان البحر أشفق عليّ فرشّني بمائه ليوقظني
من غيبوبتي. تعوّد البحر مداعبتي كلّما جلست هنا على الصخرة معه نرقب الغروب.
الموج يذهب إلى البحر ثم يعود إليّ فيشدني ويسألني. ما بك؟ ماذا حدث؟
ينفلت صوت روحي مشروخا، منتحبا، يرصّ الغصّة حينا ويصرخ
حينا آخر: سأقتله. سألقي جثته بين فكيك أيّها البحر لتمضغه طعاما لأسماكك. ستكون
سندي أيّها البحر، ورفيقي الذي لا يخون.
جمّعت ركبتيّ. جلست القرفصاء على الصخرة التي انغرزت
نتوءاتها في لحمي. دسست رأسي في حضني،
وتكوّرت على وجعي، وفي سرّي وجدتني
أصلي للربّ. متطلّعة إليه من شدّة ضعفي عبر شدة إيماني به.
زمجر البحر غاضبا اصطخب الموج عنيفا . فجأة صارت السماء
تضيق وتضيق حتى صارت نقطة زرقاء..
لما أفقت كان الضوء قويا ساطعا في المكان. عدت إلى
ظلمتي، ثم فتحت عينيّ شيئا فشيئا، وانتبهت. كانت النافذة مشرعة ورائحة البحر تملأ
الفضاء. اللحاف الوردي يلفني، على "الكوميدينو" أدوية وأكواب ماء
وشاي وفناجين قهوة بها أعقاب متيبسة ومنافض سجائر معبأة .
حاولت النهوض فضجّ السرير وأزّ الخشب نشازا هو الذي كان
يعزف لحن المتعة كموسيقار عبقري. على الحركة فزع صوت مجدي يسبق قدميه مناديا
بلهفة:
- مُنَى.. مُنَى..
دفع الباب. أخذ بيدي مساعدا إياي على الجلوس. أسند ظهري
بالوسائد القذرة. جلس قبالتي. مسك يدي ثم همس:" إن شاء الله لاباس "
اتسعت ابتسامته معطاء تنصب لي شرك السقوط فيها. أشحت
بنظري. ووصلني إيقاع صوته الذي أحبه:
- هل ترغبين في شيء ؟
أعدت إيقاع الجملة في أعماقي لأتأكد أن إغراء صوته لم
يعد كافيا.
عدت أتصفح وجهه بفضول كأنّي أراه لأوّل مرّة. وجهه أزرق،
سُمرته مكفهرة. العِرْقُ في جبينه متوتر غليظ مشحون بالأسئلة. بدا لي بعيدا،
بعيدا، وصغيرا كأنّه الحشرة تدب على
اللّحاف الوردي الذي بهت لونه.
بعد جهد طلع منّي صوتي فانتفضت لسماعه، كأنّي لم أتكلم منذ دهر، كأنّه ليس صوتي. كأنّي أجمّع الحروف من كومة
اللّغة لأصنع كلمات بلا معنى: " ماذا حدث ؟ "
طأطأ نظره، بعد صمت قال:
- لا أدري تماما، يبدو أنّه أغمي عليك فسقطت على الصخرة
وجُرحت. كنت بالحديقة أبحث عنك وأناديك حين جاء أحدهم ليبلغني ما حدث. قال الطبيب
الذي جئت به: "إنّ الجرح برأسك ليس خطيرا لكنه السبب في غيبوبتك، ونصح بكثير
من الراحة".. وأسألك بدوري: " ماذا حدث.. لماذا غادرتني هكذا؟!".
ارتسم طيف ابتسامة
على وجهي وهو يسأل بتلك البراءة عمّا حدث.
*** *** ***
ما حدث، حدث هنا حيث أرقد الآن.
هاتفني صباحا ودعاني إلى الغداء :
- سنأكل سمكا في مطعم "الأصداف". سأنتظرك
هناك.. ولا تنسيْ أنا أدعوك وأنتِ تدفعين..
ضحكت وكدت أقفل الخط حين سمعته يقول:
- اسمعي، هات
معك المفكرة التي حدثتني عنها، أحبّ أن
أقرأ قصّة عشقنا كما كَتَبْتِهَا..
حدثته كثيرا عن مفكرتي الخاصة التي أدوّن فيها يوميا
تقريبا تفاصيل عشقنا كما رأيتها من زاويتي..
حتى بات يلحّ في الاطلاع عليها.
وفي كل مرّة كان يطلبها أتردد. أحسّ أنّها عراء روحي
الكامل الذي لا أريد أن أمنحه إياه. يعزّ عليّ أن أعطيه هذا العراء لأن ذلك سيقتل
الغموض الذي يؤجج العشق.
يومها أصرّ. وذهب في ظنّي أنّنا أصبحنا روحا واحدة وجسدا
واحدا. لقد دخلت ألفة المشهد، وتواطأنا على حضورها في صمت. كنا نعلم دورها تماما،
وكنت في سري مبهورة به.
لبست فستاني البرتقالي. أحبّ الألوان الجريئة في
الصيف.تلك التي تمنحني إشراقا داخليا.
وضعت ماكياجي وأطلقت شعري الأسود الطويل على ظهري. بخخت عطر "أناييس"
على رقبتي وتحت أذنيّ، وعلى صدري.
فكرت في حمل زيّ السباحة لنفتتح الموسم ونلهو كما نفعل
كل صيف، ثم عدلت... لقد تذكرت أنّي قررت أخذ المفكّرة معي، سندخل نظام القيلولة
وسأقرأ له بصوتي يومياتي. وأرسم له بكلماتي صورته.
ركنت السيارة. قطعت الموقف شبه الخالي. كان المطعم غير
مكتظّ.
صعدت الدرجات الثلاث فلاحظت أنهم بدأوا يستعملون الشرفة
الواسعة ذات الواجهة البلورية المطلّة مباشرة على البحر.
دخلت،... ابتسمت لصاحب المطعم.. الرجل الضخم الذي يحمل
بطنه بين كفيه، ويبطن في ابتسامته لي كمية من المكر مبديا تواطؤا وواعدا بأنّه لن
يبوح بما يكتم. أسخر في سرّي من سذاجته واعتقاده أنّ بين يديه قنبلة أخلاقيّة قد
تفجّر ما بيني وبين مجدي لو فتح شفتيه الرقيقتين. كنت أعلم أنه صاحب هذا المطعم
الذي اختاره مجدي لقربه من البيت الذي استأجره على شاطئ المرسى منذ سبع سنوات.
ومنذ سبع سنوات نأكل في هذا المطعم في شبه انتظام. وفي
شبه تلاعب أوهمت صاحبه بأنّه يملك سرا و رشوت صمته بابتسامة وقحة ونظرة خبيثة. كنت
سعيدة بتلك السلطة التي منحتها إيّاه ليمارسها عليّ.
استقبلني بتواطئه ورافقني مرحبا إلى الداخل .. قبّلني
مجدي .. بللتني الرغبة... جلست أبلع رحيق رغبتي، متطلعة إلى صاحب المطعم الذي
ضبطته يتجسس على القبلة. في تلك اللّحظة
عنّ لي أن أخلع عنه السلطان الذي توجته به..
نظرت عبر الزجاج، البحر تحتنا مباشرة، همست: " ما أعظمك يا بحر ".
ضحك مجدي في شبه استهزاء وقال:
- من يرى عشقك المجنون للبحر لن يعتقد أبدا أن جذورك
جبلية.
ورددت فورا بنفس الإيقاع:
- ومن يرى لا مبالاتك للبحر لن يصدّق أن أمّك وضعتك على
شاطئ المهديّة.. وضحكنا..
طلبت طبقا من أصداف البحر، اختصاص المطعم. أحبّ الأصداف
بمرقها الحامض الذي أمتصه مستنشقة رائحة النبيذ الأبيض ومتلمّظة طعمه في المرق.
يشاركني عادة مجدي في تلذذ هذا الطبق. وبينما كنا نشرب
النبيذ الأبيض على نخب الصيف منتظرين قدوم أطباق السمك قلت:
- ألم تلحظ قط نظرة صاحب المطعم المريبة؟
قطّب مجدي جبينه كأنّه يبحث في ذاكرته عن شيء ضاع منه
وقال:
- ربّما... أعتقد أنّي انتبهت ذات مرة لكنّني لم أعره
اهتماما.. لماذا تسألين؟ هل أزعجك؟
- لا. لا. أبدا، لكنّي قررت اليوم أن أجيبك عن سؤال
طرحته سابقا ونحن في بداية عشقنا. أتذكر لمّا سألتني عن نوع علاقتي بمحمّد صديقي؟
- أذكر ذلك جيدا وأذكر أنّك قلت إنّ محمّدا يحتلّ مرتبة
خاصة في عاطفتك.. وإنّك لا تملكين اسما للعلاقة التي تربطك به. وأضفت: "لا
داعي للغيرة منه، إنّه لا ينافسك.."
- وقلت لي يومها إنّك لا تغار، بل وتحتقر من يفعل ذلك.
- نعم، ومازلت متشبثا برأيي.
- هل اقتنعت بما قلته لك عن محمّد ؟ إنك لم تعاود سؤالي
قطّ..
- في المرات القليلة التي التقينا فيها ثلاثتنا لم أحس
بأي شيء مريب بينكما، أمّا حين كنت ألاقيه صدفة مع الأصدقاء فإننا لم نكن نتحدث
عنك إلاّ عرضا في شكل سؤال عابر.. لكن ما علاقة ذلك بصاحب المطعم؟
الفصل (5)
منذ أكثر من تسع سنوات نقر باب مكتبي بالجامعة ثلاث
نقرات منغّمة.. رفعت رأسي وقلت: " تفضل ". دُفع الباب وتطلّعت فإذا به
يملأ الفضاء بقامة طويلة نحيلة..كان
متأنقا على غير عادته، صلعته أصبحت واضحة، بعض الشعيرات البيض على فوديه،
أمّا لحيته فقد شذّبها فأصبحت أكثر رشاقة بينما بدأ يتسلّل إليها الشيب ليأخذ
سوادها. عيناه اللوزيتان الضيقتان عاريتان إلا من حاجبين خفيفين وأنفه العريض
يتصدّر وجهه، يحرس لحيته ويوازن بين صلعته
البارزة ونظرته الحادة والضيقة وابتسامته الماكرة القادمة من شفاه زرقاء تغطي
أسنانا نخرها الكحول. كأنّما لاحظ مفاجأتي التي كتمتها بجولة فضولي في ملامحه
وجسده ولباسه، فتقدم بحركة استعراضية وقال:
- هل تغيّرتُ ؟..
ثم جلجلت ضحكته وهو يقف مباشرة قبالتي أمام المكتب
وينحني قائلا:
- هل أصلح لصداقة جئت أطلبها؟..
لم أملك إلاّ أن أضحك أمام هذا المشهد المسرحي ثم عدت
أتصنع الصرامة:
- أفصح، ماذا تريد بالضبط؟
- والله صداقة ولا شيء غير الصداقة.
- أمتأكد أنت مما تقول؟
- تمام التأكّد.. لكن اسمحي لي أن ألقي السؤال الذي يسكن
قلبي منذ رأيتك لأوّل مرّة طالبة قاسية النظرات: - لِمَ تجفلين مني كلما رأيتني؟
لماذا تخافينني؟
تراكمت السنوات حول روحي فصنعت جدارا منيعا من
اللامبالاة لحمايتي، فلم أعد تلك الطالبة التي تبدو صلبة في مظهرها بينما ترجف
خوفا من الداخل.
بدت لي عينا محمّد في تلك اللحظة تماما كأنّهما عينا ذئب
يضع ربطة عنق.
وعدت أنظر إليه بعيني الطالبة فرأيته قبيحا حتى التقزّز.
في سنوات الغليان بالجامعة كان محمّد بلحاج نجما. كان شاعرا معارضا لنظام الحكم
البورقيبي. كان يقيم الأمسيات الشعرية في عشايا الجمعة فيمتلئ المدرج بآلاف الطلبة
الذين يعشقون شعره وجرأته. أمّا أنا فلم يكن يقنعني شعره الذي يبدو لي ركيكا، آنيا
لا علاقة له بالشعر والجودة والخلود!
بعد أن أخذني الفضول أول مرّة لأكتشف الأمر انسحبت ولم
أعد إلى تلك الأمسيات ثانية. كنت كلّما وقع تجمّع طلابي سياسي أو ثقافي أحرص على
الحضور في البداية ثم سرعان ما أكتشف وهم اللّعبة وسذاجتها فأنسحب وحيدة أتمشى
قليلا ثم أمتطي الحافلة وأعود إلى بيتي، أو أذهب إلى مقهى
"الأنترناسيونال" أيام كان ناديا للمثقفين وفضاء لمنقاشاتهم وحواراتهم.
كانت جدران المقهى بلورية ولم تكن من حجر لتحفظ في ذاكرتها ما لم تدونه الذاكرة
الجماعيّة من حكايات الثقافة و أحاديث
العبث والنميمة. كثيرا ما كنت أصادف محمّدًا في هذا المقهى يجلس بين الشعراء
والصّحفيين والمحامين أو مع شباب من الطلبة المهتمين بالسياسة والشعر.
ما إن تطأ قدماي المقهى حتى يرصدني حيث أختار الجلوس إلى
بعض الأصدقاء العابرين من الطلبة، وغالبا ما كنت أجلس وحيدة أنتظر الذي لا يجيء.
كان بارعا في أدائه المسرحي، يظل مشغولا في الظاهر بمن
يجلس معهم، فيبدو أنّه يتابع حديثهم، ويشاركهم ذلك أحيانا بينما تحاصرني عيناه
الضيقتان في الخفاء.
حدث أن قدّمني إليه بعض الأصدقاء الطلبة فانقضّ على
الفرصة معتبرا أنّ ذلك التّعارف يسمح له بأن يقتحم طاولتي ووحدتي ويجلس بلا
استئذان. طار عقلي أمام ما فعل، فقلت له بهدوء مفتعل:
- انسحب فورا وإلاّ قلبت الطاولة، تعلّم الاستئذان
واحترام الناس.
حدّق في عيني بغضب مكتوم ووقف منسحبا وملقيا وراءه نظرة
ثقيلة تتوعّد بالانتقام من تمرّد الطالبة على الشاعر.
كنت غرّة مندفعة. وكان ذلك يكسبني قوّة وجرأة اعتز بهما
كثيرا.
توقفت علاقتنا عند حدود تبادل النظرات الحاقدة المثقلة
بالتحدي والانتقام. حتى كان الغياب لما انشغلت بالدراسة والتدريس في سنواتي الأولى
التي تخرجت فيها وبإعدادي المرحلة الثالثة
ثم الدكتوراه. لقد انقطعت خلال سنوات عديدة عن ارتياد الأماكن العامّة من مقاه ونواد
وفضاءات ثقافيّة.
كان محمّد في زيارة إلى الجامعة يسعى إلى تنظيم أمسية
شعرية للطلبة عندما انتهز الفرصة وزارني يطلب صداقة. ويدعوني إلى احتساء قهوة وفتح
عهد جديد بيننا.
أخذته معي في سيارتي، وغادرنا الجامعة.
في الطريق علّق:
- منذ كنت طالبة كانت ميولك البورجوازيّة واضحة وهاهي
تتأكد الآن بهذه السيارة الفخمة الجديدة.
ابتسمت في سخرية وقلت:
- ألم تتأكد الآن من إفلاس أيديولوجيتك؟ لعلك ستتأكد
أكثر من خلال الأمسية التي ستقدّمها في الجامعة الشهر القادم. لقد تبدّل الزمن، لن
ترى في المدرج الطلبة الذين يصفقون حتى تدمى أكفّهم ويهتفون حتى يفقدوا أصواتهم،
بل سيذهلك برودهم، وبُعدهم.
- سأحاول التسلل إلى رؤوسهم.. يجب ألاّ نستسلم أمام الأمر الواقع. فليواصل
بعضنا على الأقل فكرة النضال.
بلغنا شارع بورقيبة. ركنت مضطرة سيارتي تحت الأشجار
المشذّبة على شكل مربع والتي تشق طول الشارع العريض. أغلقت الباب وقطعنا الشارع
وأنا أمزح:
- ستزخرف العصافير سيارتي.
أخذني محمّد الى حانة فندق الأفريكا. عند المدخل قال
فدار صوته مع الباب الدوار:
- نحن مجموعة من الأصدقاء، اصطفينا أنفسنا. نجتمع كل
مساء هنا، نتحدث، نتبادل الأخبار والنُكَت والأفكار، نتناقش حتى الشجار، لكننا لا
نتخاصم كما يحدث بين المثقفين.
- تعني أشباه المثقفين.
- ربما... خفّفي من تطرّفك.
ضحكت بتهكم وقلت:
- سأحاول لأجل عينيك الضيقتين.
عند باب الحانة سألت:
- هل تتأخرون في الجلسة؟
- لا... نلتقي ثلاث مرّات في الأسبوع من السادسة والنصف
الى التاسعة مساء.
قصدنا ركنا تضيئه أباجورة جميلة. كان يجلس هناك شبحان.
اقتربنا فإذا هما صحفي بإحدى الجرائد
اليومية وممثل معروف. جلسنا، وجاء النادل. طلب محمّد بيرة، ونظر إليّ،
أعرف أنهم لا يقدمون القهوة في هذا الحان، لكني قلت متحدية محمّدا الذي كان
قد دعاني إلى فنجان قهوة: "قهوة".
أدرك قصدي فضحك وقال: "كانت طريقة من أجل
الدعوة".
ابتسمت وقلت للنادل: "عصير برتقال".
تأكّدمحمّد أنه ليس من السهل انصهاري في المجموعة. بعد
قليل انضم إلى مجلسنا شخصان صحفي آخر
وكاتب قصة.
في البداية واضبت على الحضور في كل المواعيد التي حددتها
الجماعة وقد أعجبتني رفقتها. ثمّ قلّت زياراتي إذ بدأ محمّد يتغير تجاهي وأخذت
الأنثى فيّ تدرك خبثه بعد أن استدرجني إلى
شرك الصداقة ليعبر على جسرها إلى قلبي وجسدي.
اهتمامه المبالغ فيه بي، بتفاصيل حياتي. دعواته
المتكرّرة للعشاء. غزله المبطّن. إشاراته الخفيفة الى عشقه المكتوم لي. كل ذلك كان
يزعجني. ويؤكد لي أن عرض محمّد للصداقة كان تخطيطا لنيل شيء آخر لم يقدر عليه
بالأساليب الكلاسيكيّة.
في البداية لما انتبهت إلى مخططه استجرت بمنطق السذاجة و
لعبت معه دور المرأة التي لا تلتقط الرسائل الخفيّة. وكنت في المقابل أزيد في
التوغّل بوضوح في أرض الصداقة التي اكتشفت أني أعلي صرحها وحدي.
كنا في العشاءات التي يدعوني إليها نتوه عاليا وبعيدا في
سماء الأفكار. لم تكن حواجز الأخلاق تقف أمام تحليقنا، وكنت أفتح أبواب الذات الإنسانيّة على مصراعيها
وأنطلق في الكشف عن الخبايا التي لا نجرؤ على الاعتراف بها حتى لأنفسنا.
لقد كنت أسعى إلى يأخذ كل منّا بيد الآخر ليكون دليله في
التوغّل في أعماق ذاته. حتى انصهرنا فكريا، وعندها كبر الأمل عند محمّد في القبض
على العشق السراب.
وفي حين كنت أدفع بالصداقة الى آخرها لتكبر في وجه مجتمع
لا يؤمن بالصداقة بين الذكر والأنثى، كان محمّد بذكورته العالية وعلاقاته
النسائيّة المتعدّدة يأبى على نفسه الفشل معي كأنني عصيّة على العشق.
والحقيقة أن محمّدا لم يدغدغ أنوثتي قطّ. بل لعلني في
كثير من الأحيان كنت أحسّ أنه يحتل في ذهني صورة الأب المثالية. الصورة التي حلمت
بها طويلا. الأب الذي تتحدث معه في كل شيء، وتنصهر معه فكريا دون حاجة إلى
الانصهار الجسدي.
وفي آخر العشاءات التي كنا نسهر خلالها حتى وقت متأخر
وحتى يرجونا أصحاب المطاعم أن نغادر، كنت كثيرا ما أنهار. ومع بعض الكؤوس من
النبيذ ومع تفتّح الروح واستعدادها للبوح والتهويم، كنت أنتهي بأن أبكي بين يديه.
وبالرغم من صعلكته التي يحرص على اظهارها أحيانا فإنّه في أعماقه كان شهمًا. إذ لم
يستغل قط لحظات ضعفي تلك ليعبث بي، بل كان يغدق عليّ عطفا أبويا حقيقيا كنت بحاجة
أكيدة إليه. وبعد أن أشكو له متاعبي في الجامعة، ومتاعب التنافس مع الجيل القديم
من الأساتذة، والزملاء من جيلي، وبعد أن أفتح ملف علاقتي بوالدي، وبعد أن نهوّم في
ذواتنا، وفي غابة الأفكار وفي الوجود ننتشي. ثمّ أنتهي بأن أذكر أمّي، وأسقط في
بركة من الدموع، أتطهر بعدها وأعود صافية،
قويّة. عندها يسندني محمّد حتى موقع السيارة و يرجوني أن أستقلّ تاكسي،
لكني أصرّ على السياقة فأوصله إلى بيته بالمنار، وأعود لأنام خفيفة كملاك.
في الصباح أستيقظ على رنّة هاتفه، ليطمئن على حالي، ولم أكن قطّ أضيع فرصة سؤاله عن المحاضرة التي
تلقاها من زوجته بسبب عودته متأخرا.
كان يضحك ويقول:
- لا عليك تلك المرأة التي هي زوجتي، أعرف وحدي كيف
أروّض غيرتها.
ذات مرّة هاتفني محمّد من مقرّ عمله ودعاني إلى الغداء.
استغربت ذلك لأنّه لا يحب البتّة دعوات الغداء،
إذ يكره أن يخرج من المطعم ليجد الشمس في عينيه فتذهب متعته هباء.
قلت:
- ما الحكاية؟!
قال:
- تعالي إلى مكتبي وستفهمين كل شيء.
هناك أخبرني أنه تلقى دعوة للغداء في مطعم على ملك صديق
له. فاقترح أن تكون الدعوة في المنزل بدلا من المطعم، و أن تكون معه صديقته فرحّب
صاحب المطعم.
فورا فهمت الموّال الذي يدور برأس محمّد. ابتسمت ووافقت
مبدية تواطؤًا، بل وفرحا خفيا.
زغرد إيقاع صوت محمّد زغردة الموقن أن السمكة قضمت
الطُعم.
ركب إلى جانبي وذهبنا إلى بيت فخم في المنزه السادس.
دخلنا. استقبلنا الرجل. وإذا به ضخم الجثة
يعرض ابتسامة مغشوشة.. فرح بنا. وفهمت انه غير متزوّج، وأنّ خادمته تقف على
شؤون البيت.
كانت الطاولة تعجّ بمختلف الأصناف من المآكل التي أحضرها
الرجل من مطعمه.
جلسنا أمام الوليمة نأكل ونتحدّث ونشرب. وبين الفينة
والأخرى كانت الخادمة تطلّ تسأل إن كنا نحتاج شيئا. في إحدى المرّات هجم عليّ
التوتر بسبب اهتمامها المبالغ فيه، وفي تلك اللحظة أمرها سيّدها بالانصراف قائلا:
- لم نعد نحتاج شيئا. تستطيعين الذهاب. وغدا كوني في
موعدك باكرا.
كانت الثالثة بعد الظهر لما أنهينا حفلة الأكل، بعد أن ضحكنا كثيرا. فالرجل موهوب في رواية
النكتة التي تقتلع منك الضحكة حتى لو كنت عبوسا.
ذهب الرجل إلى ركن في صالونه الكلاسيكي الفخم وفتح شبه
خزانة، ثم سحب بابها إلى الأسفل لتتحوّل
إلى طاولة. بدت الخزانة بارا بيتيا عامرا بشتى أنواع المشروبات. سحب قنينة ويسكي
شيفاز، وكأسين من الكريستال. قدّم لنا
المشروب، ثم غاب.
عندها همس لي محمّد الذي يجلس على ربوة الرغبة:
- أ رأيت الجانب الآخر مني ومن أصدقائي؟ إنّه غير هؤلاء
الشعراء المشعوذين الذين لا يملكون غير موهبة الكذب.
عاد الرجل ومعه سطل صغير من الكريستال معبّأٌ بمكعبات
الثلج، وضعه على الطاولة أمامنا وقال:
- معذرة سيدي سأحرم من رفقتكم قليلا لأني مضطر إلى
الذهاب إلى المطعم، مطعم
"الأصداف" بالمرسى. سأعود بعد قليل.
ابتسم وأضاف:
- البيت بيتكما...
رافقه محمّد حتى الباب وعاد يرقص، بينما ترتعش ذقنه.
اقترب مني كثيرا. أخذ كأسه. نقرها بكأسي وهمس:
- هل نشرب نخبنا ؟
- لم لا...
كانت الغواية على وجهي تمد له الشرك... كان يلهث . حاول
تقبيلي، فأشحت بوجهي بعيدا بدلال وهمست:
- لنشرب أولا... ولتأت الأمور على مهلها. وضحكت في
خلاعة.
توقف محمّد لحظة
عن الكلام، لكن إيقاع الدلال في صوتي لم يمنحه فرصة للشك. وأضفت سريعا:
- اترع الكأس. حتى تفيض الروح، املأ ..
بعد زمن استعاد خلاله محمّد، في انتشاء ، بداية علاقتنا التي يصفها بالغرابة، وبعد أن أيقنت أنّه وقع في الشرك ذهبت الى
الحمام.
غبت حوالي الخمس دقائق. أصلحت خلالها من ماكياجي، ووضعت عطرا ثم عدت الى الصالون فلم أعثر عليه.
استغربت في البداية ثم حدست أنه ذهب إلى غرفة النوم.
مشيت خطوات، ثم
ناديت "محمّدا "، فجاءني صوته
من غرفة ليست بعيدة عن الصالون. تتبعت الصوت وإذا به يجلس على الكنبة عاريا تماما
ويدخن!!
ما إن رأيته كذلك حتى انهمر عليّ ضحك عجيب... تحوّل بعد
قليل إلى هستيريا... وكلّما حاولت الهدوء كنت أتطلّع إليه من جديد فأراه
ناهضا فيعود الضحك حتى الدموع.
جمد في مكانه. تكلّست ملامحه، وانطفأ. كنت على الكنبة المقابلة أصارع
ضحكي. وبعد أن عدت نهائيا من شدّة عبثي
تسلّلت إليّ شفقة ما. لكن الأنثى اللّعوب فيّ لم تنقطع بعد عن المراودة فقلت:
- لماذا لم تذهب إلى غرفة النوم، صديقك قال البيت بيتكما؟.
لم يعلّق، بل
ظلّ يدخّن بانفعال. وكأنّي برغبته تحوّلت إلى رغبة في الاحتراق. ونزل الصمت بيننا
كصاعقة.
بعد برهة وقفت إلى جانبه. قرّبته إلى صدري، احتضنته.
قبّلت جبينه وهمست:
- أحبك حبا خارقا لن يحظى به رجل غيرك. أنت الصديق الذي
يضمّ الأب والأخ.. والحبيب. إن الرجل الذي
يقف سندا أكيدا في أوقات الشدّة لن يخذلني إذا ما اهتزت العواطف... أنت أعظم من
نزوة آنية نقترفها ولن أراك بعدها.
قبلت جبينه ثانية وضممته بصدق إلى صدري. ذهبت الى
الصالون وقد هجم عليّ الحزن كأشرس ما يكون. حدست أن محمّدا سيختفي من حياتي بعد
هذه القسوة التي ذبحت بها كرامته. صببت لنفسي كأسا ثانية، منتظرة إياه. بدا غيابه
طويلا ثم عاد الى جلده وملابسه قريبا منّي كما عهدته. قلت:
- أتشرب كأسا أخرى ؟
ابتسم في مرارة وقال:
- لا، شكرا.
- إذن نذهب؟
- كما تشائين...
كتب ورقة صغيرة إلى صديقه شكره فيها على ضيافته. وغادرنا
المنزل.
ابتعدنا عنه قليلا
فطلب أن أوقف السيارة راغبا في التمشي. توقفت. نزل. أغلق الباب بشيء من
العنف، وغاب عني. فاعتقدت أنّي لن أراه
أبدا...
الفصل(6)
ظلّ مجدي يضع كفّيه على خديه، بل يلقي برأسه بين كفيه ويحدق فيّ.. كأنه تائه.
داعبت كتفه وهمست :
- هاي... مجدي انتبه،
هل كنت تسمعني؟
-كنت أنصت إليك.
لكني كنت أفكر في إصرارك على تعقيد الأمور أحيانا!
فإذا لم يثر محمّد أنوثتك فَلِمَ أصْرَرْتَ على
الاحتفاظ به حتى القسوة ؟ لماذا الإهانة؟
- حتى أنت يا مجدي تفكر كالقطيع!
تفكر بمنطق الأنثى والذكر. أليس الإنسان الكامن
في الأنثى هو الكامن في الذكر؟ أليس من
حقه أن يقيم علاقات أخرى جميلة وغير جنسية؟ ما بالها صداقتي بمحمّد الآن ؟ إنّها
أروع علاقة يمكن لها أن تنشأ بين رجل وامرأة ... إنها أقوى وأكثر صمودا في وجه
الهزات من العشق والحب والزواج، بل إنّها
أعمق وأصدق من كل العلاقات الأخرى التي تؤسس على منطق المداراة والكتمان.
أمّا ما حدث بيني وبينه فلا علاقة له
بالإهانة، لكنّي أستغرب كيف تفكر بهذه الطريقة؟ لم أكن أدري أن في أعماقك ترقد تلك
الأفكار الجماعية التي شوّهتها. ويبدو أن تحررك لم يتجاوز الطبقة العليا في عقلك
ولم يكن سوى فرشاة ترسم بها لوحاتك، ونساءك اللاتي تلتقطهن من الشارع في أعقاب
الليل لترسم عراءهن. الآن أصبحت أشك في ادعائك أنهن مجرّد"موديل"،
وتمثال حيّ للرسم. وأعتقد أن العشرين دينارا التي تعطيها للواحدة منهن بعد رسمها
هي مقابل شيء آخر!!
- لن أردّ عليك، لكني أقول إن ما فعلتِه مع محمّد هو
تصرّف مرضي، انتقامي، إذ لم يكن ضروريا تعرية كبريائه وإهانة رجولته
بل وذبحها وأنت تدركين أنك لا ترغبين فيه،
أنت شريرة!!
- شكرا، اشرب كأسك، وانهض. المهمّ أن رجولة محمّد كانت
أصدق، وأكثر ثقة من غيرها !
قطّب جبينه وهمس ونحن نغادر المطعم وقد أينع الشقاق
بيننا:
- أما رجولتي فهي متطرفة وأنا سعيد بذلك .
عند الباب أردت مشاكسة صاحب المطعم فقلت بصوت عال:
- بلّغ السلام إلى محمّد..
في منتصف الطريق التي لم تكن تبعد كثيرا عن البيت حاولَ
تطرية الجوّ والتخطيط لقيلولة ممتعة،
بمغازلتي على طريقته التي تهيج رغبتي.. أدرك برودي في صمتي الذي ظلّ مغلقا.
دفعت باب الحديقة بقدمي ودلفت. وقفت تحت الياسمينة في
شبه تيه، كأنّها توشوش لي شيئا في أذني. كأنها تهمس لي. فتح مجدي باب الفيلا. همّ
بالدخول ثم التفت. تطلّع إليّ بنظرة سائلة ، ودخل.
جلست على حافة السرير الذي أزّ خشبه.. همست في أعماقي:
- لن يعزف هذه القيلولة، ولن نرقص رقصة المتعة.
تحسّست حقيبتي اليدوية،
وواصلت أحدّث نفسي:
- ولن أقرأ له من مفكرتي، لا يستحق أن أُعري روحي أمام تخلّف أفكاره.
بدّل ملابسه،
ووقف أمامي في تبانه الملون كرسومه.. اقترب أكثر وحاول احتضاني باحثا عن
شفتي، انسللت منه ووقفت عند النافذة وقلت:
- ألا نشرب قهوة.. بعد الغداء؟
صمت.. ثم أردف في برود:
- طيّب.
تطلعت إلى الياسمينة عبر النافذة.. تكاد تنفذ من الزجاج
الى الغرفة بزهرها الذي سيتفتّح، ويملأ
الفضاء بشذاه مؤكدا حلول الصيف.
على الطاولة في زاوية الغرفة تتكدّس فوضاه غير
الجميلة، روايات ودواوين شعرية، مجلّدات
ومجلات خاصة بالفن التشكيلي، فرشاة رسم لم
تستعمل بعد، قناني عطر رجالي بعضها مفتوح وبعضها في علب. فوق كومة الفوضى لمع ورق
ملوّن خاص بلف الهدايا، غير بعيد، فوق الفناجين والكؤوس المستعملة شريط أحمر، وفوق
كومة المجلات علبة مخملية سوداء، أطرافها مذهّبة. فتحتها فَلَمَعَ حصان من البرونز
رافعا ساقه الأمامية عاليا.
انقبض قلبي فتقاطر الوجع رحيقا مرّا في حلقي. من غبش
الدهشة انتبهت إلى الورقة الصغيرة في العلبة. سحبتها وقرأت: "أحبك..
ألفة".
انهرت على الكرسيّ..
لم يعد حضور ألفة بيننا أكسجينا لإنعاش عشقنا المحتضر،
بل أصبح سُمّا لقتل هذا العشق.
لم نتفق في تواطئنا على أن تبلغ الأمور هذا الحدّ ...
نظرت إلى السرير، وتجسّد المشهد كما رسمه
خيالي. هنا عزف لهما السرير لحنه المميز. فرقصا رقصة المتعة. دسّت رأسها في حضنه، وراحت تلثم غابة الشعر على صدره. بينما راح هو
يحدثها عن الأبراج، وعن الأبراج الصينية
تحديدا. يؤمن بذلك إيمانا شديدا ويشتري كل
الكتب المختصة. ويدافع عن إيمانه بيقين علمي ! قال لها إنّ برجه الصيني هو
الحصان. وسحب الكتاب من تحت الوسادة وقرأ لها صفات هذا البرج، وحدّثها بسحر صوته حتى انبهرت، حتى رأته حصانا يركض بها إلى أقاصي المتعة.
سأَلَتْهُ وهي تتأنق أمام المرآة في الصالون:
- من أهداك هذا القطيع من الجياد ؟.
قال لها:
- أصدقاء
وصديقات.
وأضافت:
- وهذا الحصان الأبيض الصغير.. إنه لافت لرشاقته ودقة
ملامحه، هدية من؟
هل أجابها بأنّه هديتي؟
أسرعتُ إلى الصالون، وقفت أمام المرآة، نظرت إلى رخامة
المدفأة حيث قطيع الجياد، بحثت عن الحصان الأبيض...
انقبض قلبي من جديد، فامتلأ حنظلا.
الحصان مهشم على الرخامة. كان من الخزف الرفيع. هل كان
هشّا كل هذه الهشاشة فتكسر سريعا؟ لملمت فتاته في كفّي. أخذت حقيبتي، وخرجت.
*** *** ***
لم أكن أعترف بغيرتي !
رنّ صوت محمّد في ذاكرتي مردّدا :
- أنت امرأة غيور حتى الجريمة.
يومها سخرت من تعليقه وضحكت. هل كنت أخفي عنّي حقيقتي؟
عدت إلى مرآتي أسألها ألمي وحزني، وما حدث !
أسألها: من أين نبعت أنت أيتها الأخرى فيّ... كيف نشأتِ ؟ كيف تسللتِ إليّ لتهدمي
صرح أفكاري؟ هل كنت ساذجة فلم أتوقع أن يحدث ما حدث ؟ هل كنت مؤمنة بوهم العشق حتى العمى؟
الجرح غائر، والألم نازف. أُمْسِكُ بقلبي أعصره كي أخمد
الوجع.. تخرج أصابعي ملطخة بدمي فائرا. ماذا
أفعل؟ هل أصدّق أن صرح مثاليتي انهار وأنّني في لحظة صرت مثلهنّ جميعا، هن
اللاتي كنت أطالعهنّ من برجي العالي
بشفقة؟
الآن صرت مثلهن، وتدحرجت إلى أرضهن. امرأة غيور؟ ما الذي
حدث بالضبط؟ أريد أن أستوعب الحدث وأتقبل أنّ مجدي الذي عشق جسدي حتى العبادة وعشق
روحي حتى الصلاة، فتح صدره لامرأة أخرى؟
انتبهت. أنا الآن لست كما ادعيت وكما أردت أن أكون بوعي
المثقّفة امرأة تأخذ متعتها على طريقتها وتمضي شامخة بكبرياء، تنظر أمامها عاليا.
بل أنا أسوأ منهن جميعا في تطرفي. أحسّ بالخجل من
نفسي، إنني أسيرة إحساس لا يدلّ إلا على
عدم الثقة في الذات. فإذا بي أرقب بيوت
الآخرين وأتابع تفاصيل لا تعنيني. هذه اللغة تخذلني.. فلا تقدرعلى تمكيني من
التعبير أمام مشهد النار الذي يلتهم روحي.
أَحْسَسْت بالعجز، ثم بالقهر، فلم أملك إلاّ أن أبكي لأتطهر بملح دموعي،
بينما يطلع نواحي من قعر روحي المحترقة فيملأ الفضاء حزنا، ثم عدما!
الفصل (7)
تتناثر أوراق الأشجار صفراء بنّيّة، تتراقص بين قدمي
كأنّها فرحة بقدوم هذا الخريف. فهذا منتصف شهر سبتمبر. ولم يعد يفصلنا عن العودة
إلى الكلية إلا أسابيع قليلة.. مع أني أذهب بين الحين والآخر بعد انتهاء امتحانات
دورة التدارك.
أما أنا فلست فرحة بهذا الخريف الذي ستتبدل فيه حياتي..
بعد أسبوع سأغادر بيت العنوسة إلى بيت الزوجية وسأصبح: مدام عزوز. هل سيكون من
السهل أن يتغير اسمي؟ هكذا ببساطة أتخلى عن اسم حملته ثماني وثلاثين سنة؟ هل
أستطيع أن أتخلى كذلك عن وجهي ولون عيني لمجرد أني سأصبح زوجة؟
تحت أشجار شارع الحرية تتكدّس أوراق الخريف الصفراء التي
سحب منها الصيف خضرة الربيع ليعطيها الوجه الأصفر المجعد.
في هذا
الصيف أغلقت أبواب السنة الثامنة و
الثلاثين لأفتح السنة التي تليها. سأكون
عروسا بوجه بدأت التجاعيد تتسلل إليه في غفلة من " الكريمات" التي أصبحت
أؤمن بفوائدها بعد أن تجاوزت الخامسة والثلاثين.
ولم أكن مستعدة لعرض هذا الوجه للنميمة وأنا عروس
بفستاني الأبيض الطويل. وباقة الورد في حضني تستوي مع بطن منجي. لم أخضع لاغراءاته
لإقامة حفل خرافي بأحد الفنادق الفاخرة ندعو إليه كل الأقارب والأحباب و الأصدقاء
و الزملاء.
تلفت حولي فلم أعثر على زميل يستحق أن يُدعى ولا صديق ما
عدا محمّدا الذي لم يوافق على هذا الزواج واعتبره شكلا من أشكال الانتحار . لا
أحباب ولا عائلة. فقط أبي الذي لا أعلم إن كان في صمته قد وافق على هذا الزواج أم لا !
لقد جاء منجي في
الموعد برفقة والدته التي أصرت على الحضور بالرغم من أنني أكدت عليه أن يحضر
بمفرده.
لأوّل مرّة ومنذ سنوات يستقبل صالون بيتنا ضيوفا. جلس
منجي وأمّه على الكنبة وفي المقابل كان أبي على كرسي المعوقين غارقا في قوقعته
متجاهلا ما يحدث أمامه.
تمّت خطبتي وكأنها بروفة فاشلة لمسرحية لن يحضرها
الجمهور. ألبسني منجي الخاتم الماس بأصابعه القصيرة البيضاء القبيحة وانصرف !
منذ طفولتي لم يكن الزواج من أحلامي. وحتى إغراء الفستان
الأبيض لم ينجح في تأجيج رغبة التجريب. بعد جهد أقنعت منجي بأن نكتفي بالذهاب إلى
أيّة بلدية رفقة الشاهدين، ونكتب
العقد، ثم نذهب إلى أي مطعم للعشاء. لم
يكن من السهل إقناعه هو الذي يحب المظاهر والفخامة، هو الذي يتوق إلى زواج تقليدي بعد أن تزوج أول
مرة على الطريقة الفرنسية.
حددنا الزواج في آخر شهر سبتمبر. لم أجهز أي شيء. فقط ها
أنا هائمة في شوارع المدينة وبين محلاتها. ربما أشتري تايورا أبيض لهذا اليوم الذي
أمنح فيه منجي جسدي بموجب عقد يباركه القانون والمجتمع، أمّا الروح فهي مستحيلة المنال.
تتوالى لطمات قدميّ المندسّتين في الحذاء الرياضي الأبيض
على بلاط الشارع. يشبه الطقس لون سروال الدجينز الذي أرتدي. فوقه يتدلى "
مريولي " الأزرق القطني الخفيف. يمنحني هذا الزيّ الرياضي خفّة واتساعا
لخطواتي تندفع معه حركة الذاكرة !
تجاوزت شارع الحرية ولم أتوقف عند أيّة واجهة. ظلَلْتُ
أتفرّج في شارع باريس على إحدى الواجهات،
لماذا توقفت هنا؟ لم أكن أنوي اشتراء ملابس داخلية. و الليلة الموعودة هل تستحق
ذلك ؟
حين غادرت المحلّ و الكيس يتأرجح في يدي كانت العتمة قد
بدأت تتسلّل إلى المساء تعمّق لونه
الرمادي ، و تتسرّب من شوق روحي تدغدغ الذكريات قبل نهاية الشارع بقليل،
وعلى مستوى فندق الإنترناسيونال الذي يحتلّ الزاوية بين شارعي بورقيبة
وباريس توقفت. هنا تحت هذه الشجرة منذ سنوات اعترضني يوسف، صديق قديم منذ أيام
المعهد، وزميل في الجامعة، موهوب في الشعر لكنه غير محظوظ، لذلك ظلّ صعلوكا أكثر منه شاعرا، تلمع بعض قصائده في العتمة ولا تطلع لنور النشر
أبدا. أشفق عليه وأحب موهبته المغمورة. فرح بلقائي كثيرا. قبّل خدّي مندفعا
ببداوته التي يحتفظ بها بين نفاق المدينة وأقنعتها. مسك يدي وسحبني وكأنّه سيركض
طويلا، وقال بلهجته المفخمة وإيقاعها المدوّر:
- تعالي سأقدّمك لصديق عزيز رسّام مهمّ..
اقتربنا قليلا من الرجل الذي يقف تحت الشجرة. أسمر، طويل
القامة، شعره أسود ناعم، بعض الخصلات
متناثرة في غير نظام على جبينه العريض اللامع،
عيناه مدورتان بهما بعض قبح مغر،
ومضاءتان بنور سحري. شفتاه رقيقتان زرقاوان،
خدوده بارزة وأنفه يميل إلى الضخامة.
لم يكن الرجل وسيمًا.. لكنه كان لافتا بحضور يبلغ حدّ
الاستفزاز. كان يرتدي سروالا وجاكيتا من الدجينز الأبيض، وقميصه كان في أخف درجات الرمادي، أزراره الثلاثة الأولى مفتوحة بتعمّد
استعراضي، فبدا صدره مغطّى بغابة من الشعر
الكثيف. استفزني أكثر ممّا لفت انتباهي.
شقّ صوت يوسف تيهي وهو يقول:
- مجدي السعدي رسّام موهوب، تجربته مميزة. يعمل في صمت. يكره الشهرة
والأضواء، ويحبّ النساء...
ضحك يوسف عاليا،
ابتسمتُ، بينما ظهر الارتباك على مجدي،
وواصل يوسف تقديمه:
- مُنَى عبد السلام. دكتورة بالجامعة، مثقفة، دون أن
تتورّط في الانتماء إلى المثقفين، لها كتاب في النقد حول بعض التجارب الشعرية
التونسية، والأهمّ من كل ذلك أنها امرأة
جميلة.
عدت للابتسام،
غير أن مجدي فاجأني بأن رفع يدي وقبّلها هامسا:
- تشرّفنا.
انتبهت لوقفتي في الشارع تحت الشجرة. واصلت المشيَ وقد
عادت إليَّ كلمات يوسف مجتاحة السنوات والذاكرة لترنّ في قاع روحي: " يحبّ
النساء... ويعمل في صمت".
التفت كأنّي سأراه لم يزل واقفا هناك منذ تلك اللّحظة
يقبّل يدي ويخطط للإيقاع بي!
شارع باريس... كنت أكره هذا الشارع وصرت الآن أكرهه أكثر!
منذ طفولتي كنت أمشي فيه وأبحث ببراءتي عن باريس التي
أسمع عنها.. باريس مدينة النور، مدينة الجن والملائكة كما قال عنها طه حسين، إلاّ
أن باريس لم تكن قطّ في هذا الشارع.
*** *** ***
كنت قد رَكَنْتُ سيارتي
بنهج فلسطين. عدت إليها
سريعا، وانطلقت نحو البيت.
كان أبي يتفرّج على التلفزيون جالسا على سريره، انتبهت إلى الشاشة. كانت الأخبار. لا جديد في
العالم سوى الكوارث.
جلست على الكرسيّ الهزّاز، ومنحت نفسي لحركته.
ها هو الصمت بيننا يزداد ثقلا وقبحا بل ويصبح وقحا.
تخلّى عن أقنعته فأصبح فجّا بأظافر طويلة معقوفة تنهش القلب.
تواطأ التعب مع حركة الكرسي فنمت.
لمّا أفقت لم أدرك فورا أني نمت طوال الليل هناك.. كانت
الساعة على الكومدينو عند سرير والدي تشير الى الخامسة والربع صباحا.
والدي أيضا سحبه النوم من وعيه فلم يطفئ التلفزيون بآلة
التحكم التي تهوّن عليه عجزه. كان ضجيج التلفزيون صاخبا.. لقد أغلقت القناة
أبوابها فانقطع البثّ. كتمت الضجيج،
وخرجت.
أحسست بجوع فظيع وعطش كبير.
في المطبخ لما كنت أعدّ طبق البيض بالزبدة وأسخن الخبز
تذكرت أن والدي أيضا لم يتعشّ. وخزني ألم خفيف. أكرمته أثناء إعداد طبق
فطوره، فأضفت مع البيض عصير برتقال
و" ياغورطة " وكأس حليب وموزة.
سينهض بعد قليل،
وسأحمل له الطبق كما كان يفعل هو أيام شبابي، وأيضا بعد أن تخرجت وعملت، حين كان يصرّ على
إعداد فطوري الصباحي بنفسه.
دفعت الباب،
وضعت الطبق على الطاولة الصغيرة العالية التي وضعتها بعد الحادث قرب سريره الذي لايكاد يبرحه..
جلست على الكرسيّ الهزاز. وضعت فنجان قهوتي على حافة
الكوميدينو، وقلت له:
- صباح الخير.. كيف الحال اليوم ؟
لم يلتفت ولم يحرك جفونه. لم يعد ذلك يستفزني. لقد
استقرّ الحال وتشكل النظام الجديد. صمت من نوع آخر وحركة وكلام وفعل من جانب واحد.
أضفت:
- اليوم مساء سأغادر بيتك . سكت، ثم واصلت:
- ستحضر هدى ابنة عمّي الحبيب التي لم تتزوّج حتى الآن،
قلت لعمّي في التلفون إنّها سترعاك حتى أرتب وضعيتي الجديدة. فإما أن أقنع منجي بالعيش معنا هنا أو آخذك معي
إلى بيته في المنزه السادس. البيتُ كبير،
سأخصّص لك غرفة مريحة .
انتظرت أن تتحرك جفونه، أن يعبّر عن موقفه، فأنا أدرك
جيدا أنه لن يغادر سريره وبيته أبدا. لكنه لم يتحرك. انطفأ تماما في داخله و
ألغاني تماما من قلبه.
وواصلت وأنا أرشف قهوتي :
- اعتقد عمّي أنّني سأتزوّج في حفل مشهود دون أن أدعو
العائلة، ولم يقتنع قطّ بأنْ لا وجود لحفل، وأصرّ على أن يرافق هدى متعللاً بأنّه يريد الاطمئنان
عليك.
فتحت التلفزيون. القناة الوطنية لم تبدأ الإرسال بعد.
انتقلت إلى القناة الإيطالية، ألوانها
ناصعة وصورتها جميلة، لقطات إشهاريّة لبعض المأكولات. أحبّ مشاهدة لقطات الإشهار.
أبحث فيها دائما عن فكرة طريفة أو ذكيّة أو وقحة.
وضعت آلة التحكم في حضني. حركت الكرسيّ الذي انطلق في
هدهدتي وقلت:
- بابا... سآخذ منك هذا الكرسيّ الذي أصبحت تكرهه
بالتأكيد. سأحمله إلى بيتي الجديد. إنّه
جهازي.
ابتسمت... ولما تقاطرت المرارة انطفأت ابتسامتي. تناهى
إليّ زامور سيارة، فتذكرت أن منجي سيرسل شاحنة لتأخذ حاجياتي إلى هناك. فتحت باب
الفيلا وناديت الرجل.
كانت حقيبة ملابسي جاهزة. أخذها، بينما سَحبْتُ من غرفة والدي الكرسيّ ودفعته
إلى الممرّ. أخذه الرجل، ثم عاد سائلا:
- وماذا أيضا؟
كنت أقف متردّدة أمسك بلوحة... وأخيرا قررت أن آخذها
معي.
صورتي، التي
رسمها مجدي ذات ليلة مجنونة. قلت للرجل:
- انتظر، لحظة من فضلك.
لففت اللوحة في بعض الجرائد القديمة وقلت:
- انتبه، حتى لا تتكسّر، ضعها إلى جانبك على المقعد.
همهم الرجل:
- لا تخافي.
لماذا اختار الرجل الغريب أن يقول لي" لا تخافي؟
" هل أدرك أنني خائفة في أعماقي؟ لأوّل مرة ينتابني مثل هذا الإحساس الذي لم
أعشه حتى في طفولتي!
في المساء كان أبي يجلس على كرسيّ المعوقين في الصالون،
والى جانبه على الكنبة جلس عمّي الحبيب غاطسا في سمرته الكالحة وفي ذقنه البيضاء
غير المحلوقة، وسترته التي فقدت لونها.
ولأوّل مرّة أجدني أدقق في ملامح وجه حامد عبد السلام.
بدا لي وسيما،
بل جميلا. سمرته لامعة، أنفه دقيق كحدّ السيف، شفتاه رقيقتان.. بنفسجيتان
وجهه مذبب. حاجباه كثيفان. رموشه طويلة سوداء لم يبلغها الشيب كما فعل بشعر رأسه
الفضي الذي يحلقه بانتظام فلا يطول. ولولا تلك التجاعيد حول العينين وعند الرّقبة
لبدا أصغر من عمره بكثير. لأوّل مرة أنتبه إلى أن أبي رجل جميل وفحل. تخيلته واقفا
كعهدي به دائما، فرأيته كالنسر شامخا أنيقا ببدلته السوداء، وربطة عنقه الملوّنة.
منذ طفولتي انتبهت إلى غرامه بربطات العنق الملوّنة..
وكانت تلك هديتي إليه دائما. عندما أعود من إسبانيا سأحضر له العديد منها. طلع
صوتي مبحوحا مجروحا يسأل عمّي:
- لماذا لم تحلق ذقنك؟
أجاب فورا بصوته الخشن العالي:
- ألم تؤكدي أن ليس ثمّة حفل ولا ضيوف؟ لماذا أحلق إذن؟
كنت أقف في تايوري الأبيض على الكعب العالي بساقين
مرتعشتين. شعري معقوص إلى الوراء في خجل كشعر تلميذة ستذهب إلى المدرسة.
علّقت هدى وأنا أضع الرتوش الأخيرة لزينتي:
- إن مكياجك حزين.
- أوصيك خيرا بوالدي.
- هل أنّ ماسَ
عقدك حقيقي؟
- نعم..
- وخاتم خطوبتك... كيف هو.. لم أره ؟
- هدى أرجوك، مكتبي وغرفتي أتركيهما على حالهما. عندما
أعود سأتصرّف في شأنهما.
قالت هدى في برود وعنجهية :
- طبعا،
طبعا، سأنام في غرفة الضيوف، على كل أنا سأعود الى بيتنا متى رجعت من سفرك..
وابحثي عن حلّ لعمي حامد... لقد اتفقت على ذلك مع والدي.
حدجتها بنظرة غائمة فيها استسلام وحزن وألم وشفقة وذهبتُ الى الصالون.
بعد ربع ساعة رنّ جرس الباب أسرعت هدى
و"شلاكتها" تلطم البلاط.. فتحت فدخل منجي منتفخ الأوداج، وقد بدا لي أن بدلته كوّرته ومنحته أناقة
مترهلة كأناقة طفل يوم العيد. إلى جانبه
كانت أمّه بمشطة شعر كأنّها الطاووس وبفستان يطمس الرؤية بضوء عدسه، بينما كدّست على صدرها علبة مصاغها كلّها. تقدم منجي. انحنى قبّل والدي، ثم التفت إلى عمّي الذي لم يتحرّك من موقعه وقد
خبأ ساقيه تحته بينما ظلّ حذاؤه عاريا بقبحه على الزربية.
قلت باقتضاب مقدمة:
- عمي الكبير... الحبيب.
سكتُّ. ولما هممت أن أضيف: منجي زوجي. نطق عمّي:
- هو أنت... مبروك...
وخطفت أم منجي الكلام :
- الله يبارك فيك،
ابني منجي، دكتور في الجامعة وابن
علي عزوز وما أدراك..
قلت بحدة مغلقة الأفواه التي تفتحت أمام سيل التباهي:
- لنذهب ..
عاد منجي يمسك بيد أبي ويهمس له:
- أدرك أن مُنَى عزيزة عليك وأنك تضعها في بؤبؤ عينيك.
اطمئن سوف أضعها أنا أيضا في عينيّ...
ثم أمسك ذراعي، وتقدمنا. عند باب الصالون توقفت
والتفت... ولأوّل مرة منذ أشهر طويلة تلتقي نظراتنا، فتقاطرت دمعة على خدّي ودمعة
على خدّ حامد عبد السلام.
الفصل(8)
وقفنا أمام المكتب المذهّب في قاعة البلدية الفسيحة..
هذا الزواج الذي قرّرت أن أعاقب نفسي على مقصلته !.
يبدو أنّ منجي
لم يدرك تمامًا ما الذي حدث.. وما الذي
جعلني أمنحه حياتي بعد أن كنت أرفضه بتعال.. بل بتقزّر.. ونفور.. ولعلّه في فورة
فرحه بالانتصار لم يكن ليدقق في الأسباب والدوافع .
كان رأسي شبه مطأطإ،
ونظراتي زائغة، هائمة..
صعقني صوت رئيس البلدية وهو يدعونا إلى الجلوس.. بدا
بشريطه الأحمر كأقبح مرشح لمسابقة ملكة الجمال. تلا على الحضور بنود عقد
الزواج التي لم أستمع إليها. كنت أشعر أن
الأمر لا يعنيني، وأنني مجرّد ضيف عثر على
نفسه صدفة في حفل زواج لأغراب لا يعرفهم.
فجأة وضع منجي في كفّي دينارا، ووصلني صوت رئيس البلدية يتحدث عن المهر. انفجر
شيء في رأسي وأحسست بجيوش الغضب تتزاحم في عروقي تودّ الهجوم، كأنها الإهانة بل إنها الإهانة. هكذا بكل بساطة أمنح نفسي وروحي وجسدي وحياتي
لرجل متخلف رغم دكتوراه، لرجل أكرهه، فقط مقابل دينار واحد!
في تلك اللحظة اندفعت فيّ امرأة أخرى تحرّضني على هدم كل
شيء، إنّها اللحظة المناسبة للاعتذار
لمنجي وللجميع عن خطإ يشبه تماما الخطأ المطبعي، ويشبه تماما زلة اللّسان. وصوّرت
لي الأخرى كيف ستكون عملية الاعتذار.
سأستأذن رئيس
البلدية في قول كلمة. سآخذ المصدح وسأقول للجميع:
- معذرة.. لقد أقحمتكم في موضوع لا يعنيكم. هو في الأصل
موضوع عائلي جدا.. حكاية قديمة بيني وبين والدي.. لا دخل لكم فيها.. لقد كنتم
"كمبارس" في مشهد ثانوي لكنّه ضروري في الشريط.. أنا آسفة.. جدا جدا.
سأرى الذهول على وجه الجميع.. وسأرى دمعة على خدّ والدي.
عزّت علي دمعته. فأطردت تلك المشاغبة العنيدة عنّي وأعدتها سجينة في أعماقي.
وواصلت تمثيل دور العروس في أردإ فيلم في الوجود. لمّا انتبهت كان رجل يضع أمامي
دفترا، وكان صوت رئيس البلدية يسألني:
- هل أنت موافقة على الارتباط بعقد الزواج مع السيد منجي
عزوز؟
تساقطت عليّ ألفاظ السؤال اللفظة تلو الأخرى كأنّها
السقف ينهار في الزّلزال.
وصلني سؤاله واضحا بيّنا، نظرت في عينيه ألاحق نبرة
الوثوق التي يسأل بها، ثم التفت إلى القاعة، كأنّي أبحث عن منقذ، عن عشيق مجنون
يقف في الباب ويصرخ:
- أوقفوا المهزلة إنها لي.. لي وحدي بحكم العشق وسلطانه.
لم بخطر بذهني مجدي.. ولم أتخيله العشيق الذي سيصل في
اللّحظة الحاسمة لإيقاف القدر عن ارتكاب خطئه الكلاسيكي. أعرف أن مجدي لن يؤدي هذا
الدور حتى لو ظلّ هو العاشق المجنون الوحيد لي. ظلّت عيناي عالقتين بالباب، بأمل
لا يجيء.. ولن يجيء.. وبعد أن أمضينا فرقعت في الفضاء الكئيب زغرودة كتلك التي
تطلقها أم الشهيد.
وبدا لي الموكب جنازة.. وتأبينا لروح الأنثى فيّ، تلك
التي عاندت طويلا وواجهت كثيرا.. وأخيرا أسلمت رقبتها لعرف المجتمع.. يصنع بها ما
يشاء.
تمت بقية المراسم وأنا في شبه غيبوبة، أرى الحاضرين
أشباحا، وأسمع أصواتهم كأنّها قادمة من
المقابر..
- مُنى.. مُنى.. مُنى..
هكذا وجدت منجي ينادي في شبه صراخ. ويمسك بذراعي لأفيق
من ذهولي.. قلت مرتبكة:
- ما الأمر.. ماذا حدث ؟
- الضيوف سيهنئوننا.. وهذا صديقي وحبيببي سي لطفي كمون..
من أشهر رجال الأعمال في تونس.
لم أر من الرجل غير شبح مكور، غليظ ، أسود. وسمعت صوته
الأجشّ يقول بينما خطفت يده يدي ليقبّل ظهرها في حركة كورتوازية لا تليق البتّة
بهيأته:
- مبروك يا عروسة.. وهنيئا لك يا منجي بما اخترت..أنتما
الليلة ضيفان عندي..
كأنّي ابتسمت،
أو ربّما هممت بالابتسام لكني لم أقدر.
توالت التهاني، وغادرنا مقرّ البلدية.
عند الباب كانت سيارة مرسيدس سوداء فخمة لامعة مزدانة
بالورود وأشرطة الزينة في انتظارنا.. وهرول سي لطفي متدحرجا ككرة " الرقبي
" وفتح باب السيارة قائلا:
- يسعدني مدام مُنى أن أكون سائقك الخاص .
وهمس منجي في
أذني وهو يمسك بيدي ويساعدني على الجلوس:
- إنّ لطفي أكثر من أخ بالنسبة إليّ.. ستكتشفينه
تدريجيا.
جلس لطفي أمام المقود، وانطلقت السيارة بعد أن انفلتت من
بين الأيادي المرفوعة للسّلام، والزغاريد المبحوحة، والدعوات المجُاَملة والكاذبة التي تودّ لنا
الحياة الزوجية الهانئة والمزدانة بالرفاه والبنين.
وضع لطفي كاسيت في مسجل السيارة فانفجرت موسيقى المزود
كأنّها الطلقة في قلب الصمت. وتلاه صوت مبحوح يردّد في غير طرب: «أك دللي. واش
تايقولو فينا».
كمن يدافع عن نفسه في ردّ فعل تلقائي قلت:
- غيّر هذا الشريط.
لم يعلّق أحد، فاجأهم الأمر الحاد.
أغلق لطفي المسجل سريعا كأنّه ينفّذ أمرا عسكريا، وفي
المرآة العاكسة رأيت في عينيه نظرة شيطانية خبيثة ممزوجة بالإعجاب والتواطؤ
والوعود.
خفضت بصري، وهمس منجي:
-لمَ أنتِ
عصبية؟..
لم أردّ…
بعد قليل قطع لطفي الصمت قائلا:
- الساعة الآن حوالي السابعة والنصف..
هل نشرب كأسا بأحد الفنادق ثم نتعشى بمطعم دار الجلد حيث حجزت ثم نواصل السهرة
بمطعم الليالي.. أم ماذا يا مدام؟
- أفضل أن أرتاح قليلا ثم نذهب إلى
العشاء مباشرة...
وأضفت سريعا قبل أن تتحول نظرات منجي
إلى سؤال :
- منجي تستطيع أن تبقى مع صديقك حتى
موعد العشاء.
اتسعت نظراته دهشة ومرّة أخرى لم
أمنحه فرصة الكلام:
- أحسّ بصداع فظيع، أريد أن أنام
قليلا كي أسترجع عافيتي لسهرة الليلة.
أمسك منجي بيدي ووضعها في يده مربّتا
عليها قائلا في همس:
- طيّب حبيبتي، ستكون سهرة الليلة
خالدة..
دبّت في جسدي قشعريرة وامتلأ فمي برغبة
القيء، انسلت يدي من بين يديه مدّعية البحث عن أي شيء في حقيبتي اليدوية. ثم طلعت
أصابعي ممسكة بمنديل ورقي، مسحت به عرقا
نزّ من جبيني.
فتح منجي باب الفيلا الكبير المنقوش
ودعاني إلى الدخول قائلا:
- ادخلي بساقك اليمنى، لقد أكّدت
أمّي على ذلك حتى يكون قدومك إلى حياتي وبيتي مباركا عليّ. تفضلي حبيبتي.
رمقته بنظرة استهزاء بينما رنّت كلمة
حبيبتي ثانية في أعماقي كأنهّا فرقعة السوط على روحي.
تجوّل بي في أرجاء الفيلا الضخمة ذات
الذوق الشعبي « المتبرجز ».. ابتداء من تصميم الفيلا المعقد و وصولا إلى
الأثاث الذي تجد فيه الكلاسيكي جدا والحديث. صعدنا الدرج إلى الطابق العلوي. بعد
جولة قصيرة دخلنا غرفة النوم.
أوّل شيء لمحته كان حقيبتي التي تقف
منكسرة أمام خزانة الملابس الخشبية الضخمة المنقوشة. بدت لي كأنّها تستنجد بي،
كأنّها تمدّ عروتها مطالبة بالعودة إلى مكانها الطبيعي.
في تلك الأثناء كان منجي لا يتوقف عن
الكلام، وسمعته يقول:
- كان بودّي لو بنَيْنَا البيت معا،
وأثثناه معا، لكن لم يشأ النصيب ذلك. لقد
قام والدي بمهمة البناء والتأثيث ، بينما كنتُ في فرنسا. ولمّا عدت لم أسكن هنا
إلاّ أشهرا قليلةً بعدها عدت إلى السكن في بيت أهلي المجاور.. فأغلقت الفيلا في
انتظار صاحبتها.. وها هي صاحبتها.
اقترب أمسك يدي جذبني إليه في حركة
سريعة. وراح يقبّل عنقي مقتربا من شفتي، عندها صعق زامور سيارة من الخارج لينقذني.
ابتعدت عنه متصنّعة المفاجأة وقلت:
- هذا لطفي يستحثّك.
أخرج من جيب سترته سلسلة مفاتيح
ذهبية وقدّمها لي:
-هذه مفاتيح بيتك. وسيارتك المرسيدس.
أخذت السلسلة… تفحصتها، على طرفها
نُقش: " مُنَى عزوز ".
قلت بإيقاع بارد:
- " شكرا!
"
وانهمكت في فتح حقيبتي… لمّا رفعت رأسي.. وجدت
منجي واقفا ينظر إليّ مبهوتا وكأنني كائن قادم من كوكب آخر.
وراءه وقع نظري على لوحتي ملفوفة
بالجرائد والحبال الرقيقة متكئة على الحائط يسندها حتى لا تقع.
قلت:
- لماذا لم تعلّق اللوحة؟
- انتظرت قدومك لتختاري موقعها.
- ألم تفتحها؟ إنها صورتي.
- فضلت أن تفعلي ذلك بنفسك.
- في طريقك إلى لطفي ابعث لي من
يعلّقها.
- سيجيئك حارس المنزل.
كنت قد كشفت اللّوحة. أمسكها منجي
بين يديه، نظر إليها طويلا ثم أسندها إلى الحائط من جديد وابتعد ليراها. بعد صمت
ثقيل امتقع خلاله لونه وتقاطر عرقه سأل:
- من رسمها ؟؟
- صديق رسّام.
- طيب لا تتأخري في النوم، سأعود بعد ساعة.
نزل الدرج مهرولا، كالهارب، ونظرت حولي فاختنقت!
*** *** ***
دخلنا سقيفة مطعم دار الجلد المؤثثة
على شكل صالون صغير للانتظار فنهضت إلينا فتاة شقراء مزيفة، لا يخلو وجهها من جمال ، رشيقة وخليعة في
مظهرها.
قبّلها لطفي بحرارة وقدّمها لي:
- سكرتيرتي…
قهقه منجي بصوت عالٍ استفزّني، وقال موجها كلامه إليّ:
- سكرتيرته الجديدة.
تغاضى لطفي عن ذلك وقال مقدما إيايَ
إلى الفتاة:
- مدام مُنَى، عروس منجي.
قالت الفتاة بإيقاع رنّان:
- تشرّفنا..
استقبلنا رئيس النّدّل، ورحّب بي بشكل خاص بدا لي من خلاله تذكّر أنني كنت من روّاد المطعم الأوفياء.
تجمعنا حول الطاولة المحجوزة لنا.
أوقد النادل شموعا، ومن باحة المطعم تعالى
عزف آلة القانون مدغدغا أوتار الروح والذكرى.
سألت الفتاة عن اسمها فقالت:
- فاتن.
وضحكت طويلا، وقشعت خصلة من شعرها الأشقر إلى
الوراء.
خشخش صدر لطفي وهو يضحك ويقول:
- لقد أوقعتني أسير فتنتها.
جاء رئيس النّدل يسجل طلباتنا وكلّف
لطفي نفسه لينوبنا في تحديد رغباتنا:
- هات قنينة ويسكي وثلجا، ثم اصنع
لنا مزّة منوعة، وجهّز سمكة كبيرة "لنحوّت بها" على العروسين.
قطب الرجل جبينه وهو يسجّل الطلبات.
لما أنهى التسجيل تطلع إلى منجي محدّقا فيه.
وربما كان يقارن بينه وبين مجدي،
ثم تطلع إليّ وقذفني بكلمة: " مبروك ". ولما همّ بالانصراف قال له لطفي:
- انتظر ،
ثمّ التفت إليّ سائلا:
- هل تشربين الويسكي بالكوكا أما
بالماء ؟
لم أتمكن من الردّ إذ أسرع منجي
قائلا:
- زوجتي لا تشرب.
قطّبت جبيني، زممت شفتي، ولبستني
حالة من السخرية، وهمست لنفسي: "يبدو أن الحرب ستبدأ الآن".
تجاهلته في برود، وقلت للنادل الواقف
أمامنا كمتفرّج وحيد على المسرحية:
- كالعادة.
بسرعة جاء ردّ النادل متواطئا في شكل
ابتسامة مكتومة. وقالت فاتن موجهة سؤالها
إلى لطفي:
- لماذا اخترت هذا المطعم الكئيب؟
وأسرع لطفي يجيب حتى لا تواصل
كلامها:
- لقد اختارته السيدة مُنَى، فأحببنا
أن ندلّلها ليلة زواجها. لكننا سنواصل السهرة في "الليالي" وسترقصين
حبيبتي حتى الفجر.
عاد النادل سريعا حاملا على طبقه
كأسا من شراب "الجيـتر" ممزوجا بعصير الليمون، وضعها أمامي بعناية
وسألني:
- هل أضيف قطعا أخرى من الثلج؟
أشرت برأسي نعم.
ثم رفعت كأسي وقلت بتحدّ:
- على صحة مُنَى حامد عبد السلام.
ترك منجي كأسهُ على الطاولة كطفل
غاضب، وإذا بلطفي يحرضه على رفع كأسه متقيا شرّ القنبلة التي قد تنفجر بين لحظة
وأخرى.
وطوال العشاء لعب لطفي دور وسيط
السلام بيننا.
وبينما كان منجي يعبّ "
الوسكي" ليتجاوز ما حدث ويقتنع بلغز
المرأة التي لهث وراءها سنوات، كنت أنا أشرب النبيذ الأحمر ليكون سندي على تحمّل
ثقل الليلة الكئيبة.
الفصل ( 9 )
لم يسبق لي أن سهرت في مطعم " الليالي"..
وطوال فترة العشاء في" دار الجلد" كان لطفي يقوم له بإشهار يكاد يكون
خرافيا حتى إنه استنهض فضولي ورغبتي في الاكتشاف رغم إحساسي الداخلي بالإحباط و
اللاجدوى.
لما دلفنا إلى المطعم الأسطورة كما قدّمه سي لطفي، لم
ألحظ أي شيء غير عادي.. ديكور بسيط لا ينمّ عن ذوق رفيع ولا عن سمة مميزة. طاولات يمكن أن تكون في أي مطعم من مطاعم
الدنيا، ومكان ضيّق وإضاءة شبه خافتة.. ولا شيء يلفت النظر.. عند المدخل هرع إلينا
مجموعة من الندّل لاستقبالنا وعلى رأسهم صاحب المطعم كما حدستُ، ممّا دفع أوداج سي
لطفي للانفتاح، وكأنّ في ذلك اعترافا بمكانته التي لم أميزها بعد. جلسنا إلى طاولة
محجوزة مسبقا وتوالت الخدمات دون أن نطلبها، فامتلأت الطاولة سريعا بأنواع مختلفة
من المفتحات وأشعلت الشموع.. وانتصبت قنينة الويسكي "شيفاز" كأنّها
ملكة وسط الطاولة بين الورود.
كان منجي قد بدأ يفقد وعيه، فقد كان واضحا الجهد الذي يبذله
كي يبدو صاحيا وحاضرا معنا.
جاء صاحب المطعم باشًّا مرحا يطمئن على الوضع، ثم التفت
إلى منجي وهنّأه على زواجه بعد أن أكّد له لطفي أن أمور المائدة على أحسن حال.
وبحركة رشيقة متواضعة هنّأني متمنّيا السعادة وداعيا أن تعجبني السهرة كي تظل
ذكرى جميلة في حياتي. شكرته. وإذا بلطفي
يرفع الكأس ويدعو الجميع كي يشربوا في صحة العروسين. رفعت كأسي لترتطم بكأس لطفي. وكذلك ارتطمت
نظراتنا.
شيئا فشيئا وكلّما تكثفت سحابة الدخان في سماء
المطعم توضحت لي الرؤية وبدت لي ملامح
المكان المميزة التي لم أتبينها في
البداية. كان زبائن المطعم مختلفين . فهنا لا مكان للعلاقات السوية في عرف
المجتمع. فلا عائلات إلاَّ تلك التي يسمح فيها الوالد لابنته بأن تجلس قبالته رفقة
عشيقها، في لحظة حميمية بينما يتكفّل هو بتوزيع الويسكي على الكؤوس ليشرب على نخب
زوجة صديقه، وتشرب زوجته على نخب صديق زوجها.
هنا يحضر أيضا رجل الأعمال الذي لم تبق أمامه من رغبات
الدنيا سوى تكويم الأموال والعشيقات فيحيط نفسه بهنّ ليبدو كأنه الدّيك في سرب من
الدجاجات.
أما المسؤول الذي لا تسمح له فضاءات المدينة المكشوفة
بأن يختلي بسكرتيرته فإنه يجد في " الليالي" ما يحلم به، حيث السهر حتى
الصباح، إذ لا قانون هنا سوى قانون المال وسلطان الرغبة والشهوة التي تُعتّق ساعات
لتتدثر في الصباح بعرف القطيع وتعود أمّة مطيعة في سير النظام العام.
أعجبني
المطعم، إلاّ أنّ ذلك الاستهتار
المبالغ فيه منعني من الانسجام كليّا مع الجوّ العام الذي نشط حالما رنّ صوت
المطرب في غبش الرؤية يدلق مزيدا من السحر على الروح حتى يكون السقوط في هوّة
السكرة بلا نهوض، وبلا صباح.
كان لطفي لا ينقطع
عن مَلْءٍِ الكؤوس و عن مغازلة عشيقته فاتن ، وهي بدورها ما فتئت تضحك
بخلاعة، في حين لم ينفك السيد زوجي عن
ترديد كلمة: "أنا فايق". لكنه كان يتقدم نحو الغيبوبة بكؤوس حثيثة، كان صديقه العزيز لطفي مسؤولا عنها، بنشاط
كبير، وبتخطيط مسبق انتبهت له حالما
استتبت جلستنا هنا.
قال لي لطفي وقد سحبت فاتن منجي تراقصه وعرقه لم يجف بعد من رقصتي معه:
- لقد حدّثني عنك منجي كثيرا حتى إني طلبت منه ذات مرة
أن يخطط لأراك من بعيد. الحقيقة أنه أشعل فضولي بحكاياته عنك كي أكتشف هذا الكائن
الذي شُغف به منجي الى هذا الحدّ.
ضحكت بدلع
متعمّد وقد حدست ما يرمي إليه لطفي وقلت:
- وماذا اكتشفت؟
انتبه إلى التشجيع الذي دسسته في سؤالي فاندفع يقول:
- اكتشفت أجمل امرأة في الوجود. أمّا عنادك الذي أرهق
منجي فقد دفعني إلى إسناده بعنادي وإصراري ليفوز بك، وها قد نجح.
- إذن، هذا النجاح يحسب لك ولا له.
وكأنّ لطفي أدرك أنّي فتحت له الباب على مصراعيه ليدخل
سريعا. فقال حذِرًا في شبه تساؤل:
- هل نشرب نخب نجاحي ولقائنا؟
- لا بل نرقص احتفاء بذلك.
لم أترك له فرصة للتفكير وسحبته من يده إلى الحلبة التي
تعجّ بالسكارى وأنصاف المجانين. أيقنت في تلك اللّحظة أن المجنونة التي أحبسها في
قاع نفسي قد فكّت سجنها وانطلقت إلى العبث.
وفي آخر نقطة من وعيي أدركت أن الليلة لن تمرّ على خير.
سقط هذا الخاطر
على الحلبة فتكسّر ثم رفسته الأقدام المختلفة التي تلطم البلاط كيفما اتفق
.
كان لطفي كالريشة في سماء المتعة بالفوز. فهو لم يصدق
أنّني أراقصه بمثل ذلك الجنون والإغراء متجاهلة تماما منجي الذي أصبح زوجي منذ
ساعات، وهو بين يدي فاتن كأنّه الخرقة تمسح بها البلاط. أعجبتني فاتن وهي تفعل به
ذلك، بينما لم تخف أن ما أفعله أنا
بعشيقها لا يعجبها، إذ حاولت أكثر من مرة أن تأخذ لطفي كي تراقصه، إلا أنه كان
يرفض متشبثا بالعصفورة التي دخلت قفصه.
أشرت إلى نادل كان يمرّ قريبا وهمست له أن يطلب من
المطرب أن يغنّي للعروس أغنية أم كلثوم
"هذه ليلتي".. بعد لحظات انقطعت الموسيقى ووصلني صوت المغنّي العذب
مهنئا ، داعيا بالسعادة، ثم عزفَتْ الفرقة موسيقى الأغنية.
بعد توقف قصير التُقط خلاله تغيير الإيقاع من موسيقى
الصخب والحركة العشوائية إلى موسيقى الروح عاد الجميع إلى الرقص، لكن شيئا فشيئا
لم يبق في الحلبة سواي، حتى لطفي انسحبتُ منه لأتوحّد مع ذاتي وأُخلص للفعل الوحيد
الذي كنت أرتكبه وهو الرقص. لم أكن أتفاعل مع موسيقى الأغنية و إيقاعها بقدر ما
كنت أستمع إلى عزف داخلي وإيقاع نحيب كانت تنشج به روحي. لم أعد أرى أحدا من حولي
ولا أسمع شيئا، فقط كنت أبذل كل الجهد في الرقص وكأنّني مكلفة بمهمة رسمية
مستعجلة.
كنت في الحقيقة منهمكة أغسل روحي من أدرانها وأرفع عنها
ثِقَلَ تراكمات الحياة. كانت حركة
جسدي وتنتحب وتثرثر في صراخها لتعيد لهذا الجسد لهو طفولته وتُعيد لهذه الروح
خفّتها.
انتبهت لمّا كان لطفي يشدني من كتفيّ ويهزّني ويهتف في
وجهي:
- مُنَى.. مُنَى.. مُنَى.. أفيقي.. انتبهي.. أفيقي..
كان الصمتُ يلفّ المكان، فلا موسيقى ولا صخب، ولا ضحكات،
كانت الدهشة ذابلة تطلّ من أعين سكرانة نصف مفتوحة، وسألت:
-لماذا
انقطعت الموسيقى؟
أجابني لطفي وهو يضع جاكيت تايوري
على كتفيّ ويدسّ قميصي بين يديّ:
-لقد انتهت
الأغنية منذ زمن، أما أنت فعلى أيّ موسيقى كنت ترقصين؟
تطلعت إلى جسدي فإذا بي عارية إلا من
ملابسي الداخلية بينما تكاد تنورتي أن تسقط
علي فخذيّ !.
بدهشة سألت:
- من فعل بي هذا؟
سحبني لطفي إلى تواليت النساء هامسا
في أذني:
- لقد سكرت..
في التواليت حاول لطفي مساعدتي على
ارتداء ملابسي، إلا أنني شكرته وأغلقت الباب. لطمت وجهي بحفنة ماء باردة أعادت لي
وعيي ولطّخت ماكياجي. سمعت طرقا خفيفا منغما على الباب، فتحت،
وإذا به لطفي يقدّم لي حقيبتي اليدوية في خشوع المحتالين. أصلحت من شكلي
ورتبت شعري الذي تناثر. وبخخت عطرا على صدغي. كان لطفي يتطلّع إليّ في المرآة
بنهم.
قلت وقد تناهى إليّ الصخب والموسيقى:
-يبدو أن
الحياة عادت إلى المطعم،
وأردفت :
-كم
الساعة؟
لم أنتظر جواب لطفي إذ تطلعت إلى
معصمي ودهشت لمّا رأيت أنها السادسة صباحا.
استغربت ذلك وعدت أسأل لطفي:
-هل
يتأخر المطعم في السهر حتى هذا الوقت؟
- بل أكثر من ذلك.. أحيانا يتواصل
السهر حتّى التاسعة صباحا !
بلغنا الطاولة وقد عاد كل شيء في
المطعم إلى حاله. وإذا بمنجي يشخر وقد ألقى برأسه إلى الوراء على ظهر المقعد،
بينما لم تكن فاتن هناك!
انتبه لطفي إلى السؤال الذي لم أنطق
به وقال:
- ها هي هناك ترقص مع الجميع.. في
النهاية لا فرق عندها بين هذا وذاك.
قلت:
- فلنعد إلى البيت، يكفي سهرا.
قال باستغراب:
- دون أن تذوقي "سباقيتي"
عم الحبيب؟
- الآن؟.
- نعم الآن، إنها من اختصاصات المطعم
التي يقدمها للساهرين ابتداء من الخامسة صباحا.
جلست وبإشارة من لطفي حضر طبق "
السباقيتي" ساخنا يتصاعد بخاره ليزيد
من كثافة السحابة التي تحطّ على رأس المطعم ريشة شاهدة على عبث الساهرين. واعترفتُ
أني لم أتذوّق " سباقيتي " بمثل
تلك اللذّة. وزاد اعترافي من نشاط لطفي
فطلب كؤوسا من الويسكي. شربنا على نخب
صداقتنا التي أصبح لطفي يتحدث عنها وكأن عمرها آلاف السنين.
قلت:
- يبدو أننا انطلقنا في الشوط الثاني
من العبث.
نطّ لطفي على كرسيه وقال:
- ولنكمله على البحر.
ولم ينتظر سؤالي الذي ظلّ معلّقا في
حلقي. وأشار إلى نادل ضخم الجثة فجاء سريعا وأخذ منجي على كتفه ليضعه في السيارة. وبدا لي من حركته أنه متعوّد على
هذه المهمّة. ثم بحث لطفي بعينه بين الطاولات فرآها ترقد في حضن أحدهم وهمس: إلى
" الجحيم! " ثم سحبني من يدي مهرولا وملقيا بالسلام إلى صاحب المطعم
الذي لاحقنا حتى الباب، لكن لطفي لم يبال به، وكان سلامه كمن يلقي بصدقة إلى
متسوّل في الطريق.
انطلقت السيارة تسابق رغبة لطفي
المجنونة المتأججة، بينما كان زوجي المحترم يرقد على الكراسي الخلفية. كان صوت عبد
الحليم ينبعث من الراديو مرددا في حنوّ:
"اسبقني يا قلبي اسبقني عَ الجنة
الحلوة الحقني.
اسبقني وقول لحبيبي أنا جاي على طول
يا حبيبي" ليزرع في نفسي الخفيفة الهشة ورودا زاهية، ويضيء داخل نفقي
شمعة ميلاد جديد. في هذا البصيص من الضوء رأيت شبح لطفي يتسلّل إليّ، يغريني
باندفاعه.. بثقته العالية في نفسه، بتلقائيته ودهائه في ذات اللحظة، بوضوح الرؤية
لديه، يغريني بفحولته.
منذ زمن لم أر الصباح جميلا كهذا الصباح. ومنذ ساعات لم أكن
أتوقع أن يكون صباح زواجي بمثل هذا الألق،
وهذه الخفة. وتطلعت إلى لطفي بجانبي يسوق السيارة بوثوق بعد كل ذلك الويسكي
الذي شربه. أحبّ الرجل الذي لا يهتزّ مهما مرّ عليه من أهوال الدهر. ومنذ التقيت
به لم أدقق النظر فيه كما أفعل الآن، فإذا بخشونته بهاء الرجولة. أحَسَّ بنظرات
حارقة تأكل نصف وجهه فالتفت سائلا ضاحكا:
-هل هو فحص
فنيّ؟
ضحكت. بل غرقت في هستيريا من
الضحك، وانطلق لطفي معي يضحك، ويضحك، وعلا ضحكنا حتى خلتُ السيارة ستنفجر.
فجأة نزل عليّ الصمت كصاعقة.. انتبهت
إلى أن ضحكنا سيوقظ الجثة الملقاة في الخلف! ولا شعوريا التفتُّ وإذا بشخيره يعلو
ويقطع حيرتي. بينما عاد لطفي إلى الضحك والمرح محاولا إيقاظ منجي.
- أفق يا منجي، أفق إن الليلة ليلتك
يا صاحبي.
ثم اندفع لطفي يقول ألفاظا سوقية
موجها إياها إلى منجي. والحقيقة أنني لم أحسّ أن الأمر يعنيني، ولم أشعر أن لطفي
حتى ولو كان الأمر فذلكة كان يسخر من رجولة زوجي الذي بتّ أحمل اسمه الآن أمام
المجتمع والربّ. بل إن ما حدث في أعماقي أن إغراء لطفي كبر حتى بات شهوة واقترابا
كاملا من هذا الرجل الذي أعادني طفلة، بل تلميذة مراهقة تهرب من ساعات الدرس لتركب
مرسيدس تفرّ بها إلى الخلاء لينطفئ بعد قليل الانبهار بالسيارة ويشتعل بالرجل
الكهل الذي يسوقها. لم أعش في مراهقتي مثل هذه المغامرات. لذلك أستمتع بها الآن
وكأنّني فعلا تلميذة في الثانوية مازال حلمي كبيرا وجسدي صغيرا.
في تلك اللحظة تماما مدّ لطفي يده
لتقبض على يدي، وفي حركة مندفعة، وبلا أدنى تردّد أو انتظار للموافقة ضغط عليها
وعصرها كعصفور فانتفض القلب في الداخل فائضا بالرغبة.
وكأنّ لطفي حدس ما حدث في أعماقي . فأوقف السيارة فورا بعد أن دفن مقدمتها في غابة من الأشجار، وانقض عليّ كأسد جائع سيفترس غزالا، في حين ضاع
تمنّع أنوثتي الراغبة الملتهبة بين شفتيه اللذيذتين.
*** *** ***
وعدنا إلى القطيع، فجلسنا في مقهى
ميناء سيدي أبو سعيد، أناسًا عاديين نشرب
قهوة الصباح ككل المنضبطين الذين ناموا طوال الليل ليبدؤوا نهارهم بقهوة الصباح.
شربت قنينة ماء صافية وطلب لطفي من
النادل أخرى. اندلق الماء باردا في جوفي يطفئ بقايا الحريق الذي اشتعل منذ لحظات
سعيرا من الرغبة المجنونة.. كان كل شيء مختلفا وغير عادي. المكان والظرف والزمان..
فكانت المتعة خرافية.
كان طعم القهوة المرّة في فمي لذيذا
وكان الصباح في لون الفيروز، لون الأزرق البحري في لحظات السكون والهدوء.
كنت منغمسة في أعماقي أقطّر فنجان
متعتي و أتلحّسه. وفاجأني صوت لطفي الذي بدا لي مميزا برنينه المدوّر، وهو يقول:
- منذ لحظات رأيت على وجهك أجمل
تعبير يمكن أن يبدعه الخالق.
ضحكت بدلال ، ووضعت وجهي بين كفيّ
كما فعل هو ونظرت في قاع عينيه وهمست بدهشة مصطنعة:
- حقّا!! كيف
ذلك؟
- أقيّم جمال وجه المرأة في تلك
اللّحظة تماما، وخلالها كان وجهك أجمل وجه صادفته في حياتي.
قلت هازئة:
- يتوقف ذلك على عدد الوجوه التي رأيتها!
ضحك وجلجلت ضحكته ارتدّ إلى الوراء
مستندا إلى ظهر الكرسي قائلا في فخر:
- هي في
الحقيقة لا تحصى ولا تعدّ.
ابتسمت.
وسرّحت بصري في المراكب الراسية على الميناء تدعو إلى السفر.. وعنّت ببالي رغبة، وفورا أطلقت سبيلها إلى الكلام
لتخرج إلى لطفي:
- هل
تسافر معي إلى إسبانيا؟
- ماذا؟ وزوجك؟
- لا
عليك، أجب، تسافر أم لا؟
- طبعا
أسافر، والآن إذا شئت، لكن...
- امسح
"لكن" من قاموسنا، إذن رتب أمورك لتكون معي في طائرة الغد مساء!
لثوان
بقيت الدهشة متشبثة بوجهه، لكنه اقتلعها سريعا، وفتح أساريره وقال:
- اتفقنا، والآن سنذهب. أمامي مهامّ
عديدة سأنجزها قبل السفر.
*** *** ***
كانت الساعة حوالي التاسعة صباحا عندما ألقى لطفي
بصديقه منجي على السرير كأنه كيس البطاطا. وبرغم ضوء النهار وحركته وضجيجه لم يحرك
زوجي ساكنا، ولم يستيقظ من سكرته. أبديت استغرابي فأكّد لطفي أن تلك عادته، وأنّه لن يستيقظ إلا ظهرا.
وعلّقت:
-كيف كان يجيء إلى الجامعة إذن؟
- لم يكن يثقل في الشرب إذا ما كانت
له ساعات درس.
سلّمت لطفي حقيبة ثيابي وأعدت اللفافة على الصورة بينما كان لطفي يحاول
رؤيتها، وقلت:
- شاهدها على راحتك في السيارة. الآن
قل لي كيف أتصرّف في الكرسي ؟ كيف سنأخذه ؟
- أعتقد أن صندوق السيارة يحتويه.
- إذن عد إليه كي تأخذه.
لا أدري لماذا هاجمني فجأة إحساس
اللصّ. في حين أنني كنت آخذ أشيائي. كانت دقات قلبي سريعة لما كنت أبحث عن ورقة
وقلم. وأخيرا عثرت عليهما في الغرفة المجاورة وكتبت: "سأنتظرك في السادسة في
فندق المشتل. مُنَى".
وضعت الورقة على المرآة في غرفة
الحمام، وغادرت البيت وراء لطفي الذي كان يحمل الكرسي الهزّاز.
تركني لطفي أمام باب منزلنا وحولي أشيائي، بعد أن غمز بعينه ولوّح بيده
مؤكدا ما اتفقنا عليه. همّت يدي بفتح الباب،
ثم تجمدت في الهواء، أعود مهزومة! ما أثقل ذلك عليه.
ضغطت
على زرّ الجرس.. وانتظرت، وفكّرت، لعلّ عمي لم يسافر بعد، كيف أجيبه؟
وقطعت تفكيري هدى ابنة عمّي وهي تصرخ
وتهرول في ممشى الحديقة:
- مُنَى.. ما بك.. ماذا حدث.. إن شاء
الله خير..
- ساعديني على حمل الكرسيّ.
تركت كل شيء في الممرّ وركضت إلى
غرفتي وسريري أحضنه بشوق ثم نمت.
الفصل
(10)
القلب يعشق ثانية لكنه لا يحبّ
ثانية.
أبدا هي مرّة وحيدة وفريدة يحبّ فيها
القلب وإذا بهذه المرة تأخذ العمر كلّه، بينما العشق شرارات تقدح في كل مرة فتعيد
للقلب اخضراره وللروح صفاءها.
عشقت مجدي، ولمّا بدأت أحبّه هوى
الصرح فاكتشفت أني أنثى خلقت للعشق ولم تخلق للحبّ. بيني وبين مجدي حدثت الكارثة
بينما كنت في أولى خطوات الحبّ بعد عشق خرافي قد لا يحدث إلاّ في الأساطير.
انتهى العشق وتفتت جنين الحبّ وبقيت
الأسطورة خالدة في الذاكرة وفي غابة القلب المتوحشة. في دغل من أدغال هذا القلب
النزق الذي رفس قران الحبّ قدحت "عشقة"
لطفي، ثمّ كبرت داخل العاصفة.. ثم تحولت إلى قوس قزح يزين سماء صفت بعد
العاصفة. يمنحني ذلك الصفاء سلاما داخليا وإحساسا بالأمان والقوة لا يمكن لكل تلك
المشاكل في الخارج أن تزعزعه مهما كشرت عن أنيابها.
كان هذا السلام يرفرف وأنا أمنح يديّ
بكل رضا إلى يدي لطفي يداعبهما على طاولة المطعم في الفندق الذي كنّا نسكنه في
غرناطة. كان لون الشمس الذهبي يضيء المشهد بكثافة حتى إننا نبدو داخل اللّوحة في
الذاكرة كلطخة ضوء تعمي الرؤية من فرط
توهجها. أمّا التفاصيل فإن القلب يحفظها بأمانة. لم أكن أعتقد أبدا أن جسدي مازال
يخبّئ لي كل ذلك القدر من المتعة المتألقة ببريقها الجديد. اعتقدت لزمن طويل أن
هذا الجسد أدمن المتعة التي اكتشفها مع مجدي حتى توهّم أن لا خلاص له منها، بل ولا
يمكن له أن يصنع غيرها. وإذا بي أكتشف أنّه كالحرباء قادر على المعجزات، ويكفي أن
يأمره القلب العاشق بالإبداع في إنجاز المتعة حتى يكشف عن قدرات خارقة، وعن مكنونات ثمينة دهشتُ لها بعد أن أصبحت
لفترة طويلة أجرجره ثقيلا وراء روح أثقلَ منه.
تحرّرت الروح من أوزارها وانطلق
الجسد كسهم يركض في شوارع المدينة يتشمم رائحة الأجداد في الزوايا المعتمة، ويلامس
التراب الذي كان لنا ثم أصبح لهم .
جلسنا على الدرجات المبلّطة بحجر
مصقول نقشته الأقدام العربية بخطواتها منذ آلاف السنين. كنّا نأكل ساندويتش
بالمرقاز المشوي، ونشرب نبيذا أحمر إسبانيا معتقا.
قال لطفي:
- لعلّ هذا النبيذ عصر في عهد
أجدادنا!
خلت أنّي أجلس على نفس الدرجات في
سيدي أبي سعيد. لكن هل أعثر على البحر بعد قليل تحت السفح؟
- هو بالتأكيد كذلك بما أن الكروم
تعيش طويلا!
قهقه لطفي حتى بدت ضحكته كأنّها مُمَسْرحة، ثم جذبني إليه برشاقة وقبّلني بسرعة.
كنت أعرف أن العشق كائن بدائي تلقائي إلى حدّ الهمجية، لكني لم أكن لأعرف أنه
قادر على تخطي المدى كلّه في الاندفاع حتى
أن كل الصفات تصبح غير لائقة به. أذهلتني جرأته على خلع أبواب الغرباء ليجد كل
الترحيب وحسن الاستقبال. وأدهشتني قدرته على التجوّل في القلوب الغريبة وكأنّه
يفعل ذلك في قلب صاحبه.
منذ ساعات كان لطفي قلبا غريبا، ومنذ
لحظات غير بعيدة كنت متربصة كنمرة. فجأة،
وفي سرعة عجيبة تحوّل الغريب إلى عشيق أقرب إلى النفس منها. كل شيء حدث في غيبوبة السكر
وصحوة القلب… جئت إلى اللّحظة الموعودة من قمّة حزني الأبدي، وجاء من صحراء
الأنوثة المستحيلة. كان الذكر داخله شرسا،
وقحا، قاسيا وحنونا في ذات الحين. كان يبحث في عن أنثى حقيقية، أنثى شرسة،
قوية وضعيفة، ترغب وتتمنّع، تعبد المتعة في أعماقها وترفسها بكعبها. كان يبحث عن
أنثى توقظه من وهمه، فيركض في الصحراء
وراء الغزال الشارد الخائف الحزين الهارب من ذاته وعناده. ولمّا كان اللقاء كان
العشق جاهزا برباطه، وشمعته تضيء دهاليز النفس وتقود إلى اكتشاف العتمة داخلها.
داخل قصر الحمراء كنت أحسّ بنفسي
أقرب من كل السياح إلى هذه الحجارة، والى هذا الصرح الشاهد على براعة العرب
وقدرتهم على الإبداع. خشوع الفضاء كان يسلب النفس قوّتها ويلقي بها في الدهشة أمام
عظمة الإنسان. كان لطفي يضحك عاليا وهو يشاكس السياح بلغة إنقليزية مشوّهة. كان
يحاول أن يتباهى أمامهم بتاريخ الأجداد. وكنت هائمة على سحابة تحوم بي في سماء
العشق وسحر التاريخ، حتى شفّت روحي فجُرحت، وتقاطر الدمع على الخدّ.
سحبني لطفي وجلسنا على عتبة منزوية
بعيدة عن كوكبة السياح ودليلهم. دسّ رأسي في حضنه وعصرني حتى الألم، وفي صمتي رجوت
المزيد، بينما همس:
- سأغسل
أنوثتك بهذا النبيذ الأحمر، هنا في قصر الحمراء.
وفي صمتي
همست لنفسي: حتى تظلّ هذه اللّحظات في الذاكرة لطخة حمراء...
*** *** ***
على طاولة العشاء.. وعلى إيقاع
موسيقى الفلامنكو، ووقع أقدام الراقصة
التي كانت تلطم بلاط المطعم بكل ما أوتيت من قوة جسدية، سألني لطفي:
-لم تروي لي
بعد كيف تصرّفت مع منجي؟
ابتسمت، ربّما في سذاجة، وبدا سؤاله كفأس هوت على تراب ذاكرة قديمة. ثم
تحوّلت ابتسامتي إلى إحساس بالانتصار،
خرجت على إثرها كلماتي في حماسة من بين غبار الذاكرة المتناثر:
- جاء إلى الموعد الذي ضبطته على
الورقة. تخلّص من ثقله على المقعد الوثير
فبدا كأنه يداري هزيمته عن أعين الناس في الفندق. كنت قد سبقته إلى الموعد عمدا كأنّي كنت أحبّ أن أراه
قادما، يجرجر فشله وراءه. لم يحاول أن
يستفسر عمّا حدث، أو أن يثور لكرامته، كان مستسلما و مستعدا لكل ما سيحدث حتى إنه
فاجأني.. لم أنتظر أبدا أن يكون بمثل ذلك الاستسلام!.
عندما نطقت بعد صمت طويل وسلام بارد
أسأله ماذا يشرب قصم قلبي خيط شفقة سرعان ما سحَبتُه، حتى لا يظلِّل قراري.
وأجاب بصوت مبحوح:
- يكفي ما شربت البارحة!
عدنا إلى الصمت نلوذ به، وكنت أتحيّن
اللحظة التي ألقي فيها قنبلتي دون أن أفتت بقية كبريائه. لكن عندما قلت له إنه يجب أن نمزّق الورقة التي
كُتبت مساء أمس لتجمع مصيرينا لم يتزعزع ولم يفاجأ. همس وكأنه يوجه الكلام إلى
نفسه وليس إليّ:
- كان عليّ أن أصدق أمّي لما قالت
إنّ هذه المرأة لا تليق بك!
فتحت حقيبة يدي وأخرجت صندوقا صغيرا
وضعته على الطاولة وقلت:
-
لعل هذا الذهب يليق بامرأة أخرى.
وضع لطفي كأسه وتقاعس إلى الوراء
مستندا على ظهر الكرسيّ، ثم همس بكثير من الأسى:
- أحسّ بالذنب نحو منجي، لقد
استعملته مطيّة لأصل إليك. أكنّ له عطفا شديدا، لكن أنانية الإنسان أكبر من كل
شيء.
سألته:
-
هل خططت لذلك؟.
- الحقيقة أن الأمر في البداية كان
على طبيعته.منجي صديقي، وفي سهراتنا التي نؤثث بها فراغ الروح كان يشكو لي هموم
عشقه لك. عشق أو حب لامرأة عنيدة ، متعالية ، مغرورة، هكذا صوّرك لي أو صوّرتك
لنفسي من خلال كلامه. لكن شيئا فشيئا توضحت الصورة، وحدست من خلال حكاياته أنك
امرأة مختلفة. عندها تحوّلت مواساتي له التي كانت عادية إلىإغراء، ولعلّني لم
أنتبه إلى أنني سأخسر مقابل ذلك منجي…
-هل سينتبه
لما حدث بيننا؟
- بالتأكيد، صحيح أن ذكاءه محدود
لكنه ليس بساذج.
ضحكت.. ثم كبرت ضحكتي وتحوّلت إلى
هيستيريا لفتت انتباه جلاّس المطعم، ولم يفقه لطفي سبب ضحكي. بعد جهد هدأت، وقلت:
- هل تعتقد أن تخطيطك وتحريضك لمنجي
هما السبب في هذا الزواج العجيب ؟
وعدت إلى الضحك، ثم واصلت أمام
استغرابه الذي تحول بعد قليل إلى دهشة:
- أبدا، المشهد عندي مختلف تماما.
لقد وضع القدر منجي في طريقي ليكون الخرقة التي مسحت بها قلبا ملوّثا بالأحزان.
أردت أن أنتحر من خلاله، أن أقتل قلبا
نزقا، أن أهدّ إرادة مجنونة للحياة، أن أحاول ترميم فتات علاقة عزيزة عليّ، هي علاقتي بوالدي..
هبط عليّ الصمت كصاعقة، واجتاح
ذاكرتي مشهد لقائي مع مراد… وسمعت أزيز الكرسيّ الهزاز وهو يذهب ويجيء . وتصبب عرق
بارد على جبيني سال حتى ذقني واجتمع مع دمعة يتيمة عنّ لها أن تفرّ من حبسها.
انتبه لطفي للوجع الذي يعصر داخلي،
فهبّ نسمة داعبت خدّي بقبلة ومسكت أصابعي بين يديه الغليظتين السمراوين كعصفور
مبتلّ.
غادرنا المطعم وتمشينا على طريق
الصمت في باحة الفندق قال:
- هل نشرب
القهوة في غرفتك أم في" الكوفي
شوب" ؟.
- لا هنا ولا هناك، أريد أن أختلي
بنفسي إن سمحت.
-كيف أتركك
على هذه الحال؟.
- لا تنزعج… ستمرّ العاصفة بعد حين،
حقًّا . أريد أن نعود غدا إلى تونس…
قطب جبينه وقال:
- لكن الأسبوع لم ينته بعد!
- إذن أعود وحدي، يجب أن أعود.
- لا. لا. لا عليك.. غدا باكرا سأذهب
إلى مكتب الطيران لأقدّم موعد العودة.
الفصل ( 11 )
هرولت هدى ورائي في الممرّ تحمل
حقيبتي وهي تسأل:
- ماذا جلبت لنا من فرنسا؟
ابتسمت رغم حزني الذي عاد يلبس روحي
وقلت:
- لم أسافر الى فرنسا بل إلى سوسة.
دفعت باب الغرفة لتجتاحني شبه إشراقة
انطفأت حين خفض والدي نظره...
أخذت يديه بين يدي أقبلهما، وجثوت
على السرير قربه متمنية أن أسمع صوته ينطق بالغفران.. لكنه سحب يديه ليترك شفتيّ
تقبّلان الوهم.
قالت هدى وهي تقف عند الباب:
- لكن زوجك سي المنجي قال إنك سافرت
إلى الخارج.
رفعت رأسي مستغربة وسألت:
- هل جاء منجي إلى هنا؟
- نعم.. وجلس طويلا مع والدك.
وهمست في أعماقي: "النذل زاد من
تحريضه".
أسرعت إلى التلفون أدير رقمه بعصبية
واضحة، ولاحقتني هدى تقول:
- عندما قدمت له القهوة سمعته يقول
لعمّي بإنك هربت من الفضيحة!!
رنّ التلفون في بيت منجي حتى نفد
صبري. وحين كدت أضع السماعة وصلني صوته
يقول:
-ألو..
تخيلت هذه "الألو" تطلع من
جوف معبأة بالوسكي الفائر والأكل المختمر. وبحركة لا إرادية أبعدت السماعة عن
أذني… بسرعة أدركت حاجتي إلى الصراخ في وجهه. أجبت بسرعة:
- منجي، هذه أنا..
بعد صمت أضفت:
- هذه مُنَى. هل تتفضل بزيارتنا بعد
ساعة ؟
-مُنَى...
متى عدت من السفر؟
بدت لي لهجته كأنّها تفتح باب الصلح. أجبت بحماسة تلامس
حدود الغضب مغلقة كل المنافذ إلى مطْمَعَهِ في المصالحة :
- ماذا قلت؟ هل تجيء أم أجيء؟
- طبعا.. طبعا لن أردّ مطلبك.
*** *** ***
أججتُ رغبة هدى في الذهاب إلى الحمام التركي، أرسلتها
هناك متأكدة أنها ستقضي العشية كلّها تدلك
جسدها وتفرك شعرها، وتعيد فعل ذلك حتى
تبيضّ بشرتها ويرطّب شعرها. وضعت الكرسيّ الهزاز في غرفتي، قبالة سريري الذي فرشت عليه ملابسي الداخلية
وقمصان نومي ونثرت فوقه عطوري. ثم علّقت اللّوحة على الجدار فوق الفراش، لأوّل مرّة أعلّق اللّوحة منذ أهداني إياها
مجدي في عيد ميلادي الثلاثين. جلست على الكرسي،
واستسلمت لاهتزازه أروح وأغدو في الذاكرة، وأنظر إلى صورتي وملامحي وجسدي
كما رأتها روح مجدي وريشته.
لأوّل مرّة أتأمل اللّوحة بمثل هذا العمق، ولأوّل مرّة أنتبه إلى تلك القسوة التي أسبغها
مجدي على ملامحي. وبرغم الضحكة الكبيرة التي رسمها على وجهي وبرغم إشراقة نظرتي،
اكتشفت مسحة من القسوة تغلف كل الوجه. أمّا الوضعية التي رسمها فقد كانت أحبّ
الوضعيات إلى قلب مجدي: كنت أتمدد عارية على بطني، أرتكز على مرفقيّ وأرفع ساقيّ
أتلاعب بهما في الفضاء، وأدخن سيجارة،
بينما يجلس هو على جلد الخروف فوق الأرض
متربعا ليخربش على ورقه الأبيض بداية الفكرة للوحة جديدة.
كم مرة عشنا ذلك الوضع؟ ربما عشرات المرات خلال سنوات من
العشق المجنون، ومن المدّ والجزر، خلالها لم أتصوّر البتة أنه يرى القسوة فيّ،
منعكسة على ملامحي وعلى وجهي رغم الضحكة العريضة التي كانت تنطلق مجلجلة تملأ فضاء
الغرفة. كان يقول لي أثناء ذلك إن جلستي تلك تؤكد
طفولتي المحبوسة في أعماقي، طفولتي
التي تنطلق من أسرها في حضرته فتشرق.
لكنه في لوحته لم يرسم تلك الطفولة على وجهي… فقط لمّح
لها في حركة الصدر المدفوعة إلى الأمام وفي حركة اليد والأصابع التي تبدو وهي تمسك
بالسيجارة كأنها تمسك بلعبة. بينما يصرخ النهدان بأنوثة مثيرة تدعّمها حركة الشفة
السفلى المتدلية في ارتخاء لافت. وبقدر
استيائي أو رفضي لتلك القسوة التي فاجأتني في اللّوحة، كان ارتياحي أو فرحي الخفيّ
أو سعادتي بهذه الخلطة اللذيذة بين قسوة الشخصية وبراءة الطفلة التي رآها مجدي وهو
يجلس في زاوية رؤيته تلك. وكأنّني أكتشف
الآن فقط أن مجدي رسّام موهوب حقّا وأتأكّد
من ذلك!!
صعقني رنين الجرس. قفزت من على الكرسيّ الهزاز وهرولت
نحو الباب وقد عادت إليّ شحنة الغضب حارّة كما كانت منذ قليل لمّا أعلمتني هدَى
بزيارة منجي لوالدي.
فتحت الباب واستقبلته ببشاشة عكس ما كنت أخطط، إذ هيّأت
نفسي لأنفجر في وجهه، لكن المرأة الأخرى فرّت مني وتصرفت بذلك الدهاء الذي يخيفني
وذلك الخبث الذي يرعبني. وقفت أتفرّج على إبداع "المعلّمة" الراقدة في
أعماقي. منجي فوجئ هو الآخر ببشاشتي التي أخذته إلى غرفتي. أشرت إلى كرسي طاولة
التجميل وقلت:
- تفضل. ماذا
تشرب؟.
لم أنتظر إجابة. على الطاولة الصغيرة كان الطبق جاهزا.
وضعت قطع الثلج في كأس ثم دلقت عليها شراب الوسكي الذهبي. وضعت الكأس في يده
الممدودة دهشة، وجلست على الكرسيّ الهزاز. ركّزت نظراتي عليه، ورحت أحدّق في كل
تفصيل صغير. من حذائه الذي ارتفعت مقدمته حتى بدا
بشمَقا فازداد قبحا، إلى ساقيه القصيرتين، النحيلتين، إلى بطنه المكوّر
أمامه ، إلى ربطة عنقه العريضة ، إلى وجهه الأحمر اللامع الذي يكاد يخلو من شعر
اللحية، إلى قطرات العرق المنتشرة على
جبينه العريض و التي تُفيض دوما كأس استفزازي.. هكذا أنا كلّما قابلته: مستفَزة ومستنفرة، لكنني اليوم
لم أكن كذلك. كنت هادئة ومسترخية على
الكرسي أتأرجح مع حركته محدقة في منجي كأني أراه لأول مرة!!
طالت لحظات الصمت فزادت من ارتباكه، ومن عجزه عن شرب كأسه و من حيرته!! بهدوء
كبير وثقة عالية سألته:
- هل جئت إلى
زيارة والدي في غيابي لتشكوني له أم لتحرّضه عليّ؟ !
تكاثرت حبّات العرق على جبينه،
انتفخت أوداجه، احمرّت أذناه، وخلته سينفجر في وجهي.. لكنه تباطأ في الكلام
من فرط الحصار، راغبا في بعض الوقت لتخرج كلماته سليمة من الارتعاش وأجاب أخيرا:
- في
الحقيقة، لا هذا ولا ذاك، بل جئت أطمئن على صحته، ثم...
-ثم ماذا؟
- ثم رجوتُه أن يعقلكِ و يثنيك عن قراركِ.
- أ مازلت حقّا راغبا في الارتباط بي
أم أنك ترغب في اكتشاف هذا الجسد والتأكد من شيء ما حتى لا تكون الفضيحة؟
طأطأ رأسه متوغلا بنظراته في كأسه
التي ذاب ثلجها. فجأة قام بحركة غير
منتظرة. قَلَبَ السائل البارد في جوفه،
وضع الكأس بعصبية على طاولة التجميل ووقف في صرامة مستجمعا كل ثقته في نفسه
وقوته قائلا:
-أليس من
حقّي أن أنال ذلك؟
هجمت عليّ نوبة من الضحك. حتى آلمني
بطني وانهمرت الدموع على خدي. عندما انتبهت وهدأت قليلا حركة الكرسي المتأرجحة
رأيته قد عاد إلى جلسته وارتباكه. أعدت
الهدوء إلى نفسي وقلت:
- طبعا من حقك.. بل إن كل الحقّ لك
أنت وحدك دون غيرك. فالشرع إلى جانبك والمجتمع معك وكل الأعراف تساندك. لذلك دعوتك
اليوم لأمنحك حقّك، إذ ليس من المعقول أن أسلبك، أنا الأنثى، أنا الكائن الضعيف،
حقا منحك إياه الجميع !
لكن قبل ذلك ، وقبل أن أقدم لك فرصة
عمرك أريدك أن تستمع إليّ جيدا. أن تستمع إلى حكايتي جيدا.. حتى لا تتعلق بعد ذلك
بحبل التُهم الساذجة. لا تعتقد أن ما سأقوله من باب التبرير أو الخوف من الفضيحة
كما اخترت أن تسمي ذلك. فقط هي لحظة اعتراف ساذج ربّما، قبل أن أمنحك فرصة أن تكون
زوجي للحظات ننفصل بعدها لأنّ أيّا منّا لا يصلح للآخر، أبدا، أبدا. وقبل أن تكتشف الأمر بنفسك أعلمك بكل كبرياء
الأنثى وشموخها أنني لست عذراء… أقول بكل كبرياء وشموخ لأنني لم أفرط في هذه
العذرية أثناء لحظة ضعف أو أثناء لحظة جهل أو أثناء لحظة خوف، أبدا. لقد فتحت عيني على نفق مفتوح لا باب له، ولم أسأل عن باب الفتحة لأنني بفطرتي لم أكن
أدري أن للفتحة بابا ضروريا. لكن السؤال بدأ يتسلل إليّ وأنا طفلة في المدرسة
عندما بدأت تتناهى إلى سمعي حكايات زميلات عن الفتحة والباب.
وفي كل مرة كنت أعود إلى بيتنا راكضة
على جناح السؤال الذي أصبح دبوسا يخز براءتي. و حدست أن في الأمر خطرا ، فلم أجرؤ
على السؤال الذي انطفأت شعلته، لكن ناره ظلّت موقدة تحت الرماد إلى أن عرفت ذات
يوم لمن أستطيع أن أوجه السؤال. ووجهته إلى الطبيب المختص الذي بدا لي في حينها
كأنّه المنقذ من الإعدام. بعد الفحص قال:
- لا تجزعي آنستي، فأنت من صنف نادر
من النساء، صنف يولد بلا باب، أو بأكثر دقة يولد بشبه باب، أو فلنقل بباب مطاطيٌ
يتأقلم مع حجم الداخل فيعطي الإحساس بأنه غير موجود.
يومها ذهلتُ، وغرقت في يمّ من الحيرة، طلع سؤالي متوترا كأنّه السهم ليصيب الطبيب:
- وكيف أشرح للعالم كله حكاية الباب
المطاطي الذي يخدع الداخل فلا يوحي بوجوده؟
- أنت لست مطالبة بالشرح. لقد أرادك
الله أن تكوني كذلك، وإن لزم الأمر هناك حلول. هناك شهادة من الطبيب تؤكد براءتك
من كل خطيئة، وهناك، باب صناعي يمكن أن نضعه
لنستغني عن كل شرح.
يومها لم يكن نصيبي من التجربة
والمعرفة شيئا. كنت تلميذة في الثانوي. لكنني بحدسي وفطرتي رفضت اختيار الحلّ
الثاني. أدركت أن الأمر سيكون خديعة. ولم أكن قطّ أنا التي ميزها الخالق بأن وضعها
مع كمشة من النساء النادرات أقبل أن أبدأ حياتي مع زوجي بكذبة، وخديعة. لذلك أيّها
الزوج المحترم رغم كل هلوساتك لم أشأ قطّ أن أخدعك.
كان يضع يده على خده وهو يستمع إليّ،
بينما كنت أنظر إلى قفا رأسه في المرآة المثبّتة فوق طاولة التجميل. كان الصمت
الذي خيّم علينا وعلى الغرفة ملغّما. بعدها تركت الكرسيّ الهزاز. خلعت ملابسي
وألقيتها عليه لتبدو كأنّها أشلاء جثة يروح بها الكرسيّ ويجيء. فيقربها ويبعدها..
ثم يهدأ لتستقر في الالتباس…
ولم يكن نظر منجي مركزا على مشهد
ملابسي على الكرسي ، بل كان مركزا على الجسد الذي يقف أمامه متحديا صارخا برشاقته،
بسمرته، بأنوثته، وبجرأته التي تكاد تلامس حدود الوقاحة.
أصبح العرق يسيل على وجه منجي منطلقا
من فوديه متعرجا على مساحة خده العريض حتى يبلغ حدّ ذقنه فيبدو كالدموع. في تمام
اللّحظة التي رفع فيها منجي يده ليمسح عرقه.. طلع صوتي متحدياّ في شموخ:
- تريد أن تأخذ حقك الزوجي، تفضل، هو
ذا الجسد الذي تريد. إنه يمنحك نفسه باسم
الشرع والقانون. لكن عرش أنوثته سيبقى بعيد المنال، عصيٌّا عن اللّمس أو التدنيس.
تفضّل.. أيها الزوج "الـمــــــ.ـحـــــــ.تــــــــ.رــــــــم..."
الفصل
( 12 )
ستظل أجمل الأشياء بداياتها!
بعدها تنتهي حالة الطوارئ، ويستتب
الأمن، ويسقط كل شيء في أسر العادة التي تقتل الدهشة وتسحب الارتباك، وتغدق الثقة
على الفعل. عندها تتوقف اليد عن الارتعاش ويثبت القلب في مكانه وتهدأ العاصفة.
هل تشبه هذه البداية البدايات جميعا
؟ ربّما، ولو أنّني أشك كثيرا في الأمر. فالآن عندما أذكر لطفي لن أرتعش، ولن أحسّ
بقلبي يكاد ينخلع. غير أنّني أسرق التفاتة
إلى الوراء، استحضر البداية، بداية "
العشقة " الكبرى التي علّمت قلبي وختمته. أنفخ فيها الروح فتتحرّك في الذاكرة
بيضاء وسوداء خالية من بهرج الألوان، لكني أفجأ بجمالها!! الآن تفصلني عن البداية مسافة هي
طريق من المعرفة والتجربة. غير أنّني في لحظة الاستراحة هذه ألتقط أنفاسي لأرى
لأوّل مرّة جمال البداية، فـأصاب بدهشة مختلفة خالية من الارتباك!
لمّا كنت في هذه البداية، أتحرّك
داخلها وأصنعها لم أنتبه إليها ولم أحس بها. الآن يسكنني الإحساس بأنّها كانت
كقبضة ماء. أفتح القبضة بثقة فأدهش لأنّها فارغة، لكنّها نديّة. أستنجد بالذاكرة،
الشاهد الوحيد على الحكاية وعلى كل التفاصيل.
في العاصفة أثناء ازدحام الحركة
وأثناء الفزع لم يكن في وسعي أخذ صور للذكرى والابتسام أمام الكاميرا. كما لم يكن
في مقدوري التفكير في تهريب الأشياء الثمينة. في العاصفة أنجز فعلا واحدا تلقائيا
هو الركض نحو النجاة. وفي كل مرّة أدجج الأنا بالوعي والمعرفة وأستعد للبداية
القادمة، وأعد النفس بأنّها لن تفلت هذه المرّة وسأعيشها في العمق وسأتمتّع بها
تماما.. كما يجب، وكما ستكون بعد الابتعاد عنها وبعد أن ينثر عليها الزمن القيمة
والأهميّة.
مرّة أخرى يتدخل الارتباك وتسيطر
الرّعشة ويغفل القلب عن شيخوخته ويعود طفلا خائفا متعثرا بخدود مورّدة وقوّة
خرافيّة لقطف الحلم.
هل قطفت الحلم مع لطفي؟.
أتأرجح الآن مع الكرسي الهزّاز
أتلاعب بقطع الثلج في الكأس، لكني بحدسي أدرك تماما أن هذه البداية ليست ككل
البدايات، وليست كتلك البداية. لم يزهر
الحلم أصلا، لأنها بداية واعية ولدت بأعين مفتوحة وبقلب مجرّب ليس من السهل
الإيقاع به.
كما أجلس الآن كنت أغرق في الكرسي
الوثير الوحيد في منزل مجدي. أحب ذلك الكرسي المغلف بالجلد الأسود، إنه مكاني في
ذلك البيت ورفيقي في لحظة الوحدة. أغرق فيه دائما. أتلاعب بقطع الثلج في الكأس
وأسافر مع لهب المدفأة. أستعيد التفاصيل الماكرة منها والخضراء أرويها لصوت الموج
القادم من الشاطئ حيث تنكسر الموجة وراء الأخرى على الصخور ليعيد البحر طيّها في
أعماقه ويرحل، ليعود من جديد محمّلا برائحة أخرى وحكاية أخرى.
أقضّي الساعات الطوال على تلك الحال
بينما يغيب مجدي في غرفة الرسم وينسى انتماءه لهذا العالم، يكره أن يخترق أحد
خلوته مع لوحاته. حتى أنا كان يمنعني من اقتحام فضائه إلى أن ينتهي من اللوحة
تماما. عندها يدعوني لأتفرج عليها وأبدي رأيي. أمّا إذا كنا في اللّحظات الحميميّة فإنّه يغدق عليّ
فرصة مشاهدة خربشاته الأولى. و ما عدا ذلك فإنّه يتكتّم على تفاصيل عمله كأنّها
الأسرار الكبرى.
المنزل كعادته في هذه السنة الأخيرة قذر والفوضى
متراكمة في كلّ الزوايا. في الصالون وحوالي المدفأة كنبتان قديمتان أعياهما
الاستعمال تراكمت عليهما الملابس الوسخة والمناشف والأوراق والكتب ومجلات الرسم وكل
ما يخطر ولا يخطر بالبال. في الركن الكرسي الأسود الوثير الذي جئت به ذات يوم هدية
لمجدي كي يغرق فيه وفيّ.
على سطح المدفأة الرخامي هدايا من
أقلام وفرشاة، وزجاجات عطر رجالي ونسائي، وباقات ورد جافة، ومزهريات وقناني وسكي
فارغة وشبه فارغة، وقطيع من الجياد في أوضاع مختلفة. أمّا الجدران فقد اكتظّت
بلوحاته.
كان الليل والمطر عندما جئت هذا
البيت لأوّل مرّة. كان ذلك منذ سبع سنوات. وكان الضوء الوحيد الذي ينير الصالون
ينبع من الركن ساطعا في السقف مما يضفى على المكان حميمية دافئة يرتجف لها قلبي
حتى في الذاكرة. كنت ومجدي في البداية. وكنّا ليلتها نسهر في المقهى الأخضر بفندق
المشتل. كنّا كعادتنا منذ سنة نسهر مع مجموعة من الرسامين والصحفيين والصعاليك
أصدقائه. يظل هو صامتا بينهم يرمي كلمة
بين الحين والآخر، وأتوّرط أنا في ثرثرتهم
التي لا تنتهي. أمّا إذا قرّر هو الحديث
والمجاملة فلا أحد يقدر على إسكاته.
ليلتها ظلّ صامتا أغلب الجلسة، ثمّ
فجأة همس لي في أذني بأنّه حصل أخيرا على منزل للإيجار بنفس المنطقة التي يسكنها
مع صديقه بالمرسى. بحركة لا إرادية سحبت الكرسي وأدرته نحوه مستفسرة وفرحة.
واصل همسه:
- سيعجبك البيت كثيرا، وأهمّ ميزاته
الحديقة المحيطة به وقربه من الشاطئ. إنّ نوافذه تطل على البحر، أما في الداخل
فإنّ ما يميز صالونه تلك المدفأة الرخاميّة الكبيرة.
- أظنه منزلا قديما لأحد الفرنسيين.
متى استأجرته؟
- منذ أسبوع. لم أشأ إعلامك حتى
أتممت ترتيبه والآن أستطيع أن أدعوك إليه.
ابتسمت..قرّب رأسه من أذني حتى
أحرقتني أنفاسه ودبّت في جسدي قشعريرة الرغبة المجنونة. وجاءني صوته خافتا:
- هل نذهب الآن؟
أحسست بحرارة تلتهم وجنتي وأشرت
برأسي مجيبة بنعم.
في السيارة التي كانت تنهب الطريق
السريعة إلى المرسى أمسك يدي وراح يغني فرحا: "هذه ليلتي".
دفعت باب الحديد الأسود فقابلتني
الياسمينة معرّشة على إحدى النوافذ بجذوعها البنيّة وبدت وهي مبلّلة بالمطر كأنّها
قضبان حديد غليظة تغطي شبكة الحديد التي تحرس النافذة من اللصوص. مرّر مجدي ذراعه
حول خصري قرّبني إليه وقال:
- هل أعجبتك المفاجأة؟
وهمست:
- ستزهر الياسمينة في الربيع.
قبّلني على خدّي وهرول إلى باب
المنزل ففتحه. وعلى العتبة سحبني إليه،
واختطف شفتيّ في قبلة عنيفة مازال
طعمها لذيذا أتلمظه في الذاكرة كأنّها تحدث الآن.
لمّا نزعت جاكيتي الجلدي الأسود كان
مبللا.
أمام المدفأة وقف طويلا يحدّق
فيّ. ارتبكت حركتي، وتسلّل إليّ خجل ممتع. ابتسم وانكسر ضوء في
عينيه كأنّه متعة الفوز. في تلك الأيام كان المنزل مرتّبًا ونظيفا.
كدّس قطع الحطب أمام المدفأة. كان قد
نزع معطفه الأبيض الطويل. بدا لي في دجينزه الأزرق نحيلا. عالج باب المدفأة
الحديدي. أشعل النار، وظلّ جاثيا على ركبتيه يحدّق في ألسنة اللهب، بينما تواصلت
حركة نفض يديه بطيئة حتى كادت تتوقف. كانت أصابعه الرشيقة قد اتّسخت بسواد الحطب
المشتعل في المدفأة. دغدغت أصابعه المتسخة
رغبتي. بلعت ريقي ووقفت بجانب المدفأة
متكئة على رخامتها وسألت:
- بكم استأجرت المنزل ؟
رفع إليَّ عينيه وهو لا يزال جاثيا
أمام النار يعالجها بقضيب الحديد قائلا:
- لن تصدقي.
ابتسم بزهو وأضاف:
- بمائة وخمسين دينارا فقط!
- مثل هذه المنازل يرتفع إيجارها
صيفا. ونحن الآن في الشتاء.
- لكنني اتفقت مع صاحبته على
استئجاره طيلة السنة.
- المنزل عال وبارد.
- سيدفأ سريعا.
- أنا أرتجف بردا، هل نجلس أمام
المدفأة ؟
- إن شئت نسهر أمامها، وننام أيضا.
ضحكت وقلت:
- ونقيم إن أردت ذلك.
على طاولة قصيرة رتّب أطباق الأكل
التي اشتراها قبل مجيئنا، ثم سحب طبقا به قطع لحم نيئ متبّل كان قد جهّزه لشيّه
على الحطب. علّق قطع اللّحم الصغيرة في سيخ خاص بالشيّ ووضعه على الجمر المشعّ، ثم
وضع قنينة النبيذ الأحمر بين فخذيه وسحب غطاءها بقوّة.
قلت:
- يبدو أنك تحب فتح القناني!
ضحك عاليا حتى بانت أضراسه ولمعت
أسنانه المصففة في إغراء ثمّ علّق:
- نعم أحبّ فتح القناني.
*** *** ***
كنت متهيبة برغم اندفاعي الداخلي
ولهاثي وراء رغبتي الراكضة نحو المجهول. ازداد تهيبي إثر تعليقه، وبرغم اعتقادي
القوي بأنّي ومجدي صرنا خلال هذه الأشهر الطويلة من العشق العذري روحا واحدة، فإنّ
كثيرا من الارتباك انتابني.
كنت خلال الأشهر الماضية التي
قضيناها متشردين بين الفنادق وبيوت الأصدقاء مكتفية تماما بهذا الجانب السحري من
العشق.. هذا الجانب العذري الذي أنضج عشقنا على نار هادئة ولم يطلب الجسد سريعا
كما هو الحال في زمن الاستهلاك . حتى خلال تلك السهرات الطويلة في بيوت الأصدقاء
كنا الوحيدين اللّذين نظل في الصالون نلاحق متعة العشق في الكلام وفي الكأس،
رافضين في تواطؤ فكرة الانفراد في غرفة. كنا متعطشين لمتعة الانصهار الروحي قبل
الانصهار الجسدي. وقد نجحنا في صمت في اجتياز كل العقبات الأولى والكلاسيكيّة في
أي علاقة تنشأ في بدايتها سطحيّة هشّة.
لقد نجح مجدي في طرق أبواب ذاتي العميقة ونجحت بامتياز في
تقدير نسبة فتح الأبواب حسب كل مرحلة. في البداية ومنذ أن قدّمه لي يوسف كان يبدو
لي قبيحا، بل بشعا. وحتى تلك السمرة التي تغريني وتلك الغرّة السوداء التي تأسرني
وتلك الضحكة البيضاء العريضة التي أذوب فيها، فإنني لم أنتبه لسحرها.
بعدة لقاء التعارف ظلّ لفترة طويلة
يراود أنوثتي العنيدة وظللت أنفر منه بغير سبب وأزيد في النفور كلّما ازداد إلحاحه
الصامت والمتعالي.
ظلّ حال البداية بين كرّ وفرّ أو جزر
ومدّ إلى أن انتصر القدر الذي كان في صفّ هذا العشق المجنون الموعود بالوجود. كرّر
القدر لقاءات الصدفة مع أصدقاء مشتركين.
وبقدر ما كان نفوري كان انجذاب
أعماقي نحو غموضه وعناده. حتى كانت ضربة القدر القاضية فاندلق في أوردتي دما أعيش
به، وانتشر في أنفاسي هواء يحرس حياتي من موتي.
أدرك بخبرته أنني الأنثى العنيدة، الأنثى التي علمتها
الطبيعة كيف تمتنع وهي في أوج الرغبة. أدرك بحدسه أنني أنثى تنتظر الرّجل الذي
يعرف معدن النساء فيلتقط على حصانه تلك التي تحب المغامرة والرحلة الطويلة في
الغموض. قرأ في عينيّ لهفتي لعشق مجنون، عشق حقيقي غير مزيف بطلاء العصر الذي
سرعان ما يتقشر فينكشف زيف المعدن. ونجح في اجتياز كل العقبات في الطريق المهجورة
والمنسية التي لم ينتبه إليها أحد، في حين توصل هذه الطريق مباشرة إلى مقتل قلبي.
سدّد سهامه بسرعة البهلوان فأردى قلبي صريعا بين أصابعه السمراء الرشيقة. كان فندق
المشتل حديث الافتتاح، وفي صالوناته الضخمة كنّا نجلس طوال ساعات وساعات، كان
مجدي خلالها منكبّا بإخلاص على ترويض روحي
الشرسة في ظاهرها، الهشة في باطنها.
مرّت الفصول متتالية، وهاهو شتاء
جديد يطوقنا ببرده فننكمش على الدفء حتى لا يفرّ ومجدي ما يزال يحدّثني عن لغة
الألوان وتناغمها، عن إيقاع اللوحات ولغة العيون، والقراءات المختلفة لمدارس الرسم
واللوحات والنساء. حدّثني عن مغامراته النسائيّة التي لا تحصى. حدّثني عن العابرة
منها، وتلك التي تركت فيه أثرا، كان يقارن كل امرأة بلوحة الرسم، و يقول:
- هناك لوحة تبدأ كبرق فتموت لحظة
ميلادها، وهناك لوحة تأخذ منك تقنية الرسم المائي التي تتطلب السرعة والإتقان،
وهناك لوحة تنتهي خلال أسبوع، وأخرى خلال شهر. وهناك لوحة تظلّ معلّقة كفكرة في
البال ولا تُنجز أبدا، وأخرى تجهز لها كل الألوان وتتكهن لها زوايا الضوء لكنها لا
تكتمل أبدا. أمّا اللوحة الإبداع، اللوحة التي ستظلّ علامة في مسيرة الرسام الفنيّة
والإبداعيّة فهي تلك التي ترسم على مهل وتكتمل جميع شروطها من فكرة وألوان وضوء
وظلّ والأهمّ من كل ذلك مزاج الرسام أثناء رسمها.
أضحك وأضحك وأتظاهر بالهدوء بينما
ينخر الاستفزاز أعماقي ويعصر قلبي وجع غريب أدركت فيما بعد أنه وجع الغيرة من كل
تلك اللوحات التي رسمها.. عفوا بل من كل تلك النساء اللواتي اصطادهنّ.
أقول:
- لكن يظل في قلب الرسام حنين خاص
لكل لوحة!
يقرأ بوضوح رسالتي المبطّنة لكنّه لا يعلق ، بل يتظاهر بأنه لم يتلق شيئا
ويواصل ثرثرته.
أعاد خلال تلك التداعيات رسم شخصيته
منذ طفولته وحتى كهولته. وكانت متعته بذلك شبيهة بمتعتي أو لعلها تفوقها: لقد كان
يعيد اكتشاف ذاته معي. ومعا أعدنا اكتشاف المعاني الأولى للحياة ولجميع أنواع
المتع. كنّا ندخّن بشراهة ومعه اكتشفت معنى التوغل في متعة التدخين. كانت سحائب
الدخان تلفنا وتحجبنا عن العيون تعويذة من أعين الحسّاد الذين لم يكن لدينا الوقت
والاستعداد لننتبه إليهم. كنّا نغرق في ذواتنا منبهرين باكتشافاتنا فلا نعي ما
يحدث حولنا. وغالبا ما يضطر النادل إلى اقتحام غيبوبة عشقنا معتذرا وطالبا أن ندفع
له لأنه أنهى حصة عمله.
يا إلاهي! لقد تحوّلنا في تلك الفترة إلى
كائنات كلام، كائنات لا تنجز سوى فعل واحد هو فعل الكلام. آلاف السنوات الضوئية
أنفقناها في كلام قد يبلغ طوله ملايين الكلمترات.. وقد يضم كل المعاني التي يمكن
لكل اللغات أن تصنعها.
سبحنا في فضاء الرسم ومدارسه، غرقنا
في كثافة الشعر، ركبنا ظهر السفر وتهنا في العالم وفي الوجود. عن الحبّ أنفقنا كل
الكلام. وعن جنون العشق أنفقنا كل الليالي. عن الأطفال كشفنا كل أحلامنا، حتى إني
قلت له ذات بوح:
- أعتقد أني عشقتك حتى بتّ أرغب في
إعادة ولادتك مني!
وقال:
- عشقتك حتى أني أرى فيك ابنتي وأمّي!
قطعنا في هدوء وتؤدة كل المسافة التي
كانت تفصل بيننا حتى صرنا روحا واحدة في جسدين. عندها فقط أصبح من الضروري للجسدين
أن ينصهرا. فاجأني في تلك الليلة بأن أستأجر المنزل، وفاجأني بتخطيطه المحكم لتكون
الليلة ليلة الفتح.. لكني ليلتها فقط اكتشفت أنه ينطوى على خجل كبير، لم أكن أتوقع
ارتباكه قطّ.. فإذا به متهيب وكأنّي به يختلي بامرأة لأوّل مرّة، هو صاحب الماضي
الثقيل!
تلاشى الخجل والارتباك شيئا فشيئا،
وعدنا إلى اللوذ بالكلام. عدنا نتعلّق باللغة، والشعر، واستدعينا لسهرتنا ضيوفا
شعراء مثل أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي ومحمود درويش ونزار قباني وأدونيس
وأولاد أحمد...وشربنا من الشعر ما أسكرنا بدلا عن النبيذ الأحمر الذي كان يترقرق
في حلق سهرتنا بطعمه المخملي ولونه الساحر.
في بداية الليل اعتقدت أنه سينزع
ثياب الثقافة عن جسد الحيوان لينطلق منقضا عليّ يشرخ المتعة قطعا قطعا. لكنّه ظلّ محتفظا بقناع الثقافة ستارا
يخبئ الجسد الملتهب. تأخر ميعاد الافتراس حتى الفجر. تواصلت لعبة التواطؤ في
المراودة فكانت طريقا لذيذة للحظة وصول أمتع.
وكما أراد القدر لهذه اللحظات أن
تكون كانت، فلم نكن إلاّ مجرّد ممثلين ننفذ حرفيا تعليمات المخرج وأحداث السيناريو
المكتوب.
ظلّ أحدنا ينتظر مبادرة الآخر دون أن
ينطلق لأن كلينا عنيد وكبرياءه عالية.
أنا أريد دائما أن أكون مشتهاة، وأن أحسّ
باللّهفة نحوي. وحتى معه هو أريد أن أتأكد من رغبته الدائمة فأنتظر أن يبادر .
أما هو فيحب أن تلهث وراءه الأنثى.
ويبدو أنه قد تعود في سوابقه النسائية على
ذلك، غير أن الأمر معي كان مختلفا .
في تلك السهرة ظلّ كلّ واحد منا
متشبثا بمقعده في عناد الغواية، إلى أن كانت لحظة لا بد منها. توهّمت خلالها كل
ذات أن المبادرة كانت من الطرف المقابل، عندها فقط تحوّل الجسدان المثقفان حيوانين ينهش أحدهما الآخر في غابة المتعة
المتوحشة.
على مرآة الحمام رأيت وجهي جميلا
متوهجا يكاد ينفجر متعة.
عدت إلى مجلسنا، أتعثر في خفري، لا
أكاد أنظر إليه ولا أقوى على التوغل في عينيه. احتضنني وقال:
- مُنى، أعترف أني فوجئت بك إذ لم
أكن أتوقع قطّ أن ألقى هذه المفارقة العجيبة!
حدّقت في وجهه دهشة!!
الفصل
( 13 )
كنت أعلم أنّه لا مفرّ. أبدا لا
مفرّ.
مهما كانت الظروف مختلفة، مهما كانت
العقول مختلفة، مهما كانت العلاقات مختلفة، كان لا بدّ من الخوض في هذا الموضوع .كان لا بدّ من التوغل في كيان
الأنوثة، كان لا بدّ من المحاسبة. وكان لا بدّ من السؤال ومن تقديم الاعترافات.
في مراهقة العمر وفترة الشباب الأولى
كان السؤال سيُفَجِّرُ في الذات عاصفة، بل إعصارا يحطّم كلّ شيء. الآن استتبّ أمر
الكيان، ونضجت الأحاسيس فلم تعد مراهقة ترتعش من نظرة، وترتبك من سؤال، وأصبح
الخوض في الأمر - وإن كان في شكل محاسبة - لا يزعج البتّة. لكنني لن أكابر، وأعترف
أنّه رغم كلّ هذا النضج هناك بقايا ارتباك، وبقايا حمرة ترتفع إلى الخدود، وبقايا
عرق يسيل في الظهر، وبالتأكيد ، بقايا
عقدة راكدة في قاع النفس.
وهمست أسأل مجدي في شبه ذهول:
- ما معنى ذلك؟
ضغط بأصابعه السمراء الرشيقة على
سمرة كتفي وقال:
- لم أكن أنتظر قطّ أن تكوني عذراء!
- عذراء. تهزأ بي!
استوى في جلسته… سحبني إلى حضنه من
جديد، ومسح على شعري الأسود الطويل قائلا:
- طبعا أنت لست عذراء ،أدركت ذلك.
وصلني صوته في شبه ارتعاش، خفّضت
بصري وهمست:
-هل أزعجك
ذلك؟.
تصوّرت أن سؤالي لم يغادر حلقي وأنه
تيبّس مع ريقي، لكنّه أجابني سريعا:
- لا. لا. أبدا.
- إذن أين المفارقة؟
- أنت عذراء حقا!
- تمزح؟
رفع ذقني وقرّب وجهي إليه وطبع على
شفتيّ قبلة وقال:
- صحيح أنت لا تملكين ذلك الغشاء،
لكن جسدك مازال يحتفظ بكل عذريته وكذلك روحك.
ابتسمت ، وغزت قلبي مشاعر كأنّها
الفرح. لا أدري لماذا أحسست بذلك، ربّما لأنني اكتشفت في مجدي ساعتها الرجل الشرقي
الذي تجاوز عقده أو ربّما قتلها.
تكوّرت في حضنه كأنّي أبحث عن حماية
ما وقلت:
- ألا تسأل السؤال التقليدي
والكلاسيكي: كيف حصل ذلك؟
- السؤال وجهته بنفسك إلى نفسك.. إن
أردت، احكي.
*** *** ***
كان
ذلك في أوّل لقاء جسدي بيني وبين مجدي، ولم أكن أدري هل أروي الحادثة؟ هل أخرجها
من الذاكرة من أجله أم من أجلي ؟ فقط شجعني ما بدا من تفتح ذهنه و شخصيته كي أغوص
في الحكي ….
سحبت الوسادة وعدّلتها على خشب
الكنبة واسترخيت في جلستي. غير أن أعصابي
ظلّت مشدودة كأنّها القوس الذي سيطلق سهما. وبرغم الهدوء الذي غمرني في البدء
ارتبكت من جديد. لأوّل مرة سأتحدّث في الموضوع، وسأفعل ذلك بصوت مرتفع. لقد ظلّ
سنوات حبيسًا في أعماقي، أفتح درج الذاكرة في كل خلوة، أسحب الملف السري، أحاول
تركيب أحداثه لأظفر بصورة واضحة. لكن الضباب لا ينقشع أبدا عن الذاكرة، أعيد الملف
إلى ظلام الروح مشوشا وأحْكِمُ المراتيج من جديد.
أخذ مجدي يدي لتنام بين أصابعه
محاولا منحي الطمأنينة والقدرة على البوح،
غير أن يدي انتفضت كالعصفور المذعور الذي أدرك أن أبواب القفص ستغلق. انتابني
ارتباك من نوع آخر، ربّما بسبب عطفه الذي أغدقه عليّ فأغراني في البدء ثمّ أزعجني.
لم أكن بحاجة إلى هذا العطف، لأنني أدركت تماما رغبتي المحمومة في سحب الملف السري
وكشف أوراقه.
هل كانت آخر المحاولات للتخلّص من
العقدة؟
أمسكت قضيب النار ورحت أحرّك الجمر
الخانس تحت الرماد وقلت:
- كان والدي يصرّ على قضاء عطلة
الصيف بالقرية الجبليّة. خلافا لوالدتي التي كانت تفضل قضاء الإجازة على شاطئ
البحر.
في كل ربيع كانت والدتي رحمة الله
عليها تخطط بدقّة لبرنامج الإجازة. مرّة تختار استئجار منزل على الشاطئ، وأخرى
تقرّر قضاء أيام عند بعض الأقارب حتى توفر شيئا من المال. ويظلّ حامد عبد السلام
كعادته يرفل في هدوئه وصمته. لا يتكلّم، ولا يعلن أبدا عن رغباته، أمّا قراراته
فقد كانت تنزل علينا في اللحظات الأخيرة لنعجل بتنفيذها دون نقاش. كنت أنهض صباحا
فأرى أمّي تهرول في الممرّ وبين الغرف تواصل إعداد الحقائب وكل اللوازم لنقصد
قريتنا.
لقد ظلّت تلك الصباحات مشرقة في
الذاكرة. فالشمس التي كانت تهجم من النافذة بضوئها الراقص على إيقاع الأغنيات
القادمة من الأثير تمنح أمّي ذلك الرضا الذي يزيّن وجهها رغم رغباتها المحبوسة
ومخططاتها الفاشلة.
كنّا نسافر على متن القطار فيملأ
قلبي فرح نزق، تعوّدت على رصّه في الأعماق
ومنه تعلّمت الكتمان.
كان ذلك يحدث في القرية في سنوات طفولتي الأولى بين
الخامسة والعاشرة. كان أبي يعود الى هويته. يعود الرنين إلى اسمه فتستيقظ فيه
الخيلاء ويعلقها على كتف سترته البيضاء.
- ولد سي عبد السلام الضاوي جاء
ليصيف.
اسم جدي لا يقع على الأرض أبدا في
قريتنا. تتلقفه الألسن، تحبه وتكرهه، تحسده وتغبطه، و تقدره وتحترمه وتخافه
أحيانا، إذ يعتبر من أعيان القرية بفضل
أملاكه وحفظه للستين حزبا في الكتّاب. لقد أفلح أيضا في تعليم ابنه حامد فأصبح
مدرسا يعلّم الأطفال. لم يشأ القدر أن أكون ذكرا أحمي إرث اسم أبي من النسيان،
وأُفرح جدي. لكني أحمل إرث الاسم، وعليّ أنا الأنثى أن أبذل جهدا مضاعفا وأتلقف
اسم العائلة حتى لا يقع في التراب!!
هل كنت أعي ذلك وأنا على أرجوحة
العبث الطفولي، أرقص وقد ربطت خصري بحزام الحرية الذي منحتني إيّاه الطفولة
والإجازة؟
هنا يلقي بي والدي في أمان الأهل
والقرية وينقطع عن حراستي متنازلا عن مفاتيح سجني لوالدتي التي لا تتسلّمها أصلا! وأرتع
متكئة على الدلال الجماعي الذي يبدأ من الجدّ والجدّة مرورا بالأعمام والعمّات
ليصل إلى عمّ عثمان العطار وأهل الطريق الذين ينثرون عليّ القبل والحلوى والدعوات
الصالحة. يجلس حامد عبد السلام صباحا على كرسيّ الخشب القصير على السطحة أمام
الدار الواقعة على الهضبة تماما تحت الصخرة العظيمة التي تهدّد بالسقوط ولا تسقط.
هكذا رأيتها بعين الطفولة ستدك المنزل بمن فيه، حتى إن فكرة هجومها سكنت أحلامي
وحوّلتها إلى كوابيس. كنت أسأل جدّي بخوف : لماذا لم يكسر الصخرة قبل بناء المنزل؟
كانت ضحكة جدي تخشخش في صدره قبل أن
ينثرها لتتفيأ على زغب شواربه الرمادية. أتعلق بفتات الضحكة لأجمع سحرها وأنسى
خوفي قبل أن يقول جدي:
- تلك الصخرة يا صغيرتي تحرس الدار.
أنظر إلى الصخرة فيصوّرها خيال
الطفولة على شكل كلب. وأقول باندفاع الاكتشاف :
- إنها كلب حراسة مثل فوكس .
تزداد ضحكة جدي دويا حتى يغمض عينيه،
ثم يهدأ أو يتنحنح ويغمس يده الغليظة في كومة ثيابه على مستوى الصدر، وتلمع في
الكف قطعة نقدية صفراء: عشر ملّيمات. أندفع من قمّة الفرح المذببة وأخطف القطعة وأطير متعثرة في رغوة
الفوز بالثروة. بعد قفزات، يعود إليّ بعض
الوعي وأذكر دروس والدي، فأنتبه إلى أنّه
عليّ أن أشكر الجدّ المتواطئ مع حريّتي التي أعثر عليها هنا. أعود إليه يسبقني
دلال غامض. أقبّله … يخزني زغب لحيته.
أنتفض وفي تلك اللّحظة تماما يرصّني إليه فأغطس في صدره وفي ثنايا عنقه وثيابه،
فتتعبأ روحي برائحة التراب.
طوال الصبح الصيفي النديّ يظلّ حامد
يترشف قهوته ويتأمّل حقول التين والزيتون الواقعة تحت هضبة المنزل الذي وُلد فيه
وكبرت فيه أحلامه حتى فاقت قامته المديدة.
بين الحين والآخر يردّ على تحيّة
الصباح القادمة من الطريق المنبثقة من تحت الهضبة مباشرة، فتقع "صباح
خيره " المنغّمة ويندلق إيقاعها على إسفلت الطريق . لعل حامد عبد
السلام، في جلساته اليوميّة الصباحية تلك كان يتأمّل نضاله. وربّما كان يبحث بين
أفكاره عن مسارب أخرى لبث المبادئ التي يخزّنها لأنّها ثروته الوحيدة. أمّا المارة
في الطريق من تحته من أبناء بلده فكانوا يلقون عليه التحيّة بتقدير وكأنّهم يرون على رأسه تاج العلم والمعرفة.
أتسلل من وراء انتباهه وهو يجلس على
السطحة الشبيهة بالشرفة. وأركض إلى دكان عم عثمان بينما تلف والدي غلالة التأمّل
المسحورة. أشتري حلوى وعلكة، يلفّهما عم عثمان في قهقهته المسترسلة من زبون إلى
آخر، فيربط الجميع بواسطتها عائلة واحدة في قلبه.
أركض عائدة أجرّ ورائي سلاما طويلا
إلى والدي.. أتسلل من جديد في غفلة منه وأعود لأجلس حذوه. أدلّي ساقيّ على حافة
السطحة أتلاعب بهما في الفضاء. تدق حركة ساقيّ باب تأمّله وتيهه فينتبه في شبه ذعر
قائلا:
- احذري السقوط !
أقهقه وأقول:
- أمّي وجدّتي تدعوانك إلى الأكل.
يربّت على كتفي ويهمس وقد عاد إلى
غلالة تأمله:
- قولي لهما إنّي لا أرغب في الأكل
الآن.
أقوم مسرعة لأنهمك مخلصة في مهمّة
الرّسول، وفي نصف الطريق يباغتني صوت أبي:
- من أين لك الحلوى؟
لا أتوقف عن الركض هاربة من الشرطي الكامن فيه، تاركة له
صوتي بريئا:
- من عند عزيزي.
عند باب السقيفة تغمر أنفي رائحة
"المقلي"[2]
الزكية تغطس رغبتي في أعماقها وتبدأ في عملية فرز: هذه رائحة الفلفل الحار العابقة
تستثير متعة الأكل، وهذه رائحة الثوم في صلصة طماطم لذيذة تنتظر عناق الخبز
الرّقاق الذي أعدته جدتي منذ الفجر في طاجين الطين على الحطب. الساعة العاشرة
صباحا، المائدة تعبق بلذيذ الروائح الواعدة بمتعة كبيرة. الماء البارد من ثلاجة
العين الطبيعية يَعِدُ بالريّ من عطش دفين لهذه الحرية الطازجة والنضرة في الأكل،
وفي الحركة!
هنا أتخلى تماما عن عادة شرب الحليب
صباحا وعن قطع الخبز المحمّرة والمطلية بالزبدة و"المعجون"2) . أتخلى أيضا عن العصير إذ يصبح ماء العين
البارد ألذّ منه ألف مرّة، كما أتخلى عن
استعمال الشوكة والسكين وأتخلص بهدوء من رقابة أبي. أتربّع بين أعمامي وعماتي
وأولادهم وبناتهم على الحصير. أندسّ بينهم فلا تكاد تبرز مني إلاّ يدي القصيرة
التي تمتدّ بين الأيادي تناضل من أجل لقمتها. تتقارب الرؤوس عارية ومغطاة لتصنع دائرة أخرى فوق المائدة
الكبيرة.
في الفضاء وفوق الجميع تمتزج الضحكات
على اختلاف إيقاعاتها مع النحنحات والهمهمات وأصوات المضغ مشكّلة سقفا من الحبّ
الصافي يحمي العائلة ويصنع متعتها الجماعيّة.
والدي لا يحب الغطس في تلك المعمعة أو مأدبة الأكل تلك
على الطريقة البدائية، بل يحب الجلوس على كرسي ثقافته يتناول فطوره الصباحي في
موعده اليومي، ثم يترشف قهوته، وبعدها لا يأكل شيئا حتى موعد الغداء في الواحدة.
وحتى أثناء الإجازة مع عائلته لا يتخلى عن عاداته الصارمة التي أكسب نفسه إيّاها
باسم الثقافة والحضارة. وحتى إغراءات التين الطازج المقطوف لتوّه من كرمته لا تدفعه إلى التخلي عن
نظامه في الأكل.
أمّا أنا فقد رفض وعيي الطفولي ذلك
النظام الثقافي المدني في نمط العيش. وكل ما سعى والدي إلى أن يعلّمني إياه رأيته
قيدا أدمى روحي المتوحشة الجامحة إلى التلقائية و إلى الحياة على سجيتها.
أمّا إذا ما فاجأني والدي وأنا مندسة
في كومة العائلة آكل بيدي ولا أضع المنديل على رقبتي، فإن اللّقمة في حلقي تتجمّد
وتأبى النزول كأنّها في انتظار قرار مصيرها إثر صرخة حامد عبد السلام الموجهة إلي
عبر أمي:
- تتركينها تأكل "المقلي"
والحار! إذا ما أصابها الإسهال لا يعود إليّ أحد. مفهوم ؟
تنزل صرخة والدي على رؤوسنا الملتفّة حول المائدة في السقيفة،
فيلوذ كل صوت بصمته، يتجاوزنا ويمضي إلى غرفته عبر باحة الدار. عندها ينتبه صوت
جدتي من دهشته فيلحق به:
- اترك الطفلة تعيش كما عشتَ!
ثم تشرع الجلبة في التسلل من الصمت
الذي أطبق عليها لتعود قوية كما كانت. عندها تقرع خطوات الوالد البلاط معلنة مروره
من جديد قاصدا المقهى بعد أن تعطّر ووضع رتوش أناقته الأخيرة.
وتتهامس الأصوات أثناء مروره:
-" اهفت " 3) عمّك جاء.
أمّا أنا، فقد كنت أتكوّر في الأحضان
المحيطة بي منتظرة بفارغ الصبر غياب أبي في المقهى حتى موعد الغداء مع أصدقاء
الشباب الأول. وأظل مبهورة أمام البوابة التي أَشْرَعها في خيالي أصغر أعمامي
المنصف إلى رحلة الجنان رفقة أبناء أعمامي وعماتي وبناتهم. كنت أصغرهم إلاّ أنّني كنت أُفلح دائما في
القبض على عجلة القيادة. ألقي ببهرج الفكرة فأضمن الأَنْصَار ثمّ أبدأ في التخطيط.
سنذهب إلى الجنان، سنلعب تحت ظلّ
الزياتين، سنقطف حبات التين التي نضجت. هكذا كنت أزين الأمر لأمّي التي تنتهي
دائما بالسماح للآخرين بالانتصار عليها. أتركها متردّدة كعادتها، وحين تنجح في حسم
موقفها نكون نحن قد بلغنا الجنان. وتنتهي أمّي إلى قرارها متكئة على رعاية عمّي
المنصف الذي يرافقنا. تروّض توحش إحساسها بفكرة وجود عمّي. فهو شاب في العشرين
" بعقله " كما تهمس لنفسها. وهو يعرف الجنان جيدا بما أنه انقطع عن
الدراسة منذ طفولته ليتفرّغ لخدمة الأرض ومساعدة جدي الذي بدأ يتعب مقتربا من
الشيخوخة، إضافة إلى ابتعاد كل من عمّي الحبيب وعمّي عمّار عن خدمة الأرض وتفرغ كل
منهما لحياته وعائلته. إلاّ أنهما لم يبتعدا عن العائلة الكبيرة، فقد شيّد كل منهما منزله ملاصقا للمنزل الكبير تحت
الصخرة الضخمة الممتدة فوق أسطح المنازل. أمّا عمّتاي زينب وربح فقد تزوجتا وسكنتا في حي قريب لا
يبعد كثيرا عن حي الصمعة حيث الجامع الذي شيد فوق سطح الصخرة تلك التي تحرس منزل عبد السلام الضاوي.
تأخر والدي في الزواج لانشغاله بالدراسة
والتدريس، فظل هو الأخير قبل عمي المنصف بالرغم من أنه أكبر من البنات. لذلك كنت
أنا أصغر الأحفاد.
نقصد الجنان بعد أن يعود العملة إلى
القيلولة، فهم يبدؤون العمل منذ الفجر لتنتهي الحصة الصباحية حوالي العاشرة عندها
يكونون قد سقوا ما يجب أن يسقى، ونظفوا
أحواض الخضر السقوية التي تزرع تحت كروم التين و أشجار الرمان، بينما تمتد من
الجانب الآخر المنبسط من أرض جدي غابة الزيتون الكبيرة.
كنّا تحت كروم التين نأكل ما قطفنا
متلاعبين بماء العين النابعة من الشق الصخري حيث ينهمر الماء في شبه شلال ثم يتوزع
سواقي تبلغ أحواض الشجر والخضر كأنها شبكة من الشرايين. بعد ذلك ننطلق إلى اللّعب
والركض متخفين تارة وراء جذوع الكروم الغليظة العتيقة وطورا وراء الصخور الصغيرة
المتناثرة هنا وهناك.
عندما نتعب من لعبة الغميضة ولعبة
اللصّ والشرطي، نتكدّس جميعا إلى جانب عمي
المنصف نصنع بنصح منه سلالا من ورق التين العريض لنحمل فيها بعد ذلك ما جنينا من
ثمار.
كان عمّي يرعانا من بعيد وهو منهمك في أعماله التي لا
تنتهي. يظل صوته الذي لا يغيب يلاحقنا ويدعونا إلى الانتباه كي لا ندوس أحواض الخضر أو نفسد مجرى
السواقي التي تجيء بالماء إلى الأحواض. يحرص صوته دائما على أن يكون حاضرا فوق
رؤوسنا… يغيب جسده القوي بين الجذوع مشتغلا بحفر ساقية جديدة أو بتحضير حوض جديد،
أو تنظيف بذور لزرعها.
ذات مرة، انهمكت أنا وهدى وسامي
وتوفيق في صنع سلال التين وغاب عنّا بقية أبناء العمومة. غطسنا في الصمت وانقطع عنّا صوت عمّي. فجأة طلع صوت سامي وهو
أكبرنا، ليشق الفيء الندي قائلا:
- ما رأيكم لو نلعب لعبة العرائس ؟
من براءة عمري الذي لم يتجاوز
السابعة قلت:
- ليس معنا عرائس فكيف نلعب؟
أشرق وجه هدى التي تكبرني بثلاث
سنوات وقالت:
- نمثل نحن العرائس.
أيّدها توفيق . أما أنا فلم يكن لديّ
مزيد من الوقت للفهم إذ واصل سامي شرح
مخططه :
- سألعب مع مُنَى. أما أنت يا توفيق
فستلعب مع هدى. ثم سحبني سامي من يدي وأسند رأسي الى جذع الكرمة وشرع في مصّ
شفتيَّ.
نفرت في البداية، لكنني بعد قليل
أحسست بشيء غريب ينسكب في شراييني فخدّرها
مما جعلني لا أدفع سامي وهو يرفع فستاني الأبيض المرقّط بنقط سوداء ويحشو إصبعه
بين فخذي. أحسست بوخزة كادت تجفلني، إلا
أن سامي كان قد أحكم يده حول خصري رافعا الفستان. ظلّ يفرك المكان الرطب اللزج
بإصبعه إلى أن تحلّب ريقي وتعالت دقات قلبي. أدركت بحدسي الصغير أننا نرتكب فعلا
تفوح منه رائحة الخطيئة التي لا ينبغي أن تبلغ أنوف الكبار.
في صبيحة الغد اكتشفت أن جناحي
براءتي قد نتف ريشهما فلم أنطلق لأدعو الجميع كعادتي للقيام برحلة الجنان.
بعد وليمة "المقلي" وشرب
الشاي الأحمر المعتّق قال عمّي المنصف :
- أين هو سرب العصافير ليطير إلى
الجنان؟
جمّعنا عمّي وساقنا كالقطيع إلى الجنان.
هناك أصبحت الغواية تدعوني إلى اللعبة فتسحبني إلى الركن القصيّ، وتنثر الشعاع في
عيني ليدعو سامي إلى اللّعبة الممتعة.
في المرة الثالثة كنّا منهمكين في
بحث طفولي عن سحر هذه اللعبة عندما هاجمنا صوت عمّي و أمسك بنا متلبسيْن باللعبة
الماكرة. نال سامي يومها ضربا مبرحا، سيظلّ بلا شكّ لطخة سوداء في
ذاكرته. بحدسي الطفولي أدركت فداحة ما حدث حتى إن البول انهمر بين فخذي لما تخيلت
أن والدي قد علم بالأمر.
بعد أن انتهى عمّي من زوبعة ضرب سامي جرجرني قابضا على أذني بأصابعه الخشنة الغليظة صائحا
في وجهي:
- سيذبحك سيدي حامد لو علم!
انغلقت الدنيا في وجهي ورأيت السماء
تسقط قطعا فوق رأسي. أصبحت ذليلة بعد أن فقدت حريتي، وأحسست أنني بتّ رهينة قرار
عمي الذي كظم السرّ في طيات صمته، غير أن نظراته تجاهي لم تعد صافية. شيء ما عكّر
ذلك الصفاء الذي كان يلف حبّه لي. بتّ أهاب تلك النظرة الغريبة، بل أخافها وأتهرّب
منها. أحلّلها الآن فأعثر فيها على تهديد صغير ونزق كبير!
في الأسبوع الأخير من شهر أوت نمت في القيلولة على فخذ أمي في السقيفة حيث
تغدينا. تركتهم يترشفون الشاي واستسلمت لنعاس لذيذ في مهبّ نسمة طرية صنعها تيار
الهواء.
والدي ينام وحده في غرفته بعد
الغداء. أما جدّي فيحافظ دائما على وضعه الذي يتخذه بعد الأكل متكئا في شبه
استلقاء. يشرب الشاي ثم يتأرجح بين النّعاس واليقظة إلى أن يهبّ فجأة واقفا
متنحنحا متجاوزا تعب الشيخوخة، داعيا نفسه إلى عمل ما.
يتسلّل أعمامي وأبناؤهم إلى منازلهم القريبة،
وتبقى زوجاتهم وأمّي وجدتي لإحياء حفلة النميمة العائلية في انتظار التحاق عمّاتي
مع هبوب أولى نسمات العشية.
فزعت من نومي على حركة يد أمّي تحثني
على النهوض منادية عمّي:
- يا منصف أرجوك ، خذ معك مُنَى
لتنام على السرير، لقد نمّلت ركبتي.
يسحبني عمّي من يدي. أتعثر في خيوط
نعاسي. يجرّني وراءه ثقيلة مفسدا عليّ متعة نومي فأحسّ أنه سيأخذني إلى المقصلة.
تستيقظ أعماقي ويجفل النوم من عيني!
تمدّدت على سرير فردي بينما ارتمى هو
على السرير المقابل. أغمضت عيني ونظّمت إيقاع أنفاسي كما لو أنّي نائمة. كنت، متهيبة، منتظرة تفتق تلك
النظرات الغريبة التي ظل يرمقني بها ما يزيد على الشهر!
فجأة شعرت بدفء يلامس قدميّ
المعقوفتين إلى الوراء. وترجمت الإحساس: ها هو يجلس تحت قدميّ. زدت في انكماشي
وأحكمت عقدة ركبتيّ. بينما تعالت أنفاسي لاهثة لتفضح كذبتي: لست نائمة. لقد كان
ذلك واضحا. ثم جاءني صوته مخترقا الظلمة التي غصت فيها كأنّه الفزع يطرق روحي:
-هل عاد سامي
للتحرّش بك ثانية؟
لم أدر كيف أتصرّف، هل أجيب؟ هل ألوذ
بادعائي النوم؟ فتحت جفنيّ ببطء وتردّدت كمن يستعيد بصره بعد فقدانه. رأيت الحائط
مخربشا ومقشرا طلاؤه. مازلت أتلمّس كلماتي لأنتقي الجواب لما عاد صوته يطرق ظهري.
-أنت لم تروي
لي بالتدقيق ما فعل معك سامي؟
أحسست بالهوة التي سأسقط فيها تتسع.
بلعت صوتي وكلماتي وريقي المتيبّس في حلقي وأدركت أنّه لم يعد أمامي من سبيل لردّ
الهجوم القادم كالإعصار. عندها بلغتني الضربة القاضية التي رمت بي في الاستسلام.
- طبعا لن أقول شيئا لسيدي حامد. ولا
لأي كان. فقط...
ثم سحبني ليجلسني حذوَه. تعلّقت يدي
باللحاف الأخضر المشجّر، كأنّي أستند إلى جذع من جذوع الأشجار المرسومة على
اللحاف. جذبني إليه ليوقفني بين ركبتيه ويضمهما فيعصر ساقيّ المرتجفتين، ويتوغل
بنظراته الجريئة الحارقة الخليعة في أعماق أعماقي حيث كُتمت رغبتي العارمة في
الصراخ وطلب النجدة. قرّبني إليه وهَمَسَ في أذني فأحرقتني أنفاسه الملتهبة :
- سامي مازال طفلا، لم يتعلّم اللعبة
جيدا. أما أنا…
قضم
شفاهي الصغيرة فهجم عليّ فمه لزجًا ومعبأ برائحة السجائر كأنّها الحطب المحترق.
وهجمت عليّ الرغبة في القيء. مسك يدي، دسّها في سرواله لتقبض أصابعي الصغيرة على
شيء غليظ وأملس كأنّه الوتد. ازدادت رعشتي، وتغبّشت هوية إحساسي. وتأكدت أني فقدت
القدرة على النطق.
أجلسني على ركبتيه، وسّع بين فخذي.
أزاح "كيلوطي" إلى الجنب وقرّبني
إلى فتحة سرواله الرمادي، ووقعت دهشتي على رأس
ملساء ورديّة. قرّبني إليه وظلّ يرقّصني بيديه جيئة وذهابا حتى ذبحتني
سلسلة السروال وحتى بلغت صرخة الوجع شفاهي لكنها لم تغادرها قطّ، وظلّت محبوسة في أعماقي.
في تلك اللّحظة تماما اندلق عليّ شيء
لزج فاحت منه رائحة كأنّها البصل أو الثوم. غصت في رعب الدهشة بينما تخلى هو عنّي
يسند ظهره إلى الحائط المخربش.
بدت لي تلك الثواني كأنّها الدهر
يلقي بثقله على صدري، كأنّها المارد يكتم أنفاسي. أَختنق، أختنق لكني لا أقوى على
شيء، فقط تنزل دموعي على فستاني الأحمر والأبيض لتغسل الجرح الذي انفتح في قلبي.
كأنّي به عاد من غيبوبة. مدّ منديلا
من جيب سرواله، منديلا أزرق مخططة جوانبه بالأبيض والأزرق البترولي. مسح فخذيّ
بينما ظلّت لطخة السائل متيبّسة قابضة على جلدي حتى تكمّش. أنزلني من على ركبتيه.
ظللت واقفة أرتجف وأبكي في صمت. مسح سرواله. سحب السلسلة بأسنانها الصفراء ليقفل
الباب عمّا حدث. نهض. مسح دموعي بكفه الخشنة كأنّها الحائط. قبلني على خدي وقال:
-لا تخشيْ شيئا. لقد علّمتك اللعبة .
سكت، ثم أضاف:
-طبعا لن تخبري أحدا. كذلك أنا.
نامي.
عدت
إلى السرير أحضن غابة حزني وأشجار عذابي وأتطلع إلى الحائط المخربش وأبكي.. بينما
بلغني صوت الماء المندلق من السطل على البلاط كأنّه لطخات السوط على ظهر القيلولة
الحارقة. فعرفت أنه يغتسل.
* * * * *
كانت دموعي تسيل على خدّي حارقة كأنّ
ما حدث إنما حدث الآن. لم يشخ في الذاكرة ولم يداهمه الشيب.
أمطر مجدي وجهي ورأسي وكل جسدي
العاري بقبلات سريعة مجنونة، كأنّي به يعتذر عن ذنب لم يرتكبه. تسللت من بين زخات
قُبَلِهِ وذهبت إلى الحمام. ملأت الحوض الأزرق بماء حارق وغطست فيه أكوي وأكوي
جروح جسدي المتفتحة.
لم أكن أدري ماذا رويت لمجدي ؟ هل
رويت ما حدث حقّا ؟ هل حدث ذلك حقا ؟ هكذا تشكلت الحكاية، وهكذا كانت تفاصيلها
التي صنعتها شخصية مجدي و حضوره.
اخترق عليّ غابة شكي بكأس وسكي معبأة
بالثلج. شربت جرعة كبيرة، نزل السائل الى أعماقي بردا وسلاما. ابتسمت للعدم.
جلس على حافة الحوض. شرب من كأسه. أغمض
عينيه ثم سأل:
-وكيف تواصلت علاقتك بعمك بعد ذلك؟
عدت أبتسم للعدم، للقدر، للمكتوب لا
أدري ! للوهم أصنع منه ما أشاء.
ثم قلت:
- شاء القدر إثر ذلك أن يضع نهاية
ما. في مساء ذلك اليوم بعد القيلولة حدث شيء غريب. أسرج عمّي الكبير الحبيب الحصان
الأبيض كي يذهب إلى الغابة التي تبعد بعض الكيلومترات ويجلب كمية من الحطب الجاف
الذي يخبّئونه لأجل التدفئة في أيام الشتاء البارد.
كان أبي يستمتع بجلسته المسائية على
السطحة. إلى جانبه كان يتكئ جدّي على جلد الخروف الوثير. وكنت أجلس قربه بعد أن ألقيت ما حدث في قاع نفسي التي تعلّمت
منذ تلك الحادثة معنى الكتمان. تحلّق أبناء أعمامي حول الحصان يرغبون في الركوب.
جاء عميّ المنصف بريئا. كأن ما حدث لم يحدث وشرع يقذف بأحدنا فوق الحصان. يتقدم الحصان خطوات ثم يقف. يُنزل
عمّي من ركب ويقذف بالآخر. همس جدي في أذني:
- هل تحبين
ركوب الحصان ؟
سكتُّ، وقال أبي:
- اتركها، ربما تسقط!
لم يعر جدي ما قاله ابنه اهتماما ونادى:
- تعال يا منصف، خذ مُنَى كي تركب
قليلا على الحصان. انكمشت في مكاني. وتطلعت إلى وجه حامد عبد السلام … جاء عمّي
المنصف. سحبني من يدي ليأخذني مجددا إلى مواجهة القدر. اقتربنا من الحصان
فرفس بقدميه الأماميتين وجمح.
وصاح أبي:
-
أنزلها يا منصف، أنزلها.
لكن صوت والدي وصل متأخرا. لقد كنت
لحظتها في الهواء لأجلس على الحصان الذي جفل وركض بعيدا، تاركا إياي على الأرض
أصرخ وأبكي من شدة الألم.
جنّ جنون حامد عبد السلام ثمّ أخذني
سريعا إلى المستوصف. لم يستطع الممرض المرابط هناك أن يفعل شيئا مما اضطر والدي
إلى أن يذهب إلى ابن الشيخ الذي يملك
سيارة راجيا إياه أن يأخذني إلى أقرب مستشفى إلى القرية.
لمّا أفقت وجدت ساقي معلقة محبوسة عن
الحركة في لفة ثقيلة من الجبس. بقيت أياما بالمستشفى عدت على إثرها مباشرة إلى
بيتنا في تونس. وكانت أمّي قد سبقتني في العودة. وعرفت فيما بعد أن والدي حلف
بأغلظ الأيمان ألا أعود أبدا إلى هناك بعد الأذى الذي أصابني. وانقطعت وأمّي منذ
ذلك الصيف عن زيارة القرية بينما كان أبي يقوم زيارات قصيرة ومستعجلة إذا اضطرته
الحاجة إلى ذلك.
ولم أشاهد عمّي المنصف بعد ذلك قطّ.
وحتى عند وفاة جدي لم أسافر مع أمي وأبي وبقيت عند خالتي في تونس. وفي المرة
الوحيدة التي رأيته فيها لما ماتت الوالدة لم أكن في كامل وعيي لأرى كيف أصبح ذلك
الشاب النزق بعد أكثر من عشر سنوات مرت على تلك الحادثة الصيفية.
الفصل
( 14 )
لا أذكر من
أنا، فقط أراني أحترق. لماذا؟
لا يهمّ!!
أشتهي أن يكون الزمن الآن فجرا.
أشتهي أن يأتيني الإله وأن أظل في غيبوبة، أعي ما يحدث، ولا أستطيع الحراك. وأشتهي
أن أتسلل مني، وأقف في المطبخ وأصنع لي قهوة. أتشمّم عبيرها، أعود إليّ وأشربها في
منامي قهوة معتقة برائحة الهيل .
الفجر يتسلّل إليّ من شقق النافذة،
يخترق الستائر وينقر على قلبي بقطرات نداه. وخيوط شمسه الخجولة تمسح خدي وتنثر عليه لون الورد.
وأنا من أنا ؟ أتعثر في الوجود،
يتهيأ لي حينا أني عشقته، ويبدو لي حينا آخر أني لا أعرفه!
وهو كيف يراني؟ من أنا بالنسبة إليه؟
يشفق على ضعفي حينا، ينشغل بسؤالي حينا آخر، ويضحك من بلاهتي غالبا. لن أركع. لن
أستسلم. بل سأتحدى وسأعلن "اللا" صارخة
في وجه الوجود:
-لا تشفق،
لا تشفق. لست بحاجة إلى سؤالك. أنت المجهول... أنت الخديعة… أنت الوهم. أنا صنعتك
لأتسلى... لكن اللعبة تحولت إلى جدّ. ارحل أيها الوجود، ألق بي في هوّة الفراغ.
أعدني إلى أحضان العدم.. لماذا جئتني؟ لماذا أشقيتني بالسؤال… و البحث عن أسرار الحياة عن
أسرار ذاتي؟
أدمنت عادة
السؤال. تلك كانت بلاهتي! تلذذت حتى الانتشاء عبودية
السؤال. وذلك كان غبائي. وأنت من أنت أيها الوجود؟ وهم، أكذوبة!!
رائحة القهوة تثير الشبق لكن داخلي
حطام.. حطام.. حطام! وعنادي فارس يترجّل. وغيبوبتي أصبح لونها بلون الغروب.
وخيوط الشمس ذاوية تمسح خديَّ وتأخذ منهما لون الورد. تكسرت الابتسامة. وتسمّرت
الكف في الفضاء تمثالا من العصور الغابرة تسأل ماذا بقي في العمر حتى نكابر.
ونعود غرباء. وأعود أهذي. من أنا ؟
من أنت؟ من أنا؟ من أنت؟ في فوضى المشاعر هذه... وفي ارتباك اللّحظة.
*** *** ***
تفتحت جفوني ببطء. تلفّتّ حولي. كان
إحساس الغربة يسكن روحي. كأنّي كنت في سفر طويل وعدت لتوي مصابة بدوار الرحلة..
تثاءبت.. تمطيت... أزّ الخشب تحتي… انتبهت: وإذا بي على الكرسي الهزّاز. أمعنت
النظر في شبه العتمة وإذا بي في غرفة حامد عبد السلام قرب سريره.
جهرني ضوء التلفزيون الذي انقطع
إرساله وظل « يتشتش » معلنا نهاية البرامج. تطلعت إلى ساعة معصمي أدقق
النظر فيها… كانت الساعة حوالي الثالثة والربع فجرا. على حجري دفتر أيامي، وقلمي
الأسود. قرأت في الضوء الشحيح الأسطر الأخيرة :
" ... ونعود غرباء. وأعود أهذي،
من أنا؟. من أنت؟. من أنا ؟ من أنت؟ في فوضى المشاعر هذه وفي ارتباك
اللحظة"..
أغلقت الدفتر. ونظرت إلى الكوميدينو.
استغربت وجود كأس بها بقايا وسكي.. هل كنت أشرب أمامه؟ أكيد أنه شمّ رائحته. هو
نائم الآن في نفس جلسته تلك. الوسائد وراء ظهره والأغطية على حجره. مددت يدي لتقبض
على يده القريبة من حافة السرير، ضغطت عليها، عصرتها، منذ زمن يرفض الاقتراب مني.
كأنّي أسرق الحنان في غفلة نومه. قلّص يده ثم سحبها. إذن لم يغرق في نومه. كان بين
النوم والصحو. والآن ها هو يستيقظ لكنه لا يعلن ذلك.
لن أغادر غرفته. جئت لا أعلم كيف؟
كيف جئت بالكرسي من غرفتي؟ ولماذا ؟ هل جئت أطلب مصالحة؟ هل جئت أشرح ما حصل بيني
وبين منجي ؟. هل جئت أتقرّب منه؟ متى كتبت تلك الهلوسات على دفتري؟ كل ما أدريه
الآن أن رغبتي في الحديث إليه كبيرة وعميقة، أعمق من كل لحظة قديمة وددت الكلام
فيها.
عدت أضع يدي على أصابعه. سحبها سريعا
كأن عقربا لدغته. تأكدت أنه يخفي الصحو تحت جفونه فقلت:
- هل تذكر تلك الصباحات الجميلة؟ تلك
الصباحات المندلقة لتوّها من بركة السعادة.. لما كنت تمشط شعري وتربطه بالشريط
الوردي وتلبسني المنديل الملوّن وتضع الحقيبة المزينة بصور الحيوانات على ظهري.
تأخذني إلى روضة الأطفال بعد أن تحرص بنفسك على أن أشرب حليبي وأتناول فطوري.
مازال ذلك الصوت الجهوري الذي يتلو
أخبار الساعة السابعة في الإذاعة يرن في أذني.. ومازال صوت فيروز كلما سمعته يغني لي ذكرى تلك الصباحات.
وكنت تأخذني بنفسك إلى الروضة. وتمدّ
الأمانة يدا بيد إلى " آنستي"
فاطمة. التي تطبع على خدي قبلة.
تأخذ حقيبتي مني وأجلس في مكاني إلى جانب الرفاق. وكنتَ تذهب مطمئنا،
مزهوّا، متأكدا أن صغيرتك في الأمان تتعلّم اللّعب مع الصغار وتستعد للمدرسة.
كانت فكرة الرياض حديثة إذ كان
الكتّاب هو الأكثر شيوعا لتعليم الأطفال حفظ القرآن والكتابة والقراءة قبل
دخول المدارس الحكومية. وكنتَ من عشاق
الحداثة.
كنت أنا فأرة مخبرك التي أجريت عليها
كل تجاربك. فملأت رأسي الصغير بكل ما تعلمته وكل ما قرأتَه من أفكار بدت لك هي
السلاح الذي سأواجه به القدر والزمن. لكن الفأرة لم تمت ولم تُشَرَّح كما يحدث
دائما في كل التجارب المخبرية. فَأْرْتُكَ أنتَ المدلّلة كبرت واشتد فكرها
فتجاوزتك لتكون المفارقة بيننا أشدّ عمقا من المتعارف عليه.
وبقدر ما ملأتَ رأسي بالأفكار
الجميلة والمبادئ القيّمة التي سميتَها كنزي وثروتي الوحيدة تجاهلت روحي وتجاوزت
قلبي. فأنا منذ تلك الأيام الخوالي، أيام الصبا الأولى، أيّام لم أتجاوز السادسة
لا أذكر مثلا أنك حضنتني، أو أنك قبلتني، أو أنّك أغدقت علي حنانك المادي الملموس
، أو قلت لي ذات صدفة إنك تحبني.
منذ أن دخلتُ إلى المدرسة تغيرتَ.
انقطعت علاقتك المباشرة بجسدي، بقلبي، وروحي. تفرّغت لرأسي فقط. تملأه وتملأه.
أجلس إلى المكتب لأراجع دروسي فتجلس بعيدا وكأنّك مدرّس غريب. تحدثني وبيننا
مسافة.. أمّا شؤون الحياة فأصبحتَ تعالجها
بواسطة أمّي.
وكلما كبر الجسد رأيتك تبتعد وتبتعد
وتبخل أكثر وأكثر بعواطفك نحوي. أظنك كنت
تكتمها.. عندما غادرتنا الوالدة رحمة الله عليها سقطنا في بركة الصمت. كنتَ تغدق
عليَّ كل حنانك وعطفك من خلال خدمتك لي. هل كنت تودّ أن تكفّر عن تقصيرك العاطفي
معي ؟ هل كنت مدركا لذلك؟ هل كنت تعلم أنك صقلت عقلي وشوّهت قلبي؟ هل كنت تدرك أنك
أعطيتني المفتاح الذي أحلّ به كل العُقد،
لكنّك صنعت داخلي أكبر العقد وأكثرها استعصاء على الحل؟ كم مرة وددتُ أن أركض
بجسدي الفارع وأرتمي في أحضانك لتعصرني..
في كل مرة كنت أرتمي في أحضان الرجل الذي أعتقد أني أحب، فأراك بدَله. وفي
كل مرة كنت أجلس إلى الرجل الذي أتوهم أني أحب فأخضعه أولا إلى اختبار: هل يشبهك
أم لا في الشكل وفي المضمون؟ فإن كان يشبهك كنت أنفر وأقول إنه سيكون مثلك قاسيا..
ومتكتما على عواطفه. وإن لم يكن يشبهك فإني
أنفر أيضا لأنّه لن يكون حرا في أفكاره مثلك ولن يكون عظيما مثلك!!
وظللت طوال عمري أنفر من شبيهك وأنفر
من نقيضك لأنّي ظللت أسيرتك. دليتَ لي صنارتك معلقا في آخرها الطعم الذي يغري أي
أنثى لكنك لم تنتشلني، فبقيت معلقة في طرف الصنارة دون أن أتمتع طوال عمري بحريتي
الحقيقية. اعتقدتَ أنّك علّمتني كيف آخذ حريتي، لكنك كبّلت أعماقي وتركتني معلّقة
أتخبط لا أدري كيف أحيا. كم مرة وددت لو تسألني عن أحوالي الحقيقية، عن أحوال قلبي
وروحي. لو تسألني عما أدمى هذه الروح مذ كانت طفلة هشّة بل في أشدّ فترات العمر
هشاشة.
تمنيت في ليالي السهاد الطويلة أن
أطرق باب قلبك وأن أحدثك كما أحدثك الآن عن أوجاعي، عن تلك الحادثة التي كانت
بداية الوجع، عن ذلك الذئب الذي نهش طفولتي وأنوثتي وملأ ذاكرتي بالسواد، وساعدتَه
أنت على ذلك.
كان ذلك في بداية الصّيف . كنت ألعب
مع رفاقي في الروضة لمّا أحسست برغبة في الذهاب إلى بيت الراحة. رفعت إصبعي
مستأذنة "آنستي" فاطمة في ذلك. أخذتني من يدي ورافقتني حتى الباب المطلّ
على الباحة. كانت قاعة الروضة عبارة عن غرفة كبيرة ملحقة بمنزلها.. وكان بيت
الراحة الخاص بالأطفال يقع في تلك الباحة التي تربط بين المنزل والروضة بواسطة سور
عال.
دخلت بيت الراحة وإذا الباب يدفع ورائي. لقد كان شقيق
"آنستي" فاطمة. وقد قال لي في
المرات السابقات التي دخل فيها ورائي إنه يراجع دروسه ليجتاز امتحان الباكالوريا.
في تلك الأمسية قبّلني على شفتيَّ
كما اعتاد أن يفعل بعد أن أقنعني أن قبلة الكبار تتم بتلك الطريقة، ثم كعادته أيضا
قبّلني بين فخذي طويلا.. أمّا الجديد في تلك الأمسية فكان ذلك القضيب الذي ارتعبت
منه لما رأيته، لكنّه طلب مني الكتمان محذّرا إيّاي من انتباه "آنستي"
التي ستضربني وتعلم والدي.
سكتُّ، ونفذت أوامره. مضغ قطع
الشوكولاطة التي جاء بها إليّ كعادته وبصقها سائلا في كفه ثم طلى بها ذلك الشيء
الضخم الذي يطلّ من فتحة سرواله وأمرني بأن أمصّ الشوكولاطة. نفذت.
وأخيرا رفعني إليه. احتضنني. عصرني
ثم أسندني إلى الحائط وبحركة واحدة أنزلني إليه.. أحسست بشيء قاس يجتاحني،
صرخت. لكنه كتم صرختي عندما أطبق على شفتيّ بشفتيه. رفعني سريعا ووضعني على الأرض.
كنت أبكي موجوعة عندما نظرت إليه، وإذا به يستند إلى الحائط بينما كان ذلك القضيب
يقطر كأنّه يبكي معي ألمي. انحنيت لأرفع « كيلوطي » فرأيت على بياضه
نقاطا حمراء.
قلت بصوت دامع:
- لقد جرحتني!!.
قال:
- ستنسين الأمر سريعا. المهمّ
ألاَّ تعلمي أحدا بما حدث. لأنّهم جميعا
سيجلدونك وأنا الوحيد الذي سيعطيك حلوى وشوكولاطة.
أبكي الآن بصوت مسموع. وأتحدث إليك
بصوت مسموع. لم يعد ينفع، لأنه كان يجب أن أتحدث إليك في تلك الليلة. كان يجب أن أعلمك
وأعلم أمّي. لكن الذئب أرهبني. وحدسي أكّد لي خطورة الأمر فكتمت. كتمت الحادثة في
أعماق ذاتي. دفنتها لكنني لم أنسها. وكنت دائما مستعدة للجواب لو أنك سألتني عن
حالي وعنّي وليس عن حال الدراسة فقط. لو أنك تصرّ كل يوم على السؤال عن علاقاتي،
عمّا حدث لي خلال اليوم لاكتشفت ما حدث يومها. لكنّ إصرارك الوحيد كان السؤال حول
ماذا تعلّمتُ؟ وماذا حفظتُ ؟ وماذا كتبت ؟ ولم أكن أجرؤ على الاعتراف وروحي
الصغيرة الهشّة مكبلة بالخوف بل بالرعب.
كبرتُ وكبرتْ أسئلتي ولم أجدك بقربي
لتدلّني. ولم تكن تسمح لأمّي بأن تفعل هي ما يجب أن تفعله أي أمّ مع أسئلة ابنتها.
فكنت لا أسمع منها سوى : " أبوك لا يحب ذلك " !
كبرت وحيدة. ودخلت معمعة الحياة
الحقيقية وحيدة .
نجحت في دراستي بل وتألقت لأنّك أخذت
بيدي وعلّمتني ووقفت إلى جانبي. وفشلت في الحياة لأنك تخلّيت عني.
الآن أسألك لماذا فعلت ذلك؟ لماذا
خفت من جسدي؟ لماذا هربت من أنوثتي وهي جزء منك. بل إنّها أنوثتك فيّ؟ لماذا لم
تأخذ بيد صغيرتك لتحميها من ذئاب المجتمع ؟ لماذا حرّرت فكرك وتركت إحساسك محافظا
بل متخلّفا ورجعيا؟ لماذا. لماذا. قل لي لماذا ؟
ألقيت برأسي إلى ظهر الكرسيّ الهزاز
فتقاطر الدمع على خدي دافئا. كنت أبكي
بإحساس الطفلة. كنت أبكي بقلب الطفلة الذي امتلأ رغم صغره بثقل الحياة. ففقدت
الطفلة هشاشتها وطفولتها. وتعلّمتُ الكتمان. تعلّمتُ كيف أربّي وحدتي، وكيف أعيش
معها بل وأصادقها.
علّمتني تلك الحادثة كيف أعيش رفقة
الوجع، وكيف أحيا بقلب مشوّه لا يقدر الطب على إصلاح تشوّهه. ظلّ والدي جامدا
كتمثال يحدق في الفراغ. لكن ذلك لم يحبط رغبتي الجامحة في مواصلة الحديث. انتظرت
كل هذه السنوات حتى يشتدّ عود جرأتي لأحدثك. هل سمعتني ؟ هل تسمعني الآن؟
كنت أودّ أن تردّ على اعترافاتي التي
لا ذنب لي فيها.
لم أكن أتوقع أن يحدث ما حدث. جئت
بمراد في محاولة أخيرة لأشفي نفسي المريضة من عقدتها. ولم أكن أنتظر قطّ أن تكون
أنت الضحية هذه المرة.
لكنني أعود إلى صورة الأب الذي تفانى
في صنعي امرأة مثقفة، واعية فأكاد أغفر لك، فأنت منّي.
حاولت أن أطلب غفرانك. حاولت أن
أسعدك بزواجي من منجي. لكن محاولتي كانت فاشلة.
اكتشفت أني سأنتحر بهذا الزواج، اكتشفت أن منجي يشبهك في أعماقه فهربت. هو
مثلك في محافظته وخوفه من الجسد. لذلك هربت إلى أحضان لطفي الذي بدا لي أنّه يشبهك
في مظاهر أفكاره الجريئة.. لكن تبيّن لي إنّه ككل الرجال عندما يتعلق الأمر بعلاقة
رسمية.
قررت أن أفتح قلبي الذي ناء بحمله
الثقيل. قرّرت أن أبعثر ما كنت أعتقد أنه أسرار. لكني أسألك الآن ما معنى أسرار؟
ما معنى أن أخفي مثل هذه الحكاية التي لن تغيّر شيئا من الحياة سواء أعلنتها أو
أخفيتها ؟ الفرق الوحيد هو أنني سأصبح
الآن أكثر خفة.
وأنا الآن أحسّ بنفسي تكاد تطير.
وسأطير.
همست أسأل نفسي : غيّرتُ مرّة أخرى في تفاصيل الرواية ومرّة أخرى لا أدري لماذا ؟ فقط وجدتني أروي
حكاية اكتشفتها أنا أيضا كما اكتشفها حامد عبد السلام !! .
نهضت.. قبلت جبينه.. وتركته في جلسته
تلك كأنه تمثال.. لبست وذهبت خفيفة إلى البحر..
الفصل
( 15 )
في تمام تلك اللّحظات أحتاج إليه، فأركض نحوه.
هو وحده الذي يعرف كيف يسند هشاشتي.
هو وحده الذي يعرف كيف يحوّل دموع روحي المتقاطرة إلى شاطئ هادئ آمن أسبح فيه.
قفزت على درجات سلم العمارة الواقعة في منطقة المنار وفي الطابق الثالث توقفت أبحث
عن منزله.
حدّثني مرّة أنه يضع على الباب معلقة
كتب عليها بماء الذهب بيت من شعر المتنبي.
على اليمين لمعت المعلّقة على الباب.
وقفت أمامها وقرأت: "هذا منزل الشاعر محمّد بلحاج"
"الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسيّف
الرمح والقرطاس والقلم"
ابتسمت. بل تحوّلت ابتسامتي ضحكة كبيرة لمحت نهايتها المرأة التي فتحت
الباب. شقراء نحيلة. طويلة. ملامحها دقيقة. حدست أنها أجنبية ولم يخب حدسي إذ
سألتني بالفرنسية : ماذا أريد ؟
وقلت:
- أنا صديقة للشاعر جئت أبحث عنه.
تغيّرت نظرة المرأة من البراءة إلى
الريبة. و بدا لي أن في نظرتها موقفا. وقالت ببرود بل بجفاء:
- انتظري…
بعد خطوات توقفت. استدارت وسألت:
- أقول له من؟
بنفس إيقاعها قلت:
- مدام مُنَى عبد السلام .
هل كنت أطمئنها بكلمة مدام التي لم
أكن أتخيّل يوما أن أقرنها باسمي ؟
ربّما…تأكدت أنّها زوجته لكني استغربت أن تكون زوجته فرنسية. لماذا لم
يعلمني بذلك؟
قطع أسئلةَ فضولي صوته وهو يهرول
متعثرا نحوي:
- أهلا، أهلا. ما هذه المفاجأة
السعيدة؟ تفضلي، تفضلي.
فاجأتني جرأته وهو يقبلني ويسحبني من
يدي قائلا:
- لنجلس في غرفة المكتب.
ولم أكن أتوقع البتة أن تكون الفوضى
هي الشيء الوحيد الواضح في المكان. كتبٌ... كتب ملأت رفوف المكتبة ثمّ تكدّست على
المكتب الكبير، ثمّ على البلاط.
سألته :
-لماذا لم
تخبرني أن زوجتك فرنسية؟
ضحك وقال:
- ذهبت مرّة إلى باريس بدعوة من إحدى الجمعيات الثقافية. ذات صباح أفقت في غرفة
الفندق الذي أنزل فيه فوجدت امرأة في سريري. استغربت. وسألتها:
- من أنت؟
فقالت ببرود:
-
أنا زوجتك .
صعقت وصرخت:
- متى حدث ذلك ؟
قالت:
- البارحة مساء ذهبنا إلى الكنيسة
وتزوجنا .
لم أصدق ادعاءها لأني لم أذكر أي شيء
ممّا روته لي. وأنهيت الشك بأن ذهبنا للتأكد. كانت بعد أن غادرنا الكنيسة تقف إلى
جانبي متشبثة بذراعي كأنّها تمسك بالثروة. ألقيت عليها نصف نظرة. وهمست لنفسي: هي
جميلة رغم نحافتها المبالغ فيها.
جلسنا في أوّل "بسترو"
اعترض سبيلنا. شربنا بيرة سمراء. وقلت لها:
- يجب أن تعلمي أن ما حصل ليس
إلا حادث مرور يمكن أن يقع لأي إنسان يسير
في الطريق.
أنا صدمني الزواج بك وقد حدث في غيبوبة السكر والعبث. كذلك اعلمي
أنني في زيارة قصيرة إلى فرنسا وأنني لن أعيش أبدا بعيدا عن تونس. فإذا
كنت متشبثة بهذا الحادث/الزواج فليكن ذلك في بلدي وبشروطي. الغريب في الأمر
أنها وافقت.
بعد أكثر من خمس سنوات من هذا الزواج
أنجبنا ابننا الوحيد كريم. لكن الطريف في هذا
الحادث الذي أصاب حياتي أن هذه المرأة التي وضعها القدر في طريقي تكاد تكون
في أخلاقها وفي أفكارها وفي غيرتها كالمرأة التونسيّة العربيّة.
ابتسمت وقلت:
- لذلك تطلعت إليّ بنظرة غريبة لما
سألت عنك.
- هي متشبثة بي إلى درجة أنها لم تزر
أهلها منذ جاءت معي منذ أكثر من عشر سنوات. فهي ترفض السفر كلما حاولت إقناعها
بذلك. المهمّ لقد استسلمت للقدر ولما اختاره لي.
- الأهم من ذلك أن وجود هذه المرأة
لم يغيّر حياتك ولم يأخذ من حريّتك.
- طبعا. طبعا. لن أسمح لأي كان أن
يأخذ حريّتي. اسمعي لا داعي للخوض في هذا الآن. أنت، ما الذي أجْبَرك على زيارتي ؟.
-أجبرني؟ لماذا تقول ذلك ؟
- لأنني أعرف جيدا أنك لم تزوري بيتي
مجاملة فأنت لم تلبِّي دعواتي قطّ !
تأكدت أنه لن ينفك عن محاصرتي حتى
يعرف سرّ هذه الزيارة. غير أنني أحسست فجأة بحاجز غريب يمدّ يده ويكتم بَوْحِي
الذي جئت من أجله. فقلت له:
*** *** ***
- لا تعتقد أن في الأمر خطورة ما.
لا. بل كعادتي عندما أختنق أو أفرح، أجد نفسي تلوذ بك من شدّة الحزن أو شدّة
الفرح. أحسّ بنفسي وحيدة حدّ العزلة في مثل هذه الحالات فأجيء باحثة عن شريك أو
حتى عن شبه شريك.
وطلبت منه أن نغيّر المكان.
فورا أدرك محمّد قصدي ورغبتي.
فغادرنا البيت في تواطؤ. ركب إلى جانبي. وبدأ يرشدني إلى الطريق فحوّلني إلى مجرّد
سائق.
دون كلام نفذت تعليماته. وقفت عند
بداية نهج من الأنهج الضيقة القريبة من السوق المركزية. انتظرته في السيارة. عاد بعد حوالي نصف ساعة
يحمل كيسا بلاستيكيا أسود. ركب ، وضع الكيس على أرضية السيارة بين ساقيه ضجّ الكيس
بحمولته فأدركت أنّه اقتنى شرابا.
بعد قليل وقفنا قريبا من فندق السان
جورج. نزل. غاب قرابة نصف ساعة. ثم جاء تسبقه ابتسامة زاهية. قفز إلى جانبي وقال
آمرا وغير آبه لرأي:
- الآن إلى الحمامات.
استغربت وقلت:
- الآن. الآن. لا أقدر.. الحقيقة أن
ظروفي لا تسمح.
ودون أن يغير في لهجته الواثقة عاد
يقول:
- إلى الحمامات ودون نقاش.
أذعنت فتحوّلت الرغبة في الذهاب إلى
حصان جامح لا يوقفه شيء .
فتح الدرج أمامه وراح ينتقي شريطا.
ثم وضع الشريط في مسجل السيارة فتعالى صوت فيروز تغني من تلحين ابنها زياد:
"كيفك أنت.. ملا أنت". ثم راح يعالج الكيس البلاستيكي غير مبال بخشخشته،
فتح علبة بيرة، مدّها إليّ. أخذتها كانت باردة. قلبت نصف العلبة في جوفي.
عاد يدلّني على الوجهة … توقفنا عند
جزّار في مدخل مدينة الحمامات … نطّ خفيفا ثم جاء بالكيس بين يديه.
بعد عشرين دقيقة انتهت بنا
الرحلة أمام بيت على شاطئ البحر.
كان سور الحديقة واطئا لا يتجاوز
علوه نصف متر. بينما تعالت الأشجار في السماء تكاد تخبئ البيت عن الأنظار.
رتب محمّد الجلسة على الفرندا
الصغيرة قبالة البحر مباشرة. على الطاولة، وضع قنينة النبيذ الأحمر التي ظل يتغزل
بها طوال السهرة. رششت قطع اللّحم بالملح والفلفل الأسود. ورميت بها على الجمر
مباشرة. فاحت رائحة الشواء شهيّة، وصبّ محمّد النبيذ المخملي في الكؤوس.
تطلعت إلى البحر فإذا هو صامت كأنه الهدوء . بقية المنازل المجاورة على
الشاطئ غارقة في العتمة. لا أحد يجيء إلى البحر شتاء إلاّ المجانين، إلاّ أن الطقس
في تلك الليلة كان ربيعا برغم الشتاء.
ابتسم محمّد فخورا بهديته وقال:
- ها قد وفرت لك الجو المناسب. هات
أوجاعك أحمل وزرها.
شربت الكأس الثالثة. شفّت روحي حتى
البوح. فقلت:
- في فجر الليلة الماضية واجهت
والدي، رميت في وجهه أوجاعي التي أنفقت كل أيام حياتي أخبئها في أعماقي لتدمي
روحي. آلمته بالتأكيد، لكني لا أنكر أني شعرت براحة كبيرة وأحسست بخفّة في جسدي.
-وكيف كان ردّ فعله؟
- لا أدري، هو كعادته يغمض عينيه فلا
أدرك إن كان نائما أو مستيقظا. أمسكت يده فسحبها فعلمت أنه مستيقظ… بعدها لا أعرف
إن كان سمعني أم لا. ظل على حاله تلك الى أن غادرته في الخامسة صباحا.
- عمّ حدثته؟
تنهدت وقلت:
- عن وجع لم أبح به لك. نحن الآن
نمشي على منطقة صلبة في علاقتنا. على
صداقة حقيقية تسمح لي بأن أروي لك عذابي.
أسند محمّد رأسه عل كفه، بيده الأخرى
ضغط على يدي فقلت :
كان المساء يتسلّل بخطواته ليأخذ
الضوء ويمنح العتمة. في تلك المنطقة الرمادية التي أكرهها أرسلتني أمّي إلى بيت
الجيران كي أدعو الخالة فطيمة لزيارتها. كان ابن الجارة مراهقا في بداية الشباب.
أعتقد أنه كان في السابعة عشرة لمّا كنت في الخامسة. كان يلعب في حديقة منزلهم
ممسكا بكتاب عندما دخلت. سألته عن والدته فقال إنّها لم تعد بعد من الحمام التركي.
هممت بالانصراف لمّا دعاني إلى
الجلوس معه قليلا. أغرت الدعوة طفولتي. نسيت طلب أمّي وجلست إلى جانبه على كرسي
الحديقة الحديدي. سألني عن أحوال الدراسة ثمّ قرّب كرسيه منّي وراح يمسح شعري
بكفّه ثمّ قال:
- هل تريدين أن أروي لك القصة التي
أقرؤها في هذا الكتاب؟
هززت رأسي
موافقة.
بدأ يروي
حكاية لا أدري إن كانت حقّا في الكتاب أم من تأليفه. لكنّي أذكر جيّدا أنّي
ارتبكت، خاصة وان أصابعه تسللت من بين خصلات شعري إلى تفاصيل جسدي، إلى أن قفز
قائلا:
- تعالى أعطك قصّة للأطفال.
سحبني إلى الداخل. أغلق الباب. حاصرني وراءه جاثيا
على ركبتيه ومقبّلا شفتيّ. اشتبهت عليّ الأفعال و تداخلت حتّى بدا المشهد في غبش
الذاكرة الطفوليّة ضبابيّا. كأنه أخذني إلى السرير، كأنه رفع فستاني.
و"كيلوطي" ، كأنه حاول أن يولج بين فخذي شيئا سحبه من سرواله..
وتتضح
الرؤية من جديد تماما عندما تندلع الصرخة في الفضاء حريقا في المشاعر. هرعت هاربة
من بين يديه، وإذا به يلحق بي مهدّئا
ومهدّدا حتى لا أفشي سرّ ما حدث. داعيا إلى إسقاطه في حفرة السّكوت.
بعد ذلك لا أذكر بوضوح ما حدث، كأنّي كنت في
غيبوبة لمّا بلغني صوت أمّي تنادي غاضبة من تحت سور الحديقة الذي يفصل بين منزلنا
ومنزل جيراننا. هربت من بين يديه وجريت إلى أمّي التي صفعت وجهي بكفها، صارخة في
غضب:
- لماذا
تأخرت؟ ماذا كنت تفعلين؟
كانت تلك الصفعة الأولى و
الأخيرة التي تلقيتها من أمي رحمها الله .
من خلال بكائي ودموعي طلع صوتي
مهزوما مشروخا قائلا:
- لا شيء.. لا شيء.. كان فريد يقرا
لي قصّة.
اشتد غضب أمّي وصرخت في وجهي:
- ماذا؟ كنت مع فريد وما شأنك أنت به
؟ هو رجل، وأنت طفلة ونحن ليس لدينا بنات يلعبن مع الرجال.
فورا أدركت أن في ما حدث خطرا، وإلاّ
لما كانت أمّي تغضب لمجرّد اللعب مع ابن الجيران.
بعد العشاء، كنت أغيّر ملابسي كي
أرتدي بيجامتي فرأيت على "كيلوطي" الأبيض قطرات حمراء. انقبض إحساسي
لكني لم أدرك كنه الموضوع واعتقدت أن فريد خدشني بأظافره. وسقطت كل الحادثة في
هوّة النسيان والزمن لكني ظللت طوال عمري أكره الغروب.. وأكره النقاط الحمراء على
المساحات البيضاء.
أثناء فترة الدراسة الابتدائية
والثانوية كنت مشغولة تماما بالتَمَيُّز وتحقيق رغبة والدي في النجاح العلمي وبلوغ
أقصى ما يمكن بلوغه. بعد نجاحي في الباكالوريا والتحاقي بالجامعة تيقظ سؤال الوجع
في قلبي لما جاءني أوّل زميل يطلب وُدًّا. كان أوّل رجل يطرق باب قلبي ليستفيق
المارد الراقد في نفق الذات.
طار النوم من عيني. وظللت طوال أشهر
أسهر حتى الفجر ألهث وراء الجواب فلا أمسك بغير السراب. أضع الإصبع في النفق فلا
أعثر على بوابة الشرف. الشرف الذي تقام من أجله الحروب لا يعدو أن يكون مجرّد غشاء
يرقد بين الفخذين. أين شرفي؟ أين قطرات
دمي المسفوك على عتبات العبث الإنساني المدنّس؟ أين ؟ أين ؟
ويبرق الأمل كنجمة الصبح في عتمة
الشك: لعلّي عذراء! وما ذكرياتي الضبابية إلاّ أضغاث أوهام طفولية؟
بين شك وأمل قضيت ليالي وأشهرا من
العذاب. في تلك الفترة التي كنت فيها غرّة أركب صهوة الشباب والاندفاع وأجهل أسرار
الحياة، تشكّلت أمامي نهاية العالم ونهايتي. كيف أواجه أبي بلا شرف، كيف أواجه
المجتمع بلا شرف؟ كيف أواجه الدنيا بلا شرف؟ يا إلاهي إنّها الكارثة. كأنني أمشي
في الشارع عارية وأذهب إلى الكلية فيعلم كل الطلبة بمصيبتي. كأنّي أصبحت شفافة.
فيرى الجميع عيبي. أنا امرأة ناقصة. أنا أنثى بلا أنوثة.
تكمّشت روحي. وتكدّرت وبات الشك
مقصلتي التي أراها كل ليلة في كوابيس السهاد تستعد لقطف عمري. ولا أجرؤ على سؤال
أي كان! كيف أفضح نفسي؟! كيف أكشف سري؟
عشت في دوامة الوجع سنة. كنت خلالها
مثالا للطالبة المصابة بمرض العزلة والاكتئاب. كان شكلي يوحي بالانفتاح لكن طبعي كان
غير ذلك تماما. وكانت حدّة لساني تجرح كل من يقترب مني فأتوغل أكثر في شرنقة عزلتي وأبتعد أكثر وأكثر
في غابة عقدتي التي تتهيأ كي تفرّخ عقدا أخرى. إلى أن كانت ليلة اعتبرتها ليلة
الفرج وليلة توقف دوامة العذاب عن رحي أعصابي. في تلك الليلة لا أدري كيف طلعت في
رأسي فكرة حدثت بها نفسي : لنفرض أن كل
الدنيا علمت أني لست عذراء، فماذا سيحدث؟
هل ستتوقف الحياة؟ طبعا لا. هل سيتخلى
المجتمع عن وجودي؟ طبعا لا. هل سيأخذون إنسانيتي مني؟ طبعا لا. هل سيأخذون حياتي؟
طبعا لا
إذن ممّ أنا خائفة ؟ وممن أنا خائفة؟
من والدي؟ أنا لم أقترف ذنبا حتى أخاف كل هذا الخوف. ربما كنت أنا ضحية إهمال، أو لحظة عبث، فما ذنبنا جميعا ؟ وقبل كل ذلك
لماذا أتصرّف كمن هو متأكد من حقيقة ما ؟ أنا مازلت في مرحلة الشك التي يجب أن
أتجاوزها فورا كي أعرف كيف أتصرف بعد ذلك.
لم أشأ أبدا أن أتحدث إلى أمّي. مشهد
الطفولة رغم ضبابيته مازال يؤكد لي خطورة الأمر. لكني قرّرت أن أحلّ مشكلتي أو
عقدتي على طريقتي وأوقف النزيف.
لمّا وصلت إلى ذلك القرار ارتحت
وأحسست أن الدوامة خففت من سرعة دورانها، وأنّها ستتوقف بعد قليل. فكّرت طويلا كيف
أتأكّد من الحقيقة. لكنّي لم أقتنع إلاّ
بوسيلة واحدة وهي أن يتمّ ذلك عن طريق رجل. لكن من يكون هذا الرجل؟
الحبيب سيوهمني بأنه تفهّم الحكاية،
لكن في القلب سيظل هناك شك.
الزوج لن يتقبّل الرواية وسيطعن في
حقيقتها.. وإن بقي سيظل في القلب جرح.
إذن من يكون هذا الرجل الذي سيؤدي
مهمّة جسدية لا علاقة لها بالمشاعر ؟
أوّل صفة من صفات هذا الرجل هي أن
يكون غريبا. أن يكون هذا الرجل غريبا تماما. فذلك يعني أن الأمر معه لن يكون سرّا.
بل سيكون مجرّد حادث طريق. وسيتوفر هامش
من الحرية، مع الغريب تنقص الحواجز
والعراقيل فكأنّما سأتعامل مع البحر يسمع
الحكاية، يلقي بها في أعماقه ويصمت.
هدأت العاصفة في أعماقي لمّا بلغت
هذه المرحلة من التفكير الذي أنتج قرارات بدت لي في تلك المرحلة من العمر حكيمة.
بقي التنفيذ.
انتهت السنة الدراسية. ومرّت العطلة
الصيفية وعدت الى الجامعة في سنتي الثانية.
كان الخريف، وكنا في أواخر السنة. في
شهر نوفمبر. في ذلك اليوم أعلمت أمي أنني سأتغدى في مطعم الجامعة وأنني لن أعود
إلاّ مساء.
في ذلك اليوم جلست كعادتي دائما،
وحيدة بلا رفيق و لا زميل. آكل بلا شهية لمّا رفعت عيني فجأة لتصطدم بأجمل عينين
رأيتهما في حياتي. عينين واسعتين برموش طويلة سوداء كأنها الليل. وبنظرة رقيقة
حنون كأنّها الأم. تباطأت في الأكل لأستمتع أكثر بالنظر إلى هاتين العينين اللتين
أمسكتا بتلابيب روحي كأنّهما السحر. في آخر الغداء سحبت طبقي لأعيده إلى الكوّة
التي أخذته منها، على غير عادتي. قبل أن أغادر الطاولة لا أدري كيف قلت له:
-
صحّة.
فجاءني الردّ:
- صحّتين وعافية.
أخذت
الطبق وهرولت أتعثر في خجلي الذي يسكن أعماقي ويتخفى وراء قناع الصلابة. ليلتها لم
أنم. لهجته ليست تونسية، شكله ليس تونسيا، يتكلم العربية. أعتقد أنه شرقي..
من الغد
لم يكن في برنامجي أن أتغدى في الكلية، لكنني ذهبت إلى المطعم وأخذت طبق الأكل
وجلست في نفس المكان. ويالدهشتي لما وجدته يجلس في نفس كرسيّ الأمس. جلست. لذت
بالصمت. انكشف تواطؤنا في العودة إلى نفس الطاولة. لم آكل يومها بل تظاهرت بذلك.
فجأة استجمعت كل قواي وقلت له:
- هل
أدعوك إلى شاي في المشرب؟
- كنت
سأنطق بذلك الآن.
ذهبنا في
صمت. شربنا الشاي في صمت. بعدها قلت:
- تبدو
غير تونسي.
- أنا
سوري. جئت أدرس مرحلة ثالثة هنا في تونس.
- تعرف
تونس جيدا؟
- نعم
أعيش هنا منذ سنتين.
- هل لديك
ساعات درس هذا المساء؟
- لا.
- هل تذهب
إلى السينما ؟.
- فيلم
عربي على شرط.
- لا
يهمّ.
في قاعة
السينما تسلّلت يده لتمسك بيدي. نفضت يدي بغضب. وهمست في أذنه:"نحن هنا
لمشاهدة الشريط!
". تكوّر في مقعده وابتعد إلى الزاوية غارقا في حيرته.
قبل نهاية
الشريط همست مرة أخرى:" هل ننصرف؟ ".قام دون أن يجيب. وخرجنا. أمام فندق
الأفريكا وقفنا قال: " نشرب قهوة ".
- لا.
شكرا.. بل أدعوك غدا للغداء.
لم يتردد
لكن في شبه برود. وافق.
حسب
الموعد المحدّد وجدته واقفا أمام مطعم الكابتول. تسلقنا مدرج السلم الضيق. ودخلنا
قاعة المطعم الفسيحة. جلسنا. طلبنا الأكل. أكلنا. تم كل شيء في صمت ثقيل. غريب.
جاء النادل بطبق صغير عليه ورقة الحساب. أخذتها. دفعت ثم قلت:
- أين
تسكن؟ في المبيت الجامعي؟
- لا بل
في شقة مستأجرة.
- وحدك ؟
- لا. معي
صديق سوري يشتغل.
- لن يكون بالمنزل الآن.
-
بالتأكيد.
- هل
تدعوني إلى قهوة أو شاي ببيتك؟
هللت
أساريره. لكنه عاد سريعا إلى دهشته وقال:
- كما
تشائين.
بعد حوالي
نصف ساعة وجدت نفسي في منزل رجل غريب . لم يكن المنزل قذرا، ولا
فوضويا، ولا نظيفا، ولا مرتبا، لكنه لا يخلو من بعض اللمسات الجميلة، ومن بعض الروح الشرقية الرقيقة. كان المنزل على صغره
يتكون من طابقين.
قال:
- نجلس في
الصالون أم في غرفتي فوق ؟
- في
غرفتك!
طلع صوتي
جافا بلا روح، كأنّه صوت جثة ميّتة. مشيت وراءه على الدرجات كمن يمشي إلى إعدامه،
لكن بثقة ورأس مرفوع.
وحدثت
نفسي: "أنا هنا في مهمّة رسمية ومستعجلة، مهمة لا علاقة لها بالأخلاق ومسائل
الشرف ولا بالمشاعر".
كانت
الغرفة جميلة، مفروشة بالزرابي فوقها حشية
كبيرة. على النافذة ستارة بيضاء بخيوط مذهبة.
جلست .
قال:
-أعدّ
شايا أم قهوة؟
قلت:
- لا
هذا ولا ذاك.
فتح خزانة
حائطية. أخذ دفترا. جلس قربي. مبتسما مداريا دهشته التي تكبر وتكبر. فتح الدفتر
وإذا به ألبوم صور. راح يفرّجني على صور عائلته في سوريا. أغلقت الألبوم. وضعت
أصابعي على فمه. وهمست:
-أرجوك لا
أريد أن أعرفك. لا أريد تفاصيل.
أبكمته
الدهشة.
بعد قليل
أضفت في ارتباك بان في ارتعاشة صوتي:
- هل تنام
معي ؟
لا أدري
ولا أذكر كيف كان ردّه. لكني احتفظت في الذاكرة بلون تنورتي ذات المربعات النبيذية
على أرضية عسلية. رفعتها إلى فوق دون أن أنزعها. أنزلت جواربي الرقيقة حتى قدمي
وتركتها كالسلسلة تقيّد ساقيَّ. جلست على الفراش.. اتكأت على المخدة على الحائط.
أغمضت عينيّ .
لا أذكر
تفاصيل ما حدث، فقط ظلّت مساحة مريوله الصوفي الرمادية برقبة لوزية الشكل وحافتها
سوداء مطبوعة في ذاكرتي.
لما انزاح
من فوقي قفزت. لبست "كيلوطي" وجواربي أصلحت من شأن تنورتي. فجأة
صرخت بفرح:
- أنا
عذراء. أنا عذراء. ها هو الدم يسيل دافئا بين فخذي!!
قهقه
الرجل الغريب. قهقه.. ثم من فورة ضحكه..
جاءني صوته حانيا منغّما بلهجته الشرقية: "مش معقول. مش معقول.. وحياة الله
أنت عذراء عن جدّ".
هرولت
أبحث عن غرفة الحمام. أنزلت "كيلوطي" وجواربي وتحسست السائل اللزج في
الفتحة. وعبقت رائحة الثوم تملأ أنفي وروحي حتى تقيأت كبدي.
لبست
بسرعة. غسلت يدي. ووجهي. بحثت عن منشفة فلم يكن على المشجب في باب الحمام سوى
الجاكيت الجلدي الأسود الذي ظلّ دوما معلقا في الذاكرة يؤكد لي أنني لم أكن قطّ
عذراء.
عدت إلى
الغرفة. أخذت حقيبة يدي. قال:
- أراك
غدا في الكلّية؟
- من
فضلك، أنا لا أعرفك. ولا أرغب في معرفتك. لا داعي للمقابلات.
هرولت
أنزل الدرجات. بينما بقيت قهقهته ترن ورائي وصوته يردّد: "مش معقول، مش
معقول".
الفصل
( 16 )
كانت
الواحدة بعد منتصف الليل لمّا اقتربنا من العاصمة عائدين من الحمامات.
كان
محمّدا ملقيا برأسه على مسند الكرسي بالسيارة، صامتا. وكنت طوال الطريق أتساءل :
"ما الذي دفعني مرّة رابعة كي أغيّر في سيناريو الحادثة ؟ . هل هي ضبابية
الذاكرة و نشاط الخيال ؟ هل حدثت الحكاية
فعلا أم أنّها أضغاث يقظة . أم ماذا ؟ "
قطع محمّد
عليّ أسئلتي قائلا :
- فيم
تفكرين ؟
قلت:
- أتشاءم
من هذه الذكرى التي دفنتها منذ ذلك اليوم في قبر النسيان. فلم أحاول حتى أن أذكرها
لنفسي. ليس لأني تأكدت من شيء كنت شبه متيقنة من عدم وجوده، ولكن لأن ذلك اليوم
اقترن بذكرى أخرى سيئة. اقترن برحيل أمي.
وقفت سيارة الأجرة أمام منزلنا. وإذا بحشد من الناس أمام باب الحديد وفي الحديقة. ركضت، أدفع الناس
وأصرخ:
- ماذا
حدث لوالدي ؟ ماذا حدث ؟
تناهت
إليّ الهمهمات تكبّر وتستغفر. عند درجات الفرندا اعترضتني أحضان والدي. ضمّني إليه
وهمس بصوت مشروخ:
- لقد
رحلت وتركتنا.
لم أفق من
غيبوبتي إلاّ بعد يومين ، لأرى وجوه الأهل والأقارب كأنها الأشباح.
رحلت
حبيبة الدشراوي عبد السلام لتترك في قلبي
لوعة لم يقو الزمن ولا النسيان على مسحها .
ضغطت على
فرامل السيارة أمام العمارة التي يسكن بها محمّد . أمسك يدي، ضغط عليها:
- أعتقد
الآن جازما أنك تخلصت تماما من كل ما يثقل روحك. عودي إليّ، إلينا كما عرفناك عاشقة للحياة، منطلقة نحو متعها.
حاولت
الابتسام وقلت:
- أحسّ
بانقباض. أكره هذه الذكرى. أكرهها. يا
الله، تصبح على خير.
- سأهتف
لك غدا صباحا.
قبّل خدي
ونزل. وانطلقت نحو نهج المعزّ. لما اقتربت رأيت حديقة منزلنا مضاءة. ورأيت سيارات
تقف أمام الباب فحدست ما حدث. لم أركض كما قررت في أعماقي، بل مشيت واثقة . لم
تنزل دموعي كما نزلت دموع الدم في قلبي. لم ألطم وجهي ولم أولول كما كان يحدث في
أعماقي. كنت أنتحب من الداخل. أصرخ. أضرب. أشتم القدر. أشتم الموت. لكنني في
الخارج أبدو كالمسحورة، كالنائمة التي تمشي بلا وعي.
بلغت
غرفته. ارتمت عليّ هدى ابنة عمّي تبكي وتشهق
ثم قالت:
- جئته
بفطور الصباح كالعادة فلم يتحرّك. اعتقدت أنه نائم. حاولت إيقاظه فلم أفلح. صرخت
فجاء الجيران. استدعوا الطبيب فقال إنه توفي منذ ساعات.
وقفت أنظر
إلى السرير الفارغ المبعثر. جلست على
الكرسي الهزاز. تراءى لي وجه مراد . كنت
متجمدة كتمثال بينما راح الكرسيّ يذهب ويجيء إلى أن هدأ.
عادت إليّ
هدى. حاولت إقناعي بشرب كأس ماء. لم أرفض، ولم آخذ الكاس. وظلت تحدثني وتذكر من
جاء ومن سيجيء.
وسألت:
- أين هو؟
- مدّدوه
على الزربية في الصالون.
ذهبت
إليه.
وجوه نساء
متسفسرات. رجال. وجوه كالحة. وجوه رمادية. وجوه شامتة. لا أرى الملامح. لا أحدّق.
فقط كنت في الداخل أصارع الموت، أضربه، أركله، أطرحه أرضا، أدوس عليه بحذائي.
جثوت على
ركبتيّ إلى جانب الجسد الممدّد. المغطى بلحاف أخضر كتبت عليه آيات قرآنية. رفعت
اللحاف عن وجهه. مايزال أنفه واقفا كالنسر، حادّا في شموخ. لم تنكسر ملامح حامد
عبد السلام. لم يتهدّل خدّاه. ولم تتدلّ شفتاه. بدا لي كأنه نائم. قبّلت جبينه
وهمست:
-ألم تسمع ما حدثتك به البارحة؟ أجبني. أرح قلبي قبل أن ترحل!
تركت رأسي تركن على صدره.
استنشقت رائحته. رائحته التي أحبّها ولا أدركها. رائحته التي أتشممها في ثيابه
فحسب. رائحته التي تملأ أنفي فأذكر الموت. موت أمي. يوم احتضنني في عناق يتيم. جاء
أحدهم يرفعني عنه. فقال صوت آخر:
- اتركوها تودّع والدها.
لم أكن أودعه، كنت أستنشق
رائحته التي حرمني منها. كنت أخبئها في أعماقي كي أشمّها متى أردت. كنت تائهة في
مشاعري. أكره الموت وأمقته. وأكره أن يرحل والدي. لكن في نهاية نفق روحي هناك شبه
راحة، بل راحة لا أدرك سببها. هل سمعني البارحة؟ هل سمع بوحي؟ هل سمع نشيج جرحي؟..
ظلّ أقوى مني حتى آخر لحظات
عمره. رغم انكساره لم يخضع، لم يستسلم. فضّل الموت على أن يسمعني. ربّما سمعني! متى
توفي بالضبط؟ لما بدأت أروي له كان حيا. سحب يده من يدي لمّا مسكتها. إذن متى
انقطع عن سماعي؟ في بداية الرواية ؟ في منتصفها ؟
في آخرها؟ لعله مات بسبب ما سمع.
لم تنزل دمعة واحدة من عيني
لتبكي الرجل الذي سكن مشاعري حتى بعثرها فأصبحتْ بلا هوية.
لم تنزل دمعة واحدة لتبكي
الرجل الذي أحبني حتى الموت وكره أنوثتي حتى الموت.
أعماقي كانت تبكي وتندب حامد
عبد السلام.. لكن لا شيء من ذلك طفا على سطح روحي، على وجهي الذي كان جامدا
ومتكلّسا.
عدت أزيح اللحاف عن وجهه.
أنفه شامخ. أقوى مني حتى وهو جثة بلا روح. قبلته على جبينه. وعدت إلى غرفته بقبلة
باردة كالصقيع. ارتميت على الكرسيّ الهزاز جثة خربتها الأوجاع.
الفصل
( 17 )
اشتد الصهيل واشتد حتى صار سنفونية في أعنف
مقاطعها رقص لها الغبار في الفضاء.
الغبار متصاعد من تراب الحديقة الذي أثاره وقع حوافر لم تنقطع عن الركض.
اشتد الركض والضجة تحت
النافذة، فزعت من نوم متوتر، فتحت النافذة:
كان هناك قطيع من الجياد
السوداء الداكنة ترتع في الحديقة. أكلت الورود، وبعثرت ورفست كل النباتات
والأزهار. حتى الياسمينة التي تظلّل المنزل وتحميه أكلتها.
أصابني الفزع.. بدا المشهد
وكأنه لقطة من شريط حربي، بينما كانت الضحايا الورود والياسمين. الصهيل يطوّقني،
يخنقني. قطيع الجياد السوداء مازال يرفس التراب والقلب.
وأنا أرجف، يطلّ رأسي الأشعث
من النافذة. فأرى الجياد وقد تحولت وجوهها إلى وجوه أعرفها : أمي، مجدي، جدي، مراد، منصف، لطفي….
فجأة برز وسط القطيع جواد
أبيض، اقترب مني.. مدّ لي ساقه الرشيقة. قفزت من النافذة مشيت إلى جانبه في ممرّ
نظيف مزهر في الحديقة المبعثرة.
انتهى الممرّ إلى شجرة عظيمة،
جذعها ضخم وفروعها كبيرة تكاد تغطي كل الحديقة المرفوسة. تحت الشجرة، مقعدان
وطاولة عليها كتاب ضخم . اكتشفت أني أركب الحصان الأبيض الذي توقف بي عند الكرسي
الهزاز تحت الشجرة الضخمة. نزلت. جلست على الكرسيّ وجلس الحصان الأبيض على الكرسيّ المقابل. نظرت
الى الحصان فإذا به قد تحوّل إلى شيخ طاعن في السن يشبه حامد عبد السلام .
مددت يدي أتلمّس الشيخ
فرأيتها مجعدة. أصابني الفزع. نظرت إليّ وإذا بي عجوز أوْغل بي العمر طويلا في
الزمن.
تنحنح الشيخ وهمس بصوت كأنه
صوت الرضيع:
- هذا المكان لنا. أنا وأنت.
سيكون موعدنا فيه سنويا.. فجر اليوم الأول من كل سنة. من يصل قبل الآخر ينتظر حتى
بزوغ الشمس. وإذا ما أخلف الآخر الوعد يرسم له وردة على جذع الشجرة ويذهب.
تمّت. تونس 99.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق