عبد الفتاح بن حمودة
إيكاروس
حركات الوردة
الطريق مليء بالورود
ولا تدوس إلاّ العتمة العارية.
تدخل البيت، تقفل الباب :
لا أحد ينتظرك ولا تنتظر أحدا!
الشاعر الإسباني «فرانسسكو بيرنس»
تحويل عيسى مخلوف.
.... هكذا «كلّمت» نفسي:
الشاعر الوحيد الذي أصغي إليه.
هو من يحمل بحذر،
وبيدين متوترتين،
ـ إناء مليئا بالدّم ـ
سقطت فيه قطرة من الدّم.
...................................
الآن رأيت،
الآن أردت أن أرى القبضة المحكمة
حول إناء مترع بالينابيع!
نصّ «اختبار مائيّ»
الشاعر السويدي غونار
إيكلوف.
تحويل سعدي يوسف.
(الإهداءات تُقرأ داخل مثلّثات
الحبّ، وخارج محدّبات الكراهية)
إلى من علّمني فكّ الرّموز والإشارات والحروف.
إلى الشّعراء.
إلى الذين يحبّون الشّعراء.
إلى مدن الشّمس والبحر
إلى الأصدقاء الذين قرؤوا « حركات
الوردة » مخطوطا وأضاؤوا لي الطريق.
الـوردة المجـروحة بـالإثم
مدخل إلى «حركات الوردة »
كلّ ما أذكره هو أنّني كنت مأخوذا
بالبرق وخائفا. لم تكن الكتابة سهلة مطلقا لأنّها ببساطة، مليئة بالإثم، بالألم واللّذّة
والضّجّة الخالقة للضوء أيضا.
لم أكن «نبيّا» بل كنت غصنا بلا
ذاكرة أو سماء مشروخة بالعصافير. سنوات مختلفة
مرت وأنا أجمع أثمار هذه «الوردة» بعناء بهيج، في هذه الأرض الشيقة بهشاشتها وهذه السّماء
المدلهمّة بالرّيش والسّيقان الصّغيرة. حيث كل حرف آهة، حيث آلاف الكلمات التي تُكتب
ولا يبقى منها إلاّ القليل : برقيات مثلا أو رسائل مقتضبة أو صلوات صغيرة محروسة بعظام
الموتى.
كذا كنت أكتب وأمحو، حتى أن الكتابة
صارت محوا، انتزاعا لذاكرة خاصّة يدور زمنها فوضويّا دون كَلَل. أمّا ما يجري حول
«إشكاليات النصّ الشعري العربيّ والتونسيّ المعاصر» فكان خطيرا وملائما لطبيعة هذا
النّصّ الجنونيّ مثل مسألة الجنوح إلى الغموض والعلاقة الشائكة المترتّبة عن ذلك بالقارئ
والعالم واللّغة. وأدركت في كلّ «نصّ» أو «كتابة» أنّ من اعتقد أنّ «النّثر يجرّدنا
من الإحساس بالعلوّ» واهم في أكثر من موضع. ففي النّثر ننفتح على أكثر من جهة وعلى
أكثر من ريح مخصبة. وسمّيت النّصوص والكتابات النثريّة «الشّعريّات المفتوحة» الحاملة
لشعريّتها المخصوصة في ذاتها، كما هي، غنيّة بالضرورة بسياقات لغويّة جديدة وبعلاقات
نحويّة تجدها في جنوح إلى الصّورة البكر. مأخوذة بدلالات خارجة عن لغة القواميس الجافّة
في مجملها. وأعدت كلّ شيء إلى عمق الاهتمام بالذّات في علاقتها المتينة بالأسماء والأشياء،
بالثقافة والطّبيعة، مع إضافة عنصر أصيل في كلّ عمليّة إبداعيّة وهو«الطّيران أو الجنون»
وبناء على ذلك وصلت إلى « وردة » مجروحة دائما : «اللّغة» و«الوجود» وهشاشة الكائن
والذات كاتبة أوقارئة.
الاهتمام بالبحر دون معرفة قصوى بالزبد والرّمل والأصداف
المشعلة بالشوق الإنسانيّ العارم، اهتمام ساذج.
الاهتمام « بالوردة » دون النّفاذ إلى عمقها قصور
وعماء فاسد.
عواءُ الوردة امتيازُها الوحيد.
الاهتمام بالجبال دون معرفة منطق الزواحف أو معرفة
العلاقة الأصلية بين المغاور والنمل والعناكب، أو دون فهم واستقصاء إشارات الماء على
الأحجار ، هو اهتمام بائس لا جروح فيه. اهتمامنا الوحيد نحن شعراء الحركة التونسية
الجديدة هو الضحك بلا هوادة ومعرفة ما إذا كانت أفواهنا مليئة حقا بالدماء والقشّ والتراب
والمياه. همّنا الوحيد تلك «الوردة» القميئة ذات الضّجيج العالي في الأسافل، للاستفادة
من لعنتها وقداستها.
نضع سيقاننا المتورّمة في وحلها
لنطير دائما إلى أرض ليست محروقة. تلك اللّعنة التي نعتبرها معينا لاغتراف المزيد من
الحرقة والنزق والشيطانيّة. ثمّ تحويل تلك الجحيميّة الرائعة إلى شجر التأليف والنسج
والحبكة والتّخييل وغيرها من ضروب أدوات تكاتف النصّ، ثمّ تحويل ضحكاتها إلى مياه وتحويل
ندفات الثلج المتطايرة من رؤوسنا إلى مرايا مدهشة.
وفي هذه «الوردة» أو هذه الحياة
المجنونة، أفكّ الرموز والإشارات النائمة بين الأعشاب. أفكّ أزرار«الكائن» لأجعل لهذا
النّهر القريب منّي أو السّاكن فيّ أسماءً وحرائقَ. لا يهمّ إذا كان النّهر لايعرف
مداه فهو جسدي هذا. آلتي هذه. أخطائي وخطاياي هذه !
في هذه « الوردة » الرائعة تتجمد المياه لقدوم عشاق
كثيرين : قارىء أفعل معه فعل تَفاتح مجيد. وقارىء يفعل بي ما فعلَتْه أمطار غير عادية
هذه الأعوام. وقارىء يفعل ما لا يريد. أحصر اهتمامي بتلك«الوردة» التي تسخر من كثرة
المحبّين والنّدمان. تنام باكرا ولكنها تظلّ في حركة دائمة. حقّا لا شيء ينام في الدّاخل
فالمدن تتحرّك فيما أخذته من حياة الشاعر وفيما لم تأخذه من حياته أيضا.
اللّعنة ثم اللّعنة على الشعراء
والكتّاب والنّقّاد والرّسّامين والفنّانين جميعا – المتاجرين بأحزان القدامى- الغارقين في الشوارع بلا عصافير أو مياه
أو أرض أو سماء أو وردة أو بحر، الغارقين بلا أمطار. لهم رماد ووحْل لا يضيء. ولنا
أرض وسماء وأغصان. موتوا أيّها الأشباه لأنّكم لم تهتمّوا بالنّسيان. موتوا لأنّكم
بلا ذاكرة وأقدامكم ليس لها أبّهة. وتمجّدي أيّتها الكتابة بذاكرة العصافير. تمجّدي
يا ذاكرة المياه. تمجّدي لأنّ خصرك مجروح بالإثم. تمجّدي أيّتها «الوردة» بآنيتك المترعة
بالدم بمياه الينابيع .
الـكـتـابـة بـالأمـتـعـة(1)
( الـجـبـالُ حـدثًا شـعـريًّـا
يُـعـاش )
كنت شاعرا بسيطا أسقط في حفر الضّوء
الصّغيرة حَالَما أراها. مرّت جبال لم أكن أعلم هل أجرت دمي أم دماء السّفن، ثمّ عاد الحطام الأخير
إلى ساحلي. كان الشاعر بين جبلين : جبل كتابة النّصّ وجبل كتابة الحياة. كان بين نصّين
مفتوحين، فامتلئي بعيدا بالشمس يا صور البحر وياذكرياتِهِ الخلفيّةَِ. وجدت جبلا لحياتي
وآخر لصراخ الأعشاب. الألفاظ كانت ميّتة في الأصل أما الشّمس فقد ضاعت في قِيعان البَحر.
هناك تحديدا انكسر كل شيء .. تمشي الأرض إلى الألفاظ : الألفاظ تعوي أظفارها.
الشّمس كانت قادرة على إشعال ألف
شاعر بشفاه مالحة، بنهديْن من عاصفة وأعشاش تُرى في الظلام. الشمس الظامئة لها عينان
ترى بهما الصباحات والندى. أهدتني الفصول الخضراء وأشاعت الرخام في الأصقاع. الشمس
تحتاج إلى أصواتها القديمة وإلى رغبتها في القبض على الأبديّ : النص الشعريّ حدثا كونيا
معاصرا وجبلا مُميّزًا يعاش هناك في التخوم.
روحها – هي الأخرى – تساقطت في
الإمكانات البعيدة للّغة. تساقطت الشمس قطعة قطعة في مهمّة كتابة النص الشعري وفق أنساق
أخرى. سقطت في المتعة، في المتاهة الجميلة : متعة النص الشعريّ الذي يصعد إلى خجلها،
مترفّقا بالأرض متدفّقا منها مسكونا بحنين أزلي : أزل إلى التكوين وأزل إلى الماء
.. كذا كلّمت أمتعتي. الشمس لها عينان من عسل وموت. تقول حرقة الوردة بيديها الصّغيرتين.
كنت أردّد سرّا : الموت لا يستحق
يديها، فأمكن لها أن تكون حبيبة ووردة صديقة .. كان الشاعر يحفظ كلّ صباحات النّصّ
التي توفّرها دقّات كَعْبَيْ حذائها الصّغير. وفيما بعد أمكنني أن أكون يديها، ماء
يديها وعسل عينيها الحارق .. شعريّا أمكنني ذلك. الشمس تتحوّل كلّ يوم .. لذلك هي
«وقحة» دوما.
(...) ثمّ كان حليب الأرض وردة
طائرة في جوف الشاعر. ومع كلّ دقّة لكَعْبَيْ حذائها كانت الشمس تلمس روح الشاعر وتعاقب
يديه البيضاوين.
[هو] لم يكن شاعرا قبل هذه الساعات.
كان شاعرا في القراءات التي أطلقتها الوردة، فأمكنَ أن يكون له مجدٌ. ممتلئا بما يسمّى
ولا يسمّى، «بالشجر الحنون ينتظر شبيهه أسفل البحر»(2)، بالقراءات تكسرخطّيتها لتعود
إلى أصلها : المتاهة والسّديم حيث ليس ثمّة أصل لشيء .. القراءات تظمأ إلى ذاتها أيضا
كي تشعلها ( أو تَشْغلها ) في الصّباح بلا أيد، أفجارا تحوّلُها الشمس في الكلمات والأشياء،
أبعادا غير محدّدة تتجمّع في الحلم واقعا آخر أكثر كثافة من النّدى.
إجمالا، هذا ما وضعته الوردة في
السّاعات الأولى من الفجر :
النّور ( نور النّصّ ) العائم الذي يتردّد في الشّمس،
مأتاه تحرّك الجبال في البحر.
البحر، جمرة القرون التي تحرق كلّ الغابات. تقيم
الرّؤى أعلى فأعلى لأنّها العراء الوحيد الذي علينا إعادته. البحر عراء الكلمات الوحيدُ،
عراء الكلمات التي لا تموت من كثرة الأحزان بل من كثرة الحياة.
الإيقاع المقيم في دمه صاعدا سلالم الرّوح ومتسلّقا
أشجار الجسد الداّفئة، يتنفّس وقْع الظّلّ ويحاول فكّ الصّحاري القديمة لزرع النصّ
العائم في النّور.
النصّ العائم ما تُسُمِّيَ وردة، والإيقاع أوالوقوع
ما تُسُمِّيَ بحرا. البحر الوحيد في رياحه والشاعر الحالم مرميّان بقسوة في هذا العالم
يتسلّيان بالأشجار التي كانت هنا وفرّت من متَاهٍ إلى آخر.
كانت الوردة طريقا إلى الفجر أجمع
أوراقه بيديّ، كانت مهبًّا في حمّى بدايته. كانت خفاء تلزمه أنهار الرّؤى وقطّة مقرورة
في ليل أبديّ. كذا كلّمت أمتعتي.
* *
لم تكن حروفا أو كلمات أو سماء
تلك الجبالُ التي حُمِّلَها البحرُ. كانت حدثا «جَلَلاً» يُدوّي في المياه ويمنح الوردة
شعريّتها. لم يأكل البحر أحزانه فقط، بل أحزان الوردة والقمر وأشجار الصّنوبر، ليكون
نصّا مفتوحا وإرهابا في البحر. لم تكن الوردة اسمًا فقط. كانت أمتعة مشعلة في عينين
مورقتين. عَلّمتِ الشاعر البرقَ وإلهابَ اللّيل بروحه وجسده المشروخين بالآثام والنّزق
والكثافة الجميلة لأحجار « الواقع »!
الوردة هي الوحيدة التي عَلّمتِ
الشاعر أن يحلم باللّوز مشتعلا في الساعات الأولى من الفجر، وبملوحة البحر ترقص أعلى
السفن. وكان عليها أن تحدس صباحاتها في الطفولة المشعلة على الصّخور، الطفولة التي
لا تُنسى مثل مُجامعة الألفاظ والكلمات أوّل مرة ...
(هي) الرّياح الألف التي علّمته الوقوف على أصابعه
الصّغيرة وسكنت شعريّة الرّمال والأصداف والماء ...
ذهبُ دمعاتها كان معي. لَيْلَكُ
نجاحها كان معي. روحها التي تسيل على الأسافل وصباحها الطّويل على الأعشاب. كلماتها
كانت معي . كانت – حقا – فصولا غاضبة وجحيما أخضر كلّ عام. كذا كلّمت أمتعتي.
* *
( Il est
temps que
l’âme
se reveille) (3)
هي اللغة الوحيدة التي نثرتُ عليها
أملاح التحويل. حوّلها الآخرون تحويلا واهنا. أحيانا لا تكون التّحويلات خاطئة إذا
عاشت جبَلها «داخل نصّها الآخر» أو جمعت الجبال والبحر والرّياح والسّماء بامتلاء كبير،
قبل أن تُقال أو تُحوّل.حوّلها الآخرون إلى «إنّه زمن استفاقة الرّوح».
قلت صباحا : ألا يمكن للروح أن
تُمْسَكَ، ها هي تحفظ أبدها الخاصّ وديمومتها، هناك حيث الممكن المشغول. تُعاش قبل
أن تُقال مثل الجبال أو البحر. قالت صباحاتي المليئة بالرّؤى والشجر والانكسارات لن
أخون الوردة في «آن للرّوح أن تُفِيقَ». ليس قصد التحّويل السقوط مباشرة في همِّ التبليغ
والإفهام.
لم يكن تحويل الرّوح خيانة مطلقة،
إنّه إطعام أرواحنا بآثام أخرى. إمكان أن تكون آثامُ الآخرين وآلامُهم آثامَنا وآلامَنا.
إمكان الإثم فعل حضاريّ جارح ومجروح، آكل ومأكول،بل فعل شعريّ بالأساس. الضّياع في
القراءة والتّحويل أن تذهبوا إلى قاع الوردة فهي أصفى، أن تطلقوا الأجنحة، أن تروا
طفل الوردة في النصوص.
ــــــــــــــــــــــ
(1) الأمتعة : الحواسّ التي كان
يحملها معه الكاتب اليوناني «نيكوس كازانتزاكيس»
(2) الشاعر المجريّ «يوجيف ايتيلا».
(3)جان بول سارتر.
الـكـتـابـة بـالأمـتـعـة..(2)
( مـا انتـهـت إلـيـه الـحداثـة
)
لم أنخدع بالنور ولست ظلَّ الأشجار في الغابة. لست ظلَّ السماء.
أنا الأرض النّزقة، لم تحرمني غريزتي من التحديق في السماء كما ينبغي لشاعر .. أو هكذا،
أنا الأرض ونثرها الوردة.
لم أحلم باسمها فقط وها أنا أرفع
أصابعي إلى قلبي الذي بدأ يأكل الغابة، بينما يده الأخرى تمسك السماء جيدا كي لا تسقط.
تمسكها كي يمرّ الآخرون.
لا أكتب من وراء الزجاج مثل النساء
والأشباه. لقد كسرت الزجاج وثمة يد بيضاء أو سمراء (لا فرق) أكلته بنهم كبير! هكذا
كان الفم أو الجرح مفتوحا وجائعا باستمرار. كان على شمس البحر- وردتي الأولى – ألاّ
تموت في الصمت والكآبة وافتعال الموت والحياة. احترقت الشمس بالكآبة واحترقت أصابعي
بالكتابة وبشمس أخرى، ثم لا شيء آخر «قَبْلُ» أو «بَعْدُ».
أيتها الشمس، يا شمس الصباحات
البعيدة فوق الضباب، كوني بسيطة جدا ولا تقتلي أطفالي.
توحّشي في الكلمات إذًا واجعلي
الألفاظ تئنّ أسفل أو أعلى.
الكتابة «هنا» مثل – الكتابة
«هناك». الكتابة بالظلام هي الوجه الغريزيّ للكتابة بالضّوء. الكتابة عدم انتهاء الليل
وعدم انتهاء النهار. لديها ألف وجه فتمام الأشواق ما لا يَنْقال. هذه خلاصة كتاب قرأته
في الليل السري ... ببساطة شديدة هو استعادة فجّة للقديم.
كلّمتُه طائرا في الصباح فكلّمني
بلا أيد أو حواس. هذا الكتاب مثل جوارب جنديّ في ليلة أمطار حارقة، أو مثل عاشقة صغيرة
تستبدل عشّاقَها مثلما تستبدل جواربها الكثيرة.. هه..هه .. هاه ! ما أفعله – الآن – هو الوردة وحرقتها معا، وليذهب
البحر إلى الجحيم.
يا شمسي، يا وردة اللغة والظلال
والأمطار، يا من رفضت ادّعاء الأشجار أنها تثمر في الليل .. يا من أقبلت على حطام الآخرين تأكلينه،
يا من خرجت من قاع الأرض.
لا تفكّري بالموت فهو ليس في انتظار
أحد. ازدادي ولعًا بالنور. ليس ثمة نور خارج ذواتنا الحاملة لكل شيء، القش والحصى والرمال
والمياه. ألف ولام التعريف في «الوردة» لا تُعَرِّفان فقط بل تمعنان في التغريب، إنها
الكائن الوحيد الذي يشعرني بغربتي ثم يجعل لها بناية ما، يجعلني في هذه الغرابة تحديدا.
لا أكاد أفرّق هنا بين الجوهر
والمادة. لا أكاد أفرق بين غربة وغرابة. بين الوردة وعطرها (حرقتها) لا أُفَرِّقُ بين
الحروف أدواتٍ وبين الحروف انتفاءً وعَدَمًا ... فلتتحرك الجبال أيتها الشمس، ما أروع الجبال الكثيرة وهي تتساقط
أو تتجادل أو تتصارع. شربت مياه البحر كلّها ولم أنتظر أحدا، فامنحي أعماقك الليلية
للنهار، اتركيها تسبح عارية قليلا. لقد منحتك قامةَ البحر وميتة الأشجار، منحتك أسماء
البحر المختلفةَ. حتى المياه التي لم تكن مالحة وهبتها لقامتك، فاصعدي أريج البحر الذي
تدفّقت منه أيّتها الوردة. طفل البحر الذي هو في انتظارنا ليس طفلنا. هوطفل البحر والشمس.
هو طفل صغير بشعره الذهبي وعينيه الكستنائيتين. أنا وأنت، أيتها الشمس، يا صديقة المياه
والأجراس، تعوّدنا على حمل الوردة مثل رضيع
رائع أوتابوت. تلك الوردة ليس لها أن تتفتّح إلاّ في غبار قديم.(1)
نحن ـ «أنا» و«أنت» – و«هم» أيضا
– لا ننتظر الفجر، نحن الفجر وعليه أن ينتظرنا، ها هو يسرع إلينا مُعَمَّدًا بالمياه
والنيران. غدا نراه في الضجيج الصباحي. في الوردة نراه وساعاته من مرجان.
يا شمس اخرجي خلف صوتي طفلا يشبه
العالم، فالأبواب مُغَلَّقَةٌ والنوافذ مفتوحة من أجل النيران التي لم يشعلها أحد من
قبل. يا شمس اخرجي خلف صوتي طفلا يشبه العالم .. يا شمس لولا كلماتي ما كُنْتِ أرسلتِ
إليّ خيوطك، ولولاها ما كنتِ أعطيْتني يديْك وجدائلك وأوتارك اليانعة. والآن، الآن
فقط خذيني عارية يا شمس. نيراني سرقت آلاف الأعوام. لم أسرق نارا من أحد، إلا منك.
لا من «فوق» ولا من « تحت». لا من سماء ولا من أرض. لم أسرق نارا لأنني الماء الجميل.
لأنني الجميل النائم في الخطايا. لأنني النيران الرائعة. يا شمس أحرقْتني : أحرقتِ
أجنحة الشاعر وأغرقتِه في البحر. أيتها الوردة يا مياهي ونيراني، كذا كَلَّمْتُ أجنحتي.
* *
أجلسني على حافّة الشعر وبكى.
انتشلت عينيه الجميلتين وروحه الصاخبة من كذبات كثيرة تتجول منذ أعوام .. الكذبات الصغيرة
تتجول مثل كلاب الجيران في آخرة الليل.
كتب موته الأحلى ووردته : «أصعد
في الذرى وأترك أصابعي وأحشائي فوق الأرض، لكن يأتي البحر ليشرب كل الكلمات»(2). هكذا،
ستكون نهاية «العالم». قلت صباحا : الأصابع والأحشاء، هذا من ذاك كلاهما الدم والنيران،
الطريق والخطوات، الخواتم ويداها المليحتان، الأساور وصدرها.. أما إيقاع ذلك (ولامرئيّه
الجوّال) فيأتي من كل الجهات. لا نسمعه أو نراه، نحياه ولا نراه نعيشه ونراه. ثمّة
فارق بين الحياة والعيش، ربما، أو هكذا يجب أن أزعم !
الإيقاع ما حمل الحواسَّ والأمتعة
إلى جهات لا نعلمها. ليس رنينا أو أجراسا تُقرع. في اللحظة(الأبد الكبير) التي يصعد
فيها الإيقاع يترك الألفاظ على الأرض ليأتي الماء ويغطي كل شيء .. لحظة رعب، حدث شعري
في الأصل. الماء يغطي كل شيء : الأصابع الصغيرة للشاعر وصدر الوردة المليء بالألغام
والتفّاح. يمكن لك أيتها الوردة أن تجمعي الشاعر بالإيقاع دون وهْم (السّجع و الرّنين
والألفاظ المهترئة الجوفاء) عملية العطف أسميها الوقوع في جهة الكلمات كلِّها. يغطيها
دون : و، أو، بل ... إلخ. هكذا : الشاعرُ الوردةُ الأصابعُ. الإيقاعُ أن يغمض البحر
كلّ كلماته ويغطّيها دون حروف !
* *
مالحة أشياء البحر وهو الرائع
بطموح الزبد فيه. مالحة وردة الأرض في الأصل، أثيريّة في أصواتها ورقصتها المجنونة
على ساق واحدة. تترك الأفواه فاغرة. تترك الخوف القديم وتحتمي ببلوى الكتابة، بالشجر
المدقوق بمسامير الضوء، المسكون بضجة الأوراق الصاخبة.
البحر أحلى، يتقدم بالسنابل ويشرب
الدماء والأضواء والأمطار. تستعيد الوردة أصواتها المختلفة والذَّهَبَ الذي سُرِقَ
منها. طوبى للبحر الوحيد الذي يصل مشغولا بخنجر أو مرآة أو ألواح مقطوعة من هناك
.. أيتها الأرض سمّيْناك روحا مادت بالضوء والظلام، بالعطر والحلوى. إنها «الحقائق»
التي ظلت صامتة آلاف الأعوام. أيتها الأرض مزّقت يدي لعنةً لعنةً في الصباح الطويل.
أيتها الأرض، يا شمسا ضاحكة قرب
فمي. إني مُضاء ألف عام مضى وألف عام يجيء، محمّلا بالصباحات، بريح القرون .. ثم كانت كلماتي زهورا منقوعة في الرمل
مكتوبة على حجر مصقول. يرددها الأصدقاء في الحياة والموت، في الليل والنهار. ليس ثمة
من نهار أو ليل وهذا ما حدث أو انفلت، الإيقاع ليس دخانا. سألتني الشمس صباحا : هل
في استطاعتي أن أضيء ؟
- من ؟ قلتُ.
قالت، والنار تأكل أصابعها : يا
طفولتي وغوايتي. صدقت رقصات الروح. صدقت العشب والمياه.
صدّقت وردة شاعر لم يكتبها ليتذكر
بل كتبها لينسى موتاه. كتبها ليموت ويحيا ، ليحيا الإيقاع، ليجعل شفاهه أحلى دون شمس.
كتبها ليجعل فمه مليئا بالذباب .. كتبها كي لا يعرف أحدا، كي لا يعرف حياتَه أحد، كي
لا يسأله أحد وعلى فمه لعاب لماذا، هل، كيف، أين ومتى .. آخ أيها اللّعاب الكريه.
صدّقتها شمسا تستمدّ قوّتها – أو قوّة أظفارها –
من سلطان الوقوع، الإيقاع، الوردة، الأصابع ..، من سلطان الشعر والشاعر: ينهضان معا،
يقعان معا عليها، يوقّعان فيها. إنها الجدائل التي ظلت قابعة في البحر قبل هبوب الريح.
من أبدع الشمس فقد سمّاها، فقد علاّها، فقد أخفاها، أشعلها في الوردة التي تصل في الصّباحات
آنيةَ زهرٍ أو أجراسًا أو حركاتٍ أو مرآةً على شكل شيطان أو ملكة تحبها العصافير أو
فراشاتٍ في اللّيل أو رغبة أمطار مجنونة. هكذا أبدا أنا البحريّ الجميل وصوتي ليس كريها.
أرى أن العمى أن نريق دمنا هباء في السرّ، فيما سمّاه الفلاسفة «العالم». «العالم»
هو الأرض في دودها المالك للضوء، في دودها المتاح له في بريد عظامها المسحور، في أرواح
موتاها المقتولين ببرق جميل اسمه الموت أو الحياة.
الأرض : هشاشتها في ثقافة قمحها
الأسمر ، في أنهارها الجميلة الحمراء. «العالم» ليس وصفا أو تصوّرا. العالم قدْح لزناد
الشّوق المتبادل بين أشجار اللّيل والنّهار. هو ما يخرج من حَمام في الصّقيع مثقلا
بأوراق صغيرة. هو حواسّنا. هو أعشاشنا. هومساءلتي ما إذا كانت حواسّي قد خدعتني فعلا،
ما إذا كنت أعرف غريزيّا طعم اللّوز وطعم الزّيتون اللاّهبَ وطعم الأسماك، ما إذا كنت
قادرا على حمل هذه البحريّات الحقيقيّة على وجه شعريّ مربك. على وجه الوقوع لا الإيقاع
فقط.
الشمس قادرة على فعل كلّ شيء ومنح
كلّ شيء هِبَةً مثل الشاعر. قادرة على شمّ وسمع ولمس وإبصار رائحتي في اللّيل، على
التقاط حبّات الماء والقمح والضّوء من صدري. قادرة على لثم أكثر من حلَمة في اللّيل،
على الإمساك بصنوبر جسدي .. على الوقوع إجمالا. قادرة على أن تبكي فوق أعشاب النّهر،
على تفجير الذّهب وتحويله بإبر الرّوح. قادرة على أخذ الشيح والزّعتر ووضعه في شاي
العائلة السّاهر الضّاحك في دفء الزّجاج. الشّمس قادرة على أخذ ما هو جبال ثقيلة بغبائها
في الصّباح، على افتكاك ما هو للشاعر أصلا: الغرابة والنّزق والإثم والغواية والأخطاء
والخطايا...
الوردة فجر جديد، و كلّ جديد في
يدي هو قديم .
ثق بعينيها إذا، بأمواج النّارتتساقط
من عينين يتيمتين فوق الأرض : الحبّ والموت والحاجات البشرية الغفيرة العمياء: الأكل، الشراب، التغوّط، التبوّل، النكاح،
التقبيل. وعاليا، عاليا حيث الضّجيج الآخرأيضا. نحتفل بالبرق والرّعد والأجنحة التي
هي بعدد ذرّات الرّمال، نحتفل بالضّحكات المجروحة، النزقة باستمرار. الضّحكات الصّغيرة
التي تمنحها الوردة عمياء في النهار، في لجّة
مياه ملتهبة .. الوردة عمياء وترى كلّ شيء !
الوردة تحتفل بتساقط النّسور في
قمم الجبال ، تحتفل بمخاصمة حواسّنا الشيّطانية والاختلاف معها.
غموض الوردة وضوحها الذّابح. تتنفّس
الماء والبساطة الجميلة في تركيبها الخفيّ، البحر والأبديّة : كلمتان تعيشان طوال قرون
في عراء تامّ، في خواء سافر .. واو العطف هي الشّمس أيّها الأغبياء !
تتقدّم الوردة في النّور والخديعة
(الكتابة والقراءة) وتغرق وحدها، هناك، في أجمل ظلام فوق الأرض.
تغرق وحدها في جهاتها بأمتعة جديدة لم يعرفها أحد، بأمتعة أخرى ...
ــــــــــــــــــــــــ
(1) الشاعر العراقي حسب الشيخ
جعفر.
(2) الشاعر التونسي رشيد الميغري
(مقيم في الولايات المتحدة).
(3)الشاعر اليوناني أوديسيوس إيليتيس.
كتاب «له المجد» تعريب الشاعر العراقي شاكر لعيبي.
* الأمتعة : أمتعة نيكوس كازانتزاكيس،
التي هي أمتعة الشاعر أصلا.
* «الوقوع» قانون شعريّ رأيناه
أصلا شعريّا في الشعر والنّثر معا إضافة إلى الإيقاع (بما هو الحدث الموسيقيّ السائل
في الشعر). في علاقاته وتجلّياته المتصلة بكلمتين متضخّمتين هما «الذات» و«العالم».
ولقد ثبت تفجير هاتين الكلمتين آخرالقرن الماضي.
الـكـتـابـة بـالأمـتـعـة.. (3)
( كـتـابـة الأرض بـالأسـمـاك)
الأبديّة، الجبال، أوهام الحداثة،
الشّمس، الوردة، المعجم الطبيعيّ في الصّباحات وآنية الزهر وأجراس الوردة، هي القوى
الوحيدة التي تحرّكنا، هي الملكة التي تحبّها العصافير، هي المرآة المشروخة بانتظام.
هي الفراشات ليلا، هي الأمطارالتي تجلس إليّ. هي الجبال الرّائعة التي أزرع فيها الوردة
المرئيّة واللاّمرئيّة التي حبتنا بها شجرة الرّوح الحنون. أشعلتُ الحيوات الصّغيرة
في تلك الشجرة ومضيت إلى النور. ألقيت قدّامها
بجواهري الوحيدة لأني لا أودّ إلقاءها أمام
الخنازير .
إلى أحد القطبين أيتها الخنازير،
لا ريح لك في أمتعتي .. اذهبي يانتانة، بعيدا أيتها النّفايات يا غارقة في الفضّة.
نحن كاذبون لكنّ شجر الكلمات صادق.
الكلمات أخطر الهبات، لذلك كله أثق بأناشيد ليل الشمال الافريقيّ ولا أثق بالصّحارى.
إلى النور يا أصدقائي، أخشى عليكم ندى الأصابع وأسرارها المهلكة. أحمل جبالا ثقيلة
وأبّهة، لكنّي أكره إلقاء الورود بغير صباح. ذلك هو الحب الكبير وتلك هي اللّعنة الجبّارة
ومتعة شياطين اللّيل والنّهار.
عدت أمسِ إلى الأرض، لم أغرق في
البحر بعد احتراق جناحيّ. الطائر سقط في البحر لكنه لم يغرق. طار في الأزمان الأولى
بجناحين من ريش وشمع، وطرتُ شاعرا بأحلام صغيرة لطفل كبير مليء بالجواهر والأصداف.هناك
في التخوم وفي تلك الأوهام والكلمات المتعالية. كذا كلّمت أمتعتي في صباحاتها الجديدة
.
لذلك كلّه – أيّها الشاعر الوغد
– يجب أن تزرع الوردة البحرية في كلّ مكان ، يجب أن تقول غصنها الوحيد و أوراقها البلّورية
وكأسها المكسورة، ستميد الأرض- يا أبناء الوردة الطيّبين – وسيغطي الماء كلّ شيء.
هكذا تَمنح البروقَ وتبصر بها
الحروفَ والأسماء والأفعال. تزرع وردة البحر بعد أن أدخلْتَهَا دُجًى شفّافة مضيئة،
بعد أن كنت تتزوّج رغائبها. كسرتَ السلالم أيها الشاعر، كسرت السلالم العالية وكذا
كنتَ تمشي بتحنان حيث لم ترسل كلماتك فقط بل كنت تحيا على هواك.
ما رأته الجبال حدث وكفى. وما لم تره الوردة حدث
تركيبا وصورة. و لذلك سيغطي الماء كلّ شيء. سيّدتي، يا أخطائي الرائعة. يا من تمتّعت
بالآثام والشّكّ واللّوعة الواهبة للضّوء والمسامير الصغيرة المدقوقة بعناية في البحر!
هكذا، أو هكذا يبدو يا إسما أطلقته
على الوردة حبّا في تنويع الحدائق وجعلها بؤرة للضوء.
يا شمسا بحرّية جميلة وعنيفة.
إنّك يا سيّدتي لم تحرقي من الشاعر سوى أظفاره، أما الأصابع فهي تتناسق أكثر فأكثر،
وردة في هذه الأرض، أعلى ريحا وأعتى بحرا. يا شمس البحر العنيفة، ما أبهج تلك اللّعنة.
سيّدتي، يا آثامي : الوردة هي
الإثم الوحيد في الجبال التي كنت أحياها. أحيا وأحيا صداها في اللّيل على نحو آخر وأكثر
جدوى في الصباح .. أحيا صباحات أجمل من أيّ سيّدة، يا شمسي الرائعة.
الصّباحات وردة الغناء الوحيدة
في هذا الشمال الإفريقيّ. إناؤها الوحيد المغتسل بدم الموتى والعراة والمشّائين والكهنة
داخل الغابة.
- هل تملك وردة أيّها الشاعر ؟
- لا .. لا .. لا أملك سوى إسمها
قبل أن أعرف النيران والمياه.
لم يكن الشاعر الصغير رائعا بإسمها فقط، كان رائعا
بما تمشي وتتنفس به الوردة. بما تفرك أصابعها وتمدّه، تنفض الغبار عن الشمس، تتلف خيوط
العنكبوت ثمّ تغسل يديها.
* *
أيتها الأسماء يا وردة تزرعني
في آخر الطرقات .. هه .. هه .. تضحك الوردة العمياء في صباح الأشجار التي نامت طويلا
تحت جدار منسيّ. بينما كانت أحزان العصافير تتكدس في الظلّ تحت الأشجار وكان الجدار
المنسيّ يكبر شيئا فشيئا. خذي الأحزان، جمّلي بها الجدار المنسيّ، تكلّمي أيّتها الأشجار،
تنهّدي. السماء صباح آخر من صباحات الرومانسيّ الغبيّ، صباح صغير جدا. صباح للسّورياليّة
أو أشجار الخرّوب الشّمطاء.
- الصباح أعظم من أن يُقال. يَقرأ
أصابعَ الشاعر ولا منتهاهُ.
- الصّباح لايُقال. يُعاش فقط
ولا يُقال.
أيّتها السماء. الحزن ليس في عيوني،
الحزن في الرّؤى المضيئة، في الرّسائل والبرقيّات والصّلوات الصّغيرة لوردة صغيرة قتلها
برد ديسمبر أو ما شئت من إبر النّحل.
أيّتها الأسماء، أما رأيت الحزن
؟
... هكذا، رأيت الوردة في بيتي
ملتحفةً بمنديلها الأزرق.
* *
خونة نحن، كلّ واحد منّا (عصافير
الأطلس الصغيرة) يخون بطريقته في الصّباح. أليس كذلك أيّتها الأسماء ؟
كلّ واحد منّا وفيّ لخيانة حدثت
أو لم تحدث بعد. خنّا أحزاننا وأحلامنا فلم نُرِقْ عليها شيئا من دم النسيان وخمر المحو.
خنّا الأرض فلم نزرعها بالأسماك والأصداف وخشخشة الأوراق وطقطقة الأغصان.
الشمس القديمة يا أصدقاء الريح،
عطّلت آلاتنا قرونا كاملة. (من ضمن الآلات الصغيرة : الرفش، المسحاة، الفأس، المطرقة،
علب الكبريت، النواعير الهوائية، الزجاجات، المسامير، اللوالب، المكانس ...)
العطالة قاتلة في الشمال الإفريقي
وليله البارد، العطالة حوّلتنا هنا أشجارا لا تكتب ولا تضحك، لا تعرف فنّ التقبيل ولا
تنسج أردية للنسيان ... لكن بالأحلام البسيطة، بإيقاع مسامير الضوء استطاعت البنايات
الصّغيرة أن تتماسك، أن تقيم في الوردة بلا حروق أو أملاح.
يا شمس، يا سيّدتي، يا حارمتي من اللّذات الصغيرة،
ثمّة من قال في صباح غائم وثقيل : «الريح التي لاتكسر الشجر ليست ريحا». لم أصدّق شفتيه
وصدقت أصابعي. خرجت وابتللت بالمطر لتغفرلي الأشجار لأنها الوحيدة التي تمنح الغفران.
الأشجار الحنون، الأشجار أخوات الروح. لذلك صدّقت أن أجمل شعوب العالم هي الأنكا والغجر
والمايا والأزتاك والزنوج والأسكيمو ..
بالأحلام البسيطة الذابحة وبشجرالألفة
(أو التأليف) نكسر جدران اللّيل التي كبرت أمامنا حتى خلناها «العالمَ»! بعد قليل فقط،
نسمع ضجيج المعاول وهمهمات ما : همْ ! هه ! همْ ! هه... بعد قليل فقط، لن نرى العرق
الذي ستشربه الأرض للتوّ، بإمكاننا أن نرى زُهَيْرات صغيرة تخرج تحت الأشجار، نجلس
حقا لنرى كيف تتنعّم الأغصان بالضوء. نتهامس لننسى تلك المشاقّ. لن نكون في حاجة إلى
حراسة الأشجار في اللّيل. فقط، سَيَرَوْنَ أسناننا البيضاء المشعّة في شكل دائري، كامل
الليّل. هكذا وهبت أطفالي كلّ صباحات «العالم» الثقيلة بغبائها ونومها الطويل. أحيا
شاعرا غضّا مثل أغصان الندى. أحيا الأفكار(تلك الذّئاب الفضيّة المدهشة بأسنانها الدقيقة)
وأحلام الأطفال وجميع ألعابهم المجنونة.
يا سيّدتي، آكل – أنا كلبك الصغير
المدلّل – قطعَ الحلوى وأشرب علب الحليب من أيد لطيفات مثل الأثير. لم أخن أحلامي.
أرسلت الرّجم والصّواعق والشّهب والمعاول والرّجال الطّيّبين ذوي السّواعد المفتولة
والأسنان البيضاء النديّة.
قلت للوردة أن تطلع وحيدة. فاخرجي
الآن يا سيّدتي. لم أستطع – أنا إيكار الصّغير – أن أقيم خارجَها، الإقامة فيها، في
الأرض الهشّة، أَحَبُّ إلى أصابعي وروحي الشّيطانيّة العذبة من الإقامة تحت أشعّة شمس
واحدة وحيدة. ترهّلت جدائلها من فرط النّسيان والأمشاط الصّغيرة. أمارس ضحكتي دائما
وسَتَرَوْنَ عقودا منفرطة على صدور الموتى. أضحك لأنّ هؤلاء الطيّبين وجوهي « الحقيقيّة
» لأنّي في حاجة إلى اللّعب والضّحك..
لا .. لا .. وجهي كاذب ووجوه الآخرين
صادقة لأنّي أرى فيها أمتعتي بوضوح .. لا .. لا .. الوجه لم يكن خدعة والضّحكة لم تكن
كذبا. أليس (الضّحك هو الإحساس الأعمق في « العالم »(تُفْ يا كلمة « العالم » الفضفاضة
المتعالية المليئة بالأوهام!) أيّتها الوردة، أحبّك مثل أصابعي، أيّتها الجواهر. خذي
الألفاظ الموات المترهّلة مثل عجوز في العشرين. الشمس الرّائعة المالحة بعرائها حياة
وموت معا. يحبّها الشاعر مثل الوردة، مثل أصابعه. يسمعها كلّ صباح بعينيه. يراها بالسّمع
وبالنّعم الأخرى. يمنحها الوردة: صدقها ولوعتها وصفاءها وجلالها وجمالها. يمنحها ضوء
أصابعه وضوء أطلس الأشجار ...
الـكـتابة بالأمتعة (4)
(كتابة الأرض بالأطفال)
سيّدي الشّاعر : أحلامك ونزواتك
المياه. الوردة حالتك الخائنة على الدّوام. آثام الكتابة تجعلك تفكّر في موت آخر. آلام
الوردة تجعلك تفكّر في شمس أخرى.
قصّة غزل بين كوكبين هي الوردة.
لا تعطي الوردة إلاّ نفسها ولا تأخذ إلاّ من نفسها. كذا كلّمت أمتعتي: ثمّة نيران تَعِي
وجودَها لها أن تندلع بعيدا، في جهة أخرى. تترك لنا الوردة أمكنتها لتُبقي لنا شعريّتها
: الوعي الحادّ بالوجود، بالأرض وثقافتها. لذلك كان كلّ شيء ينذر بالموت. كلّ شيء هنا
قاتل أو مقتول. الأرض، الأشجار، الشعراء الصّغار، الحاجات البشريّة الغفيرة العمياء.
ما أقسى أن يكون المرء بلا أرض وبلا هشاشةٍ. الهشاشة لبن الأرض المسكرُ.
كلّ شيء ينذر بالموت طالما كانت
الوردة بلا جمال غريب .. الشعر هو إحياء الأرض والأرض هي إحياء ذاتها. الموت ليس خدعة، لأنّه ليس في حاجة إلى الحياة، هي التي
كانت في حاجة إلى ذاتها.
سيّدي الشاعر. تفخر بكلّ شيء،
بالأصابع الرّقيقة، بالابتسامة الخفيفة مثل ظلّ. بالوجه المرح وبالصّوت المتميّز.تضحك
كثيرا لأنّ أجمل الأشياء التي وصلتك هي الضّحكات العمياء، البطاقات البريديّة البديعة،
المجلاّت، الكتب، أشرطة الغناء، صور الأصدقاء والصّديقات، قطع الحلوى والشيكولا
...الكلمات الحزينة والجميلة، الأصدقاء بدهشتهم. البحر، الأسماك، الأصداف، الأشرعة
والمجاديف العاملة في المياه. كلّهم أصدقاؤك أولئك الذين منحوك نعمة النّسيان وليس
من مجد للشاعر مطلقا. المجد للّذين رموا به في البحر.. هكذا سقط عاريا إلاّ من أوراق
شجرة حنون .. النّسيان نعمة الشاعر. النّسيان نعمة وعزاء.
* *
يلقي الشاعرالجثث والنّفايات لأنّها
الواقع الآخر المتكثّف. واقع الرّوح وهي تتلوّى، تلتاع بضجيج الأشياء العلويّة. لن
تكون غامضا أيّها الشاعر. وردتك الفاخرة في المرآة، في أغنيات ضائعة في البحر فجرا،
في شاشات وصور على البحر. تراها في المرّة الأولى، فتغار عليها من المشي صباحا بلا
قبّعة.
الكتابة ! أيّة وردة معذّبة مليئة
بالصّباح، بالكلمات والأمطار، أيّة أشياء تلك في شعريّة غامضة؟ ذلك هو السّرّ الذي
وجدته في قلب الطائر، في قلب الشاعر أصلا، في هباته التي كسرت زجاج اللّوعة. الشّمس
يا ذاك السّرّ! يا أنت! يا أجنحة الشّاعر! هل كنت وردتي أيتها الشمس !؟ التهمي ضحكاتي
لأراك فيما يُضاء، ليس مطلوبا منّي أن أُفهمكِ قوانين اللّعب أو أغسِلَك بماء قديم.
المهمّ أنّ أصابعك تحيا فيّ وأحياها. أحيا صداها وتحيا وقوع طائر في المياه. هل كنت
وردتي؟ يا من زوّدتني بالمتعة. يا من ملأتني بالرّغبة والرّضى يا من أعطيتني الأطفال
الجميلين. ثمة نيران تعي وجودها لها أن تندلع في زمن ما، في جبل ما. ثمّة عواء فائض
على الكون. ثمّة وردة ممتلئة بالمياه والأملاح، بالنصوص التي تعمل في صمت ثمّ تُظْهِرُ
أنيابها المشعّة البيضاء«للعالم». تف يا كلمة «العالم» المتعالية الفضفاضة بمؤخّرتها
النتنة. ثمّ تجهز عليه بيد مغسولة بالنّيران. تف مرّة أخرى على أوهام كلمة «العالم»!
أيّتها الشّجرة يا أخت الرّوح. أيّتها الوردة يا
خمرة الجسد وهشاشته. الأسماك لا تحيا سوى الكتابة. الأسماك لا تحيا خارج الكتابة. تلزمها
الوردة والقرون الضّاربة في البدء. سيّدي الشاعر يا من تحيا قلق الوردة التي تضرب وجهك
بلحافها الأبيض كامل اللّيل. تنتفضُ في بطنها بأوراق ثلجك المعذَّبة. تلقي إلى الجميع
بفكرة اللّيل مشبوبا بالفتنة والأوهام، بالموسيقى والنّور والمعرفة. تعرف سرّ فكرة
اللّيل ولديك الشجاعة الكافية كي تتقدّم إلى
الهاوية!
* *
شاعرا كنتَ في الصّباحات وآنية
الزهر المترعة، بالدّم والقيح والقطران. شاعرا جديرا بالذّهب والأعشاب المتخمة بالنّدى،
تأكل عطر الوردة في عيون الشجرة الجميلة. كنت تحبّها لأنّها كانت تتهمك بالجنون. أحببتها
في كلّ صباح لذلك كنت رائعا حقّا. كانت تذهب بك إلى الذرى، بعيونها المغسولة بدماء
الرّغبة، المبقّعة بنجوم سهرت ليلها دون نقصان، سهرت ليلها الكامل بأغصانه وأعمدته
وجدرانه البيضاء! هكذا ترى في شفاهها الأسماءَ أسرابًا من النّور وسيقان عصافير. شفاهها
في الصّباح كائنات ملكيّة مكلّفة بإعطائنا الطّعام.
الطّعام لُغَةٌ يا شجرتي الجميلة
وجسدك المعجون حروف شتّى. كنت أرى – أنا الطفل الشقيّ – الشّجر العاطفيّ الأزرق في
عينيها. كنت أرى أنوارها الشجريّة المجنونة وانكساراتها في الصّباح الشتويّ الممطر
وفي الصّباح الرّبيعيّ المدهوش بما حدث من كلمات القمح. كنت مجنونا أمامها ولا أطيق
فراق المقعد الخشبيّ اليابس قبالتها. قلت كلماتي
بلا خوف إذا، قلت لها أنتِ بساطة التركيب
ومذبحة المشاهد. طائر أنا بلا أجنحة، كائن عجينيّ، أخلاط هشّة من الأعشاب والألوان
اللّزجة.
أمشي على الأرض لكنّي أطير. قلت
أحبّك أيّتها الرّؤوس المقطوعة الجميلة ولستُ مجنونا.
الطّعام لغة يا سيّدتي ! لو شرحت
لك سمات المشهد وطرقَ تكثّفه وتركيبه وبناءاته العالية، لو سميّت لك جنوني ضاعت أقمارك
هباء. لو كتبت لك الضّوء والعطر والحلوى كنتِ ربيعا مثخنا بالرّؤى وشتاءً مفعما بأوراق
الكلمات. أيّتها الشجرة الحنون علّمتني أن أمشي. المشي روحي. مشّاء أنا في الجبال والبحار
والأراضي. أشعل في الشجر الحياة وأمضي إلى حيوات أخرى مليئة بالعمل والحروف. كلّ شيء
على الأرض. القارئ والشمس مثلا، أصابعي وشفاه مدرّستي المعجونة من تمر الحروف. شفاهها
الزرقاء من أثر تدخين السّجائر في اللّيل. نفخر بما أذكته الشمس فينا، نفخر بكلّ شيء،
بالعمل والحروف نفخر. الكتابة فخر في جهة أخرى.أيّتها الشمس الموؤودة في النصّ. باستطاعتي
أن أكون خارجك. لأن «خارجك» هذا هونصّ آخر بالتّأكيد. يمكن العثور فيه على احتمالات
أخرى.
إنّها احتمالات شعريّة مُشْرَعة
على المجد، فِعْلُ انفتاح على كلّ شيء، على الأشياء الحميميّة، على الأشياء البسيطة
التي ندوس عليها ولاننتبه إلى جنونها التّسابيح والأحلام، الرّياح والأمطار، الشاعر
الكلب الخائن الجبان الكذّاب، أصابعه المغمّسة في الدّم، حنّاء معركة الشمس والبحر،
الضحكات العمياء لآنية زهر في الصّباح .. كلّها أمتعة تنام في الاكسير، في الحقول الممغنطة،
في إنجازات الوردة تحديدا، كلّ شيء ينام في
صباحات مدهوسة، في آنية زهر مترعة بالدم، في أجراس وردة، في ملكة تحبّها العصافير.
في مرآة مشروخة بانتظام ولا تفكّر في شيء. في ليل فاحش مليء بفراشات غبيّة، في رغبة
أمطار جذلى...
الـكـتـابـة بـالأمـتـعـة..
(5)
( كـتـابـة الـقـرون الـقـادمة
)
لست رمانسيًّا حالما يسبّح باسم
النّهايات .. لذلك أقول لأصابعي إنّ الشمس ذاكرة المياه. دمها الرّائع : السنوات الضّوئيّة
الأخرى التي تحفر في الصّخر وصحراء عاوية وأفكار راقصة.
استطاعت سرقتي من ضجيج الأعالي
وإعادتي إلى الوردة في أبهى الأشكال. أعطتني المياه وقطع الحلوى وأطفال الدّموع وأعلى
المذابح... حتّى الأعشاب التي كنت أتمشّى عليها كانت تتمتّع وتحيا الغبطة. حتّى الأشجار
التي كنت أجلس عليها (وفي ظّلها أيضا) كانت تضحك في النّور. كانت عيونها ترحل إلى إمكانات
أخرى تكسر خطّيتها، إلى أحزان جميلة تترك حريرها على المياه وتخرج في صمت قاتل. هذا
إناء وردة يرتجف كلّ صباح. تلك الوردة التي كنت آخذها معي في أسفاري. أنا الطائر الذي
يقيم أعلى فأعلى والدّماء في مراكبه. إليها
إذا، إلى تلك التي يسمّيها ويدلّ عليها الماء، إلى الوردة فيما يأتي من انفجارات وبنيات
أخرى تتكوّن على نحو آخر أكثر إدهاشا. لن يكون همّ القارئ إحياء الموتى بل إحياء الوردة
في الأقاصي وانتهاك حرمات اللّيل.
**
ألْفَ عام أتهجّاها، أتهجّى أسماءها
وأشياءها وباستطاعتي الإقامة فيها الآن : في هذه الأزمنة المتعدّدة التي تحياها، وفي هذه الأمكنة المختلفة التي تعشقها. انظروا إلى
تلك الوردة الهشّة الملتاعة ببروق مَّا. تمرّ علينا كلّ صباح وتدقّ الأرض بكعبيْ حذاء
صغيريْن. هي ما يحيا فيّ، هي ما يحيا بي .. ولا شيء سوى ضوء الكلمات لأعطي الدّجى طفلا
آخر لا يشبه أحدا ! لأعطي الوردة حليبا ويدًا تشعل الثلج و علبة كبريت لإحراق الغابة
على آخرها. ذلك ما أبكى الشاعر منذ قدومه. ذلك ما أبكاه طوال قرون.
ها هو، يتجوّل مثل الأعمى بعصاه
البيضاء. عصاه امتداد له ولا أحد يدلّه. العصا البيضاء ويد النّار وحدهما تدلاّنه.ثقي
بالأمطار – أيتها الوردة – حتّى و إن كانت تنزل في مكان آخر . ثقي بالشجر الذي أنبت
فيه، الذي أنبت تحته أمس اليوم غدا، ثقي بالشمس و الجبال التي حُمِّلْتُهَا وحيدًا.
ها هو الشاعر الجوّال يلقي بالوردة
لتحترق في الماء، كي يضع الآخرين في سرطانات اللّيل القديمة. يلقي بهم في أبّهة المعاول
وهي تخرج هاتفة بمجد الرّجال الطيّبين ذوي الأسنان البيضاء. هاتفةً بسواعد رجال عادوا
لتوّهم من البحر! سيصعدون الجبال التي بنيتها قرب البحر والشمس، التي بنيتها ألف عام
ومسكتها بالبحر، ثمّ أطلقت الشمس وردة تتقدّم بأصابعها نحو الحتف. تكتب الأرض بالأطفال
وتصرخ : عودي أيّتها المياه فأرضنا صلبة وفضّتنا
بعيدة، عودي فرؤى الوردة جمّة وجواهرها شعريّات القصب المفتوحة.
* *
نجحت أيّتها الجواهر، يا أسماء وردة كانت معي. حروفها
كانت معي، صلصالها كان معي، أفعالها، حركاتها وخلجات الرّيح فيها كانت معي، وسيوف ماء
كثيرة تقاتل بها. كلّ ما يشبه الوردة يعنيني: الأبديّات جميعها. كلّ ما لايشبه الوردة
لا يعنيني. تعنيني البحار والجبال والنيران والغابات والأسنان البيضاء آخرة اللّيل،
والمياه التي أنوء بها. ما يشبهها يعنيني. تعنيني الوردة التي أنوء بها في احتمالاتها
المتضافرة على نحو يضيع في العشب والذّهب أبدا. كذا نجعلها أكثر ارتياحا إلى رغباتها
الأصيلة، أكثر معرفة باللّعب، أكثر التصاقا بدمائها ودمائه. كذا الأشياء المضيئة. كذا
المتعة والحميميّة، رعب الكائن الذي نحياه، في القرون القادمة والمدن اللاّمرئية التي
نراها.
* *
يحيا ألف فكرة في آن. يحيا الغبطة
: جمال الرّعب وجلال الوردة، والهمّ البشريّ العارم. هو الشاعر، يكتب كي يُضحِكَ الوردةَ،
كي تَضْحَكَ الكتابةُ. آه، أيّتها الكتابة أخاف أن تجلدني جواهرُك، أخاف أظفار الشمس.
أخاف عضّها الشموع الخضراء في الظلال، أخاف أن تعضّ الوردةَ بغريزة قديمة قِدَم الماء.
أخاف أن تعضّ الرّيحَ! أن تعضّ الوردةَ اليتيمةَ التي أحبّها الشاعر منذ أمد بعيد.
الوردة التي تبكي في الأعالي حيث الضّجيج، الجميلة مثل حشرجة صيف قديم !
لا خلل في الوردة. نحن الذين نصنع القلق كي نقلق
ونفخر، القلق الذي في أنفاسنا وفي الآخرين نراه رائعا. القلق خلق الأسماء والأشياء.
القلق كان كنزا مخفيّا فأراد أن يُعرف، فخلق الجبال التي تُعاش أكثر ممّا تُقال
!
الوهم الوحيد القادر على إشعال
الثلج والرّغبة في القموح وعلى إنهاك دجى اللّيل. القلق أن أذهب بالوردة إلى آخرة اللّيل
وحيدين، ألاّ أكون في حاجة إلى تخييل وترميز، أن ألقى ما يغنّي به الموج، أن ألقى ورائي
طريقا من القتلى وطريقا لزرع الصّباحات في أرض مليئة بالدماء !
إشراقات الوردة(1)
[إلى النّاقد الشقيّ محمّد لطفي اليوسفي ]
فتنة القديم و سلطانه وأنين الوردة،
ولا شيء آخر. الأهمّية إذًا للعراء من الألفاظ والأموات، للعراء من البلاغة والتوابيت.
الأهمية للعراء. نامي أيتها الألفاظ نامي مناما آخر وهبّي أيّتها الإيقاعات. كوني أيّتها
الوردة لوعة وحريقا، غابة نشعل فيك الأكوام. كوني متوحّشة في القاع أيتها الوردة، مصلوبة
في كلماتك وفي أزهار اللّوز. نغنّي ولا ننتظر أحدا، نغنّي للموتى وعلى أعناقنا صلبان
الذّهب، محتفلين وهذه الوردة لا تشبه أحدا : كلّ شيء قديم هنا. كلّ شيء هنا وحل أو
غبار فضّيّ. كلّ شيء قديم يا شمس المياه النّائمة في أعيننا، هكذا كنتُ أغنّي في صباحات
قذرة ! الأهمية إذاً، للحرائق في الطريق والغابة والنّهر، للمتعة دون شروط. وكما يحدث
عادة للنّسورأوكما تذهب بِنْيَةُ الوردة إلى طور بعيد، يرى الشاعر أعشابا بسيطة تغور
في الأرض ودخانا لذيذا يصّاعد في أفئدة أشجار الصّنوبر واليوكاليبتوس.
ثمّة موت آخر هنا، و ثمّة أشجار
أُحرقت بكامل أغصانها.
- آهات اللّغة الحالمة، حزن شجر
الكلمات المنسوجُ بالمناقير، وآهات الدّخان.
- آهات المياه على غير عادتها
في البدايات، سيرة النّعناع والخزامى، والموت بلا أجنحة.
- ما اللّغة الحالمة، ما الشاعر
بلا جنون، وما لذّة الدّخان !؟
- ما عادة المياه القديمة، ما
سيرة النّعناع والخزامى وما أجنحة الموت !؟
تلك أعطيات الشاعر هنا، في هذه
الأمكنة والبلاغات المتوحّشة. تلك لوالب الوردة، يقظة التّفّاح فيها، سديمها وإرثها
الهشّ .
لم تحترق أجنحتي المختومة بالشمع
العابق برائحة أعرف مأتاها. ولا شيء آخر سوى ما يستحقّ الحياة، لذلك لم أحترق. لا شيء
سوى الوردة المتناثرة في الأصوات، المليئة بالحاجات الغفيرة العمياء، المحاصرة بالذبذبات
والأثير والألياف الخضراء. لا شيء سوى الموت الحامض مثل حليب تينات الصّيف، مثل شمس
ملقاة على الضّفاف.
ها هي الشمس القديمة تتثاءب وتلقي
أكوام لحمها على الرّمال. ها هي تأخذ كلّ شيء بلا شفقة في نهارها الكامل، مسحوقة بالرّغبة.
تلك إذًا، الوردة التي مرّت كثيرا خلال أصابعي وأخذت تحمرّ وتتشابك. تلك إذن الجميلة
التي تفتح الماء على العواصف الهوجاء، وتلك شجرة الشاعر : تفتح عينين محمرّتين على
حالات شائكة، على مروج ذهبيّة سمّاها الإشراقات... ثمّ اضحكوا فيّ ... في الشاعر الذي
يحيا الأمطار ويعطيها الإيقاع في كلّ مكان .. ثمّ اضحكوا في الغبار :
- خلقت « العالم » ثمّ غفوت وحيدا
فيما يُنسى .
- خلقت أصابعي ثمّ ألّفت سنابلها
وغفوت في عيون الأشجار السّكرى : تُبرعم لذائذها وتتململُ في الأعشاش.
- خلقت الحروف أحصنة ولجمت الرّؤى
ثمّ غفوت مع صبايا اللّيل المقتولات في حجرات سفلى، في وردة تتثاءب صباحا من أثر المشي
وكثرة اللّيل ... ثُمَّ :
- شاعرًا مثل دم ، نادرًا مثل
شيح و زعفران ، أذبح طرقا جمّة لمن معي في التّفّاح النّائم في الشعر أصلا.
- سديما أبدأ من صلبان كثيرة،
من أرض محروقة. ومن أراض أخرى ليست محروقةً أصلاً.
- مرئيّا ولا مرئيا أرسل ضحكاتي
العمياء أكوانا طريّة شهوتها على كلّ شيء.
- شاعرا أحيا مدنا جديدة، طفلا،
طفلا، أتنامى في الصحارى والصّحارى لا أعرفها.
- ماء عجيبا عرفت الجبال ولوعة
الضّوء التي تسقط باقاتٍ من العصافير. تسقط شجرا حزين النّفس والأصابع.
- دما في الطريق ولوزي القراءة
والكتابة.
- حياةً أدركت أحلى الكذبات. أدركت
الكريستال الملقى بلا ترتيب في الأنهار. أدركت النّجوم في مدن غارقة في الملح.
- وردة لا فرق لديّ بين أعلى المذابح
وبين غجريّة مشعلة في الأفواه. نَحْلَةً زرقاء أتيت.
لِمَ كلّ هذه الشمس ذات المناقير
الصّغيرة !؟
لِمَ كلّ أنسجة الشجر هنا!؟
لِمَ كلّ شيء يا بريد الموتى!؟
- يا إدراكاتٍ ضائعةً في الوردة.
- يا إشراقاتٍ ضالعةً في الرّيح.
- أيّتها الأدران.
- أيّتها الآثام البيضاء.
- يا أظفارًا في الغياب.
- ياريح اللّقلق،
في النّور الصّاعد من البحر الذي فتحناه.
في البحر صباحات فتحناه.
في الشمس البحريّة بيدين من هباء.
في الشمس المجنّحة بنهدين فظيعين، بخيوط مائيّة،
تتقدّم نحوي مختنقةً بألف غابة.
في الأطفال : أصابعهم غبار وأفواهُهُم مشعلة بالثلج.
في الغابات محترقةً بالوردة.
- يا إدراكاتٍ ضائعةً في الوردة.
في النّور الصّاعد من البحر الذي فتحناه.
- يا إشراقاتٍ ضالعةً في الرّيح.
في البحر صباحات فتحناه.
- أيتها الأردان.
في الشمس البحريّة بيدين من هباء.
- أيّتها الآثام البيضاء.
في الشمس المجنّحة بنهدين فظيعين وخيوط مائيّة تتقدّم
نحوي مختنقة بألف غابة.
- يا أظفارًا في الغياب
.
في الأطفال : أصابعهم غبار و أفواههم مشعلة بالثلج.
- يا ريح اللّقلق،
في الغابات محترقا بالوردة.
... تلك آهات الغابة وذلك هو الشاعر
بشفاهه ولسانه الأحمر وأسنانه.
إشراقات الوردة (2)
ذهب بالنور إلى أقصاه وأتلف الظّلمة على آخرها. هذا
هو العمل الوحيد الذي يجعله مغتبطا.
هذا ما منحه القدرة على التقاط
الأوراق الخضراء في الظّلال وتهريبها في الآخرين بنزق لا مثيل لهُ.
- من هو؟
- هو كل هذا العطش والجوع.
- لم يلبس ثيابا أخرى ليغطس بها
في آنية زهر مليئة بالدّم والينابيع.
هو الشجرة الواقفة بقبّعتها الزرقاء وبفستانها
الرّيح.
- هو الآن طفلتان ذهبيّتان تتساحقان،
هو الآن قمران يتلاوطان فوق الأعشاب.
- هو الذي لوّح بالشجرة وتحمّلها
وحيدا ثمّ حوّلها إلى ندفات حارّة.
- ليس من نور، وليس من ظلمة يتكلّم،
بل من آهة أعضائه وأمتعته المحترقة.
قرأ سماوات وقرأ أراضيَ هشّةً ذهبت فيه وأذابت ثلج روحه وجسده أبعد
ممّا كان يراه كذبا .. وقرأ أحلى الكذبات.
- الشّعر، الحصان الوحيد الذي
ضيّع منه نساءه. وأتى بهنّ سرّا وأقامهنّ في الأبهاء، فيما يشبه وردة لا تُطاق.
- آنَها كان يترك ما يتداعى يتداعى، يضحك أجمل ممّا كان يظنّ. آنها لم يكن باستطاعة
أيّ ذئب أن يأكل أسماك النّهر. فقط، كانت الأعشاب تأكل حتّى أصابعه . تأكل حتّى ما
ضمّه إليه من أنسجة وألياف وعصافير.
كان قد أنجز الوردة، كان مسؤولا
عنها، وليس خائفا ممّا حدث أو ممّا سيحدث. لم يعد يفجؤه شيء سوى بلاغة المكان ذاته
وبلاغة بنائه. هذا ما أطلق عليه اسم الوردة أو أصل اشتعالها في أعشاب اللّيل.
وفيما كانت ذرّات الشاعر تتجاور
كانت الأمطار تنهمر كما لم يحدث من قَبْلُ. ومنذ عودته من الغابة كانت الأمطار تنهمر
أوتتساقط بمثل هذه الغزارة.
لقد أثبت اهتمامه الواسع بما سمّاهُ
النّورَ، واهتمّ كثيرا بما سمّته الظّلمة أيضا. لم يجد أيّ شيء يمكنه أن يذهب بالظّلمة.
ولم يجد أيّ وغد قادرٍ على إيقاف النّور. ومردّ كلّ ذلك: الخسارة التي خسر بها نفسه
بهذه الطريقة اللّقيطة.كلّ ما في الأمر أنّ الأمطار العمياء قد طوّقت كلّ شيء. وهذا
ما جعله يصرخ ويضحك بلا هوادة.
لا يعاني وحشة واضطرابا فأسنانه
البيضاء كثيرة.
ثمّة ما عاشه ولم يقله. ثمّة ما
يحياه ويقوله :
- كلّ نهار واقع مخجل عند مقارنته
باللّيل.
- النّهار ببساطة شديدة وقاتلة
مخجل لأنّه الواقع الوحيد الذي يحرمك مذاقاتِ الليل البهيجةَ التي هي أكثر ضراوة من
وخز الأبر ومن شماتة النّهار على قفاك.
شاهد « صوتُ الشاعر » جماعةً تحيا النّهار كما هو، بلا
مذاق.
القبيح كائن و هذا هو بالضّبط
:
- ما لن يُخرجه .
- ما لن يَمنحه الهالةَ.
- ما لن يَضع على رأسه إكليلا
من الغار.
الجميل كائن وهذا هو بالضّبط
:
- ما يُخرجُه.
- ما يمنحه الهالةَ.
- ما يضع على رأسه إكليلا من الغار.
رأى الشاعر صوتَهُ. ضمّه إليه
ونام مثلوم الشّفتين.
الدّماء تنزّ رويدا والغابة تحترق
دفعة واحدة.
ليس ما يحيا بعيدا. وليس ما يحيا
قريبا. رعبُ الوردة وتلاشيها. الواضح أنّه الانهمام البهيج، السّمّ الذي يريح كثيرا
عندما تتدافع خيوط المطر بلا رأفة، عند اشتغال آلة التّحديق هناك في ظلّ الحديقة. إنّما
هي الإقامة الحقيقيّة التي تعوّدت الكذب بأناقة مختلفة عمّا سبق جميعه. سيّدي الشاعر:
الوردة الوحيدة هي النّائمة على
الاسفلت والاسفلت هو الوحيد الذي أكلته الأمطار. كانت الوردة كذلك إلى أن جاء من بعدها
آخرون لا ينامون على الاسفلت الذي تأكله الأمطار من كلّ جهة. ولأنّها كانت كذلك فلن
يأخذوا أكثر ممّا أعطيتهم من بهجة مذهلة وغبطة لم يهبها إلاه.
لستَ إلاهًا لأنّك :
- لا تحبّه.
- لا تكرهه.
- لا يحبّك.
- لا شأن لك به مطلقا.
هكذا بلا خوف أو خجل، إلى أن تسقط السّماء بعصافيرها،
إلى أن تجرحها سيقان العصافير. همُّك الآنية المترعة بالدّم وأسنان الكهنة، همُّك الآنية
المترعة بمياه الينابيع التي هي أصدق من كذبات لا تليق أوّل هذه الصّباحات الجديدة.
لستَ إلاهًا. أنت رؤى الوردة وهمّك لهب الأكوام. لستَ إلاها. أنت إنجازُ الوردة الخالصة.
أنت الوردة. أنت إنجازها ...
إشراقات الوردة (3)
يأتي من شفاه الزيتونات، من سرّ
زُهيْرات اللّوز ومن طفولة سيقانها منسيّة في إناء بعيد. لا يخلع حروفه وأقماره
وأسنانه عند الأبواب. يخلعها، يدخل غرف اللّيل ليضيّع فيها الأمواه والأثير. يملك بداهة
الإقامة في الدّاخل. يلحس قطرات الدّم المتساقطة من الوردة . يعود دوما من «ياء» النّهاية،
من تابوت المحبّة الأزرق. لا خوف عليه، صلصال «الألف» معه. يسقط في ساعات الغد البيضاء
وفي النوم الآخر لوردته .. معاطفُه الشمس وأشكالهُ
الأصداف التي يبيّض بها اللّيل ويحمي بها أصابعه. أُلفته الرّطوبة النّدى ونواعيره الأصابع الصّديقة. أُلفته أسنان
الغيب التي تسقط من أكتافنا. ألفتُه عذاب الأقمار التي يأكلها بنهم أوّل اللّيل وفي
أبهى الأشكال يقتل ديدان الأمس. طرقاته السّكرى أهمّ من البيت. وآهاته نبات النجوم.
قدماه ألسنة ويداه النّحل. خطواته إثم، وكثافته أجنّة اللّوز.
يتأمّلكم .. يزداد ظمأ !
ثمّ لا شيء آخر. أعواما ممطرة،
قال لأصداف وردته وريحا صديقة ضمّتنا ألف عام. ثمّ لا شيء آخر سوى الأسئلة واللّوالب
التي يطرحها كلّ صباح، بغباء عال، على الشجر الرّابض في أعماقه. الوردة مصلوبة أبدا
والماء حركة الصّلب.غباؤه الذّهب. الإيقاع الذي يتبوّل فوق الجدران ويغيظ الأشجار الدّائريّة
بلسانه الأحمر الممدود. ينام على أعشاب خضراء ألّفها في البحر. يضع قدميه أوّل كلّ
فجر في ندى الرّغبات السّمر. غباؤه الذّهب ينام في أسرّة غيم لا يدركها، ثمّ يتركها
جثثا خضراء في الرّيح. غباؤه ما أبصر من كثرة
اللّيل :
* « الجماجم الخضراء التي توسّدها
في حفر يغمرها الثّلج» (1).
* اليد البيضاء الخفيفة العاملةُ
في وردتها .
* البحر المحروق والسّفن المتعفّنة
التي تركها رجال البحر الطيّبون. فأيّ العطايا تجعله «فخورا بأن لا بلد له ولا أصدقاء
».(2)
كلّ ما ضاع أخذ كلّ شيء. لم يترك
له سوى يديه لأنّهما لا تحتاجان إلى أن يضمّهما أحد. من تركه للأمطار وحيدا هو من الموتى.
لم يكن مُضاء بالوردة، لم يكن حالما باللّوز مشتعلا في الغياب، و لم يكن حبيبا لأعشاب
«الواقع». لن يجعل لمدن قاحلة شواطئَ .. في الجهة الأخرى بإمكان الشاعر أن يكون الشاطئَ
الوحيدَ للمدن. يصلها برائحة الوردة فقط. بإمكان مدن دون بحر أو شمس أن تكون بحريّة
إلى أبعد حدّ يراه.
يتأمّلكم ... هو غباؤكم !... ثمّ
لا شيء آخر.
- الصّوت : أفاعيل اللّيل الأزرق
فيه.
- الضّحكة : عماء الشّاعر على
تلال النّهار.
- الرّقصة : أشجار اللّوز البيضاء
تتحابّ مصلوبة في أعماقه.
- اللّغة : وحل مضيء وشمس قديمة
تتفتّح في الغبار.
- النّهار : ليل أبيض له شفاه
كثيرة.
- الصّباح : نجمة لها ريح ليّنة
وريش ملكيّ يتعانق في الهواء.
- الوردة : لذّة لا عقاب لها.
- الشجرة : يد بحريّة مغتبطة وأسنان ظامئة.
ثمّ لا شيء آخر سوى ماء الغرابة.
لا شيء سوى الوردة ذاتها، في إثمها الكامل.
لا شيء سوى الشعر والشاعر. يأتيان
المياه لتتلاشى فكرة الموت الحزينة.
يمسح أحزانه في الرّيح، لتبقى
اللّوعة في الأعشاش، ليبقى هذا الإحساس بالسّموّ، ليبقى الإحساس بالمياه المحكومة بأنظمة
جديدة، وحركات عجيبة لا حصر لها، تلك فكرة الوردة المضيئة المرهِقَةِ ولا شيء آخر.
- الوردة إذًا، «لا شمسُ مرّة
ولا قمرُ بغيض» .(3)
- الوردة سديم.
- الوردة «لاَتعريفٌ».
تتأمّلكم ...تُكْمِلُ وحشة التّراب
!
-------------------------
(1) الشاعر ميلاد فائزة.
(2 و3) الشّاعر « آرثور رمبو».
إقـامـة
الــوردة
إقامـة البـرتقال
(إلى صديقي الأستاذ محمّد بن رمضان
)
كلّ شيء قديم هنا : الشّمس، الوحل
الذّهبي ودموع الفضّة والغبار.
كلّ شيء هنا واضح جدّا حتى الحروف
الضّائعة للشاعر والوردة.
* *
لم يفعل شيئا هذا اليوم سوى ما
منحه للطّرقات من لَيَالِكَ. لم يفعل شيئا سوى ما أكله من زجاج بشفاه لم يرها. هنا،
لا معجزة سوى ما تتهامس به نباتات البحر الرّاجفة من أثر الريح. هنا أيضا يقف طويلا
في النباتات نفسها عمود ضوء أو ينبوعا أو خدشا صغيرا في وجه بنت.
لم ير هذا اليوم سوى ضحكات الدّم
في الأسفل، تحت النّافذة. النافذة لم تمنح نفسها، لكنّ ظلّ الشّجرة الواقف أهلك كلّ
الأزرق الذي تحياه الشّجرة وهي تتقدّم. أهلك كلّ مرئيّ في النافذة وهي لا تتقدّم. النافذة
تمنح نفسها الآن !
* *
عاد الشّاعر إلى مدينة لا يعرفها
و أصابعه مأخوذة بتيّار الوردة العالي، بضجيج
الأعشاب وهسيس جدران اللّيل. لم يفعل شيئا
سوى ما أعطاه من ظلّ وما جعله يطلّ على فضّة مالحة.
هنا موت الفضّة التي لاتطلب أن
نفهمها. تطلب أن نغرق فيها ولا نرى أجراسا ورنينا، أنغاما وضجيجا عفنًا في الأعالي.
الشوارع كثيرة والنّساء الشّماليّات والجنوبيّات قصيرات الطّرف، ولا شيء آخر سوى هذا
الحليب المسموم، سوى ما يَخرج من بِركة. الشعراء كثيرون لكنّ الكذبات الرّخوةَ قليلةٌ.
الشعراء هنا بلا كذبات !... حتّى بنايات الوردة لم تعد عالية. كلّها تصاغرت. أكلتها
رائحة ما. أكلتها الوردة الخارجة توّا من الكآبات المضيئة وأعمال البحر الأولى. تلك
أفخاذ لا دماء لها وهذي العراءات لها دماء الثعابين الملتصقة بالأرض أكثر من أيّ زمن مضى.
لم يفعل شيئا هذا اليوم سوى ما
خبّأه من برتقال. لم يكتب شيئا سوى ما لم يره، سوى مالم يعرفه ولم يذهب أبعد من ذلك
أيضا .
* *
لم يفعل شيئا في خضّم اللّيل
!
أيّتها الوردة الشّقية، يا من
كسرت النّشيد وطواحين ريح الصّحراء. أيّتها الهجرة المستمرّة لنشيد الدّود والعظام
والأعشاب الصفراء، أيّتها الدّابة الحرون. أيّتها المثاقيل !
في الصّباحات وآنية الزهر وأجراس
الوردة ونجمة أكتوبر لم ير أحلى من يرقات مزروعة في محميّات اللّذّة والألم، يرقات تأتي من مكان بعيد، تزيل
الأحجار من الطرق وتنتقم من وجوهها في سعادة. تصنع مرآة في الجهة الأخرى، وَهْمًا وحافزا.
هكذا، هكذا .. إلى أن تنكسر الوردة وتظلّ الرّائحة معلّقة في الهواء مثل مناديل عذارى.
هكذا يذهب الغسيل و تبقى مرآته ولوالبه. يأتي من مكان أبعد من ذلك النور الذي ترونه
ولا ترونه أبعد من شجرة، أبعد من وردة بيضاء في ليل طويل، وأبعد من التّوابيت الصّفراء.
* *
إجمالا, لم تكن الوردة برنامجا
غبيّا. كانت إنجازا، استحماما في العطر على أسرّة بيضاء ناريّة ذوات أسنان محميّة في
الغابات. الأسنان لها صرير أيّتها الآثام، أيتها الآنية الشمطاء المكسورة من أثر لذّة
الينابيع. أيتها الإقامة في الجحيم. لم تعد ثعابين الحروف تسكن بطنه وحده. صارت بملايين
النوافذ، بملايين السيقان الصّغيرة في كلّ طريق. لم يفعل شيئا هذا اليوم سوى ما جمعه
من برتقال في إقامته الصّغيرة. لم يفعل شيئا سوى ما كدّسه من المسامير واللّوالب والمفاتيح
والأعشاش وسيقان العصافير البيضاء ...
الوردة في شمسها..
و هـم يـجيئـون بمـسلاّتهـم
وقعت في الأطواق، فيما لاينقال.
هي جناحان يطيران حيث الأكوام. وهو يذهب فيها أنّى ذهبت. يأتيها الشاعر ليطربها ويحرّكها
دوما بمسمار. يحرّكها لتكون أشعّة في الأقاليم. رؤاه أجنحة ووردته في عيون البحر. عصافير
أحلامه متوقّدة في الأمطار، أعمال تتكلّم وهو صغير يديها. روحه آهة حذائها في الطريق
وقدماه الشروط العمياء الضّائعة في الصّباح. سنابله الأشواق الفظيعة وكفّه نجمةبحجم
الأرض صغارها أهلّة مليئة بالضّحك وسواعد مفتولة بضوء حبّات الزّيتون. كثافَةُ النّدى
ونغماته إقامة روحها في المياه. نبضه هواؤها وساعات وحدتها أسنان حروفه. رؤاه تعضّ
المجاهل بأسنان المتاهة والوردة حرب النّجوم الصّغيرة فيما بينها. الوردة كتاب السّيرة
النّفسيّة لتلك الحرب. دجاهُ عالية ونهاره هنا – كما هو - بمذاقاته الأولى، بخطفة أصابعه.
تلك لهفته وتلك الأرض صدفته الثمينة، حرقته التي لم يعهدها. لتكن سنابله متناثرة إذا،
ولْيَقْطع ذيل الحصان لأجل عيون أحرقت البحر على آخره ورصّعته بالنجوم.الوردة صُدْفته
الرائعة، الشجرة الحنون التي جعلها أمّا للحمه ودمه وعظامه ومائه المليء بقطع الحلوى
وبطاقات الرّيح الزرقاء وملاعق الحياة. الأرض بلواه، فلتضئ نجمتها على الأشجار المظلمة
في الغابة.
وليكن بهاء النّجمة صهاريج ماء.
ولتكن أغصان النّجمة حروفا في الظّلام، «سلوكا طليقا كندف الثلج وكلماتٍ بسيطةً كالعشب»(1)المرميّ
بالذّهب والغبطة والندى. لست سوى ضحكاتها.لست سوى أزمنتها وأمكنتها. لست سوى أمشاطها،وأخلاطها
الهشّة ومراياها المحدّبة. لست سوى ما تملكه أناملها. تفتح موتك لتعثر على دمعتين مضيئتين
تغرّد لهما الأمواج .
هو الشاعر أخيرا : دماؤه اللّوز
المسحوق بسيقان الشّمس ودجاه الوردة الملقاة في القاع، في الشرفات الخضراء. إيقاع حياته
المتسارع دمه والأقاليم خيوطها على المجاري والأودية والأنهار. الموج أشواق وردته المشروخة
ببرق عذب. الغامض الذي ينقذ من موت لا يُدرك، البرق ما لا يخيفه أبدا. وهو ما يخافه
على الآخرين. وما يحرقه في الأصل حضورها : «المشيئات التي على عجل والمكان والحظوظ
والأبديّة، التي كلّها على عجل»(2). هو غزالتها في الشجر الماشي في الحانات : الكتابة
والقراءة والمشي على حرير البشريّات العمياء. هو ابتسامتها القاسية المسمّاة فردوسا.
* *
أعماله البحريّة الأولى: يده ونجماته
وأنسجة الوردة التي تنفجر بعد أزمنة، بعيدا ... هناك حيث أصابع اليد المقطوعة. أعماله
بروق معلّقة وأنسجة مياه ومرآته حجل الكلمات. عيناه نجمتان في النّهار. الوردة التي
ذهبت فيه. سكرته الوردة العالية، موجة عشّاق يموؤون تحت الجدران كلّ مساء.
ستسأل موجَتَك الوردة التي تملك
ألوانها وتتقاطر بغباء كلّ صباح. ستقرأ موجَتك العصافيرُالمتوقّدة في اللّيل والنيران
التي تخفي وراءها الكثير من الظّلال، الكثير من «الموتى المدفونين في العراءات»(3).
ولا شيء آخر. كذا صوت ظلمة الغابة التي أمكن أن يكون لها صوتٌ. وكذا اللّوعة الملفوفة
في كأس بارد. كذا صار للظّلمة صوت يراه العشّاق.
الشعراء الذين يسقطون واحدا أثر
واحد والمومياءات التي تموت في الظلال الكائنة فيما أسماه الشاعر اختلافا وفيما سمّته
العراءات الائتلاف الوحيد الذي يمكنه الذّهاب إلى ماء الوردة، إلى الانفتاح في كلّ
شيء : النسيج والحرقة وما شابه ذلك. الوردة موجة عشّاق يموتون أو يموؤون بلا سبب في
كلّ مكان ...
---------------------------
(1) والت وايتمان.
(2) ديريك والكوت.
(3) أوديسيوس إليتيس.
أمـطـارهـا
جاءها شاعرا ليمنحها مدلولاتٍ
أليفةً. مرّبها فرآها حارقة وهو في «شمس العالم». الوردة كيان هشّ ممتدّ في الفجر وكتاب مثلوم. كيان أثير تعمل به وتمتصّ
كلّ شيء : الشّمس، الفضة، الملح والرائحة. الوردة إذًا إمكان مختلف للموت ورتق للأحلام
الصّغرى وذهاب فريد إلى الأصقاع لإشعالها بالآلة العمياء والبرق ولثمة الحروف. إمكان
ممزّق في أوّله وآخره. الوردة لا بحر ولا صحراء. تحيا مكلومة الرّؤى كلّ صباح، تماما
مثل بلاد أخرى نعرفها ولا نملك اسمها. نملك الوقوع في سلطتها، في عيونها الواسعة الجميلة
وفي الرّقصات على وجهها. في الصّباحات الطويلة الملقاة على الأرصفة بعناية كانت الوردة
تملك حياتها القلقة بتكثّفها الخالق وإطباق شفاهها المالحة على كلّ شيء. حبّات القمح
الغضّة على صدر الشاعر وصلصال حروفه .. تلك الرائعة تعوي من الوهم لتغرق الأرض بالأمطار.
تلك الكاملة بالنّقصان وكشف العراءات وإطلاق أسئلة النّور في الأوحال.
الوردة حركة الأرض الشيّقة وعمل
البدء واختلاف أصابع اللّيل والنّهار بانقسامها إلى أكثر من ذرّة. تلك الحيّة في المعارك
وفي الأشعار الزرقاء. في المياه تحديدا. ريحها المحبّات الصّغيرة وأغوارها طفل بعيد.
تلك المسؤولة عن الوردة بطرائق إقامتها في الأرض وإحداثها رواجا شديدا للرؤى. تشوّقها
بكر ولغتها سرّيّة لا تبالي بأشجار الغابة حين يُرى العالم أشباحا لا يقين لها. نبع
آخر ينقل الواقع اللاّ مرئي إلى مجال النّدى.
تحيا الأسماء والأفعال والحروف
والأشواق الصّغيرة. عواء يمشي(هي). فلم تكن ضالّة عندما رأت ذاتها فزّاعة للطّيور فتقدّمت
حافية على رمال ليل طويل. لم تخف. أكلت نهارها بيديها ولم تنتظر أحدا من المغنّين
! الغصن الذّهبيّ هي والوحل الرّائع يتلألأ في الدّجى. حتّى خوفها على الثّعبان الرابض
داخلها تأتّى من شعورها الحادّ بالموت وعجزها عن أخذ النّار من ندف الثلج المتطاير
ومن رؤوس الأشجار ..
* *
الوردة سحْق أشجار الغابة غريزيا،
واحدة واحدة، أحلام صغيرة وكبيرة، أصل وهامش، عندما تعرج على النجوم تضاء. هي سرّ الإناء
القديم المرتجف في برد الصّباحات. الوردة غريزة.
رغباتها هشاشة اللّوز وتأبيد الحبّ
وتمجيد العمل الأوّل و«اليد البيضاء المشعّة»(1) لشيء يونانيّ.
أرضها الأصنام المكسورة تؤول إلى
أجساد مائيّة وناريّة تتوحّش في البروق الواضحة جدّا في البحر. بلاغات روحها أصل الشعر
وأصل الجحيم الذي قيل في البحر في شكل ضحكات عمياء، أو زُهَيْرات برّيّة أو عساليج
ضوء. رغباتها أصل الحزن وأصل تخليص الشعر من مآزقه ومآثره. وجهها القمريّ المدهوش بما
حدث ليلة قتل الغربان، أصل تخليص الشعر من أدرانه. الوردة طين يتشقّق، إيقاعات تتصارع،
تنهش ظهور أحصنة ما، بل إنّ شيئا من ماء الكتابة يدقّ في حجرتها. هي الجميلة المسعورة
التي فجّرت النّهر ونثرت شمس فتنته في الطريق. هي ببساطة الوردة التي تحدث في الأعالي
ثمّ تتساقط قبلات أو ضحكات أو رقصات فوق الأشجار !
------------------------
(1) الشاعر اليونانيّ إيليتيس
صاحب العمل الشعريّ «له المجد».
تعريب الشاعر العراقي شاكر لعيبي.
قـيـامـات صـغـيـرة
مشهد قيامة يوميّ :
- تكميم الأحلام الصّغيرة بالمشابك
والمشارط وأمشاط العاج.
- إحراج الجهات التي هي من شأننا.
- سقوطنا في الوردة المحدّبة والاشتغال
على الرّخام.
- المادّة الرّماديّة اللّزجة
التي نبحث لها عن أنياب.
* *
مشهد إحراجات داخل الكلمات وصورتها
في المياه :
- النّقطة التائهة التي سقط من
تحتها حرف النّون عاريًا.
- الأسماك التي تعجَبُ من كونها
لم تمت.
- اليد ذات الأصابع الخفيفة مثل
كهرباء وردة مَّا.
- النّهود المدقوقة في خشبة قديمة.
- الإثم المعدنيّ يرتطم بجدران
غناء بيضاء.
* *
استماتات مصاحبة للمشهد الأوّل
:
- برقيّات وصلوات صغيرة نتبادلها.
- دم وردة ملقى في الطرقات.
- أصوات عارية تقرأ أبوابنا.
- أصوات نفتح لها.
- أصوات لا نفتح لها.
* *
مفقودات مصاحبة للبحث المحموم
في المشهد الثاني :
- القبض على الأصوات والنّوم فيها.
- الخطايا الصّغيرة، تلك هي النّجمة
الأهمّ من الأصابع.
- بنات الرّيح نتركهنّ لمن يشبهنا
أو لا نشبهه في كلّ شيء.
- مجْد وردة في أفواه الثعابين.
- مجْد أياد تَقتل باللّمسة الحانية.
- مجْد وردة بحريّة تذهب بالأبصار
تحت المطر والرّعد والصّاعقة.
- أبواب لم تطرقها يد منذ ألف
عام في الجبال.
- أبراج ملح قديمة وأكياس ثقيلة
على ظهر حصان.
- بنْيات مهشّمة وشكل مومياءات
ترى كلّ شيء تقريبا.
- نقاط ومياه وبريد عظام مسحور
في كلّ قيامة...
أطـلـس الـوردة
ألْف عام تدقّ النجوم مساميرها.
لم يكن خطأ مجيء الوردة إلى الجبال التي يطلّ عليها البحر والشمس هازئين بالشجر والأقمار
الضّائعة في شرفات الحكي. بعد علوّ البحر مرارا، تفتّحت الوردة في متاهتها تلك.. ثمّ
كان كلّ شيء. قالت لي الأشجار التي ليس لها
نور خارج حروفها المنسيّة: جلس الشاعرفي آخرة اللّيل وحيدا، على أصابعه البيضاء تلك،
يرقب الغابة المحترقة والوردة البيضاء الخارجة من الرّماد! قالت في أبهى الأشكال وأحلى
الأصوات : ليكن جحيما كلّ طيف أشعلته في المياه. كذا كان صراخ أطرافها الأوّل في كلّ
فجر ضاحك متشرّد.
أيّتها الوردة ما أعلاك، قطعت
الحريقَ القديمَ بأكمله وها أنت تجلسين في رغبة مفتوحة على ريح زرقاء، على معارك صغيرة
جدّا في بطاقات البريد والبرقيّات والرّسائل، على الصّداقات الخالصة المجروحة بالغيم.
تجلسين على محبّات غضّة أبديّة، على نُدف ثلج مشعلة في الأعماق، على نار بدائيّة مُشعلة
في أكوام صفراء !
نامي هانئة. نامي أيّتها الوردة
الملعونة أبدا في المياه، في طين الأطلس الرّائع الذي وهبك غزالة الضّوء ومرجان القفز
في الرّيح. لم يكن الأطلس حزينا أبدا بل ضيّعته المياه الغريبة التي ظلّت شاردة ألف
عام. لم يكن الأطلس مثل أيّ حريق. كان يصهل في الدّجى كي يعود إلى الوردة بلا أيد أوأجنحة،
كي يعود من أجل نيران تتحقّق يوميّا في السّاحات وأفئدة الأشجار .. هكذا، في السّاعات
الأولى لا يرى الآخرون الشعراء، بل يكتفون بمشاهدة بقع حمراء في مؤخّرات سراويلهم.
حتّى الليل الذي جاء أيّها الشعراء كان أعمى بلا أطراف، مثقلا بالغياب ومحمّلا بألواح
قديمة. الغابة كانت عالية، أمّا الوردة فقد كانت تفتح البحر على الجبال لتثقلها بالحروف
والمياه والأعمال والمسلاّت .. الوردة فقط كانت عالية .. عالية جدّا.
* *
كان الأطلس شاعرا، كان مُلخّص
ما لم ُيقل من ملح ومعدن على جدران عالية، ما لم يُقَلْ من حُبَيْبَاتِ الكريستال ودم
الرّيح ومسك الغزال التي لا تُحصى مشاعرها الصّغيرة وأضغاثها. كان ملخّصَ وقع كعبيْ
حذائها في المنام ووقع نجومها : تلك الوردة التي لا تُشدّ !
هو الأطلس يهوي على اللّيل بصدر
مليء بالقمح وبحلمات مضيئة لا شكل لها. شكلها الوردة، الصّدف، البخور والتّفاح النّائم
(تحت، فوق، أسفل، أعلى، أمام، خلف، خلال، جانب ...) في الشعر أصلا.
كان لوقوعها معنى آخر غير السّيف
.. غير البيداء والخيام.كان لإيقاع ذلك كلّه ارتطام نهود خضراء على الطريق، كان لتلك
الإيقاعات معنى آخر غير تطاول نخل في فراغ مقيت.. فليتحمّل أطلس هذا القرن كلّ الرّيح
في أنّ الوردة لم تلتبس في البحر ولم تُشَْكِلْ على أصابع الغيم والأشجار .. تتأصّل
في البحور الألف التي خُلِقَتْ لأجل أصابعها، لهذه الفتحة الحادّة في هدوء ظلال الأشجار،
في المشي قراءة وكتابة، خضوعا واستبدادا في كلّ شيء ممّا عرفه الأطلس وممّا لم يعرفه.
الوردة الملقاة بشغف في الصّباح،
تعرفها الأنهار، أشجار اللّيل تحت الأسوار العالية الضّخمة المبنيّة بجلبة ما. الأشجار
السرّانيّة المترافقة في الصّباح، المتآلفة في المساء تحت الرّماد، رماد الغابة المليئة
بالقطعان والزّواحف، رماد السّفن التي أحرقتها الوردة في البحر و صلبتها هناك.
كان لها أيضا معنى آخر يشبه عسل
امرأة أحبّت رجالا كثيرين فتحوا سراويلهم بغلظة كبيرة، شيئا آخر يشبه قصب السكّر و
خمرة «البنقا» في ليل الهنود الحمر. شيئا يشبه «سلطة الجميلات النّائمات»(1) في غرف
يابانيّة. كذا تكلّمت الوردة شعرا ولم تكن لتقوله قَطّ. كذا أيضا وهبتْ كلّ أسماك
«المتوسّط» وأعطت منها ما شاءت لمن كانوا في الأحراش والغابات.
ولم تُجْرِ الفُلْكَ بل انزلقت
في زوارق صغيرة صنعتها من ورق الأرواح، انزلقت على ألف قطرة مطر خالصة إلى حبيباتها
وصديقاتها وأمّهاتها وزوجاتها وعشيقاتها وصباياها المقتولات بعضّات اللّيل وحليب السنوات
الأولى.
انزلقت في كلّ شيء، في كَسِرَ
الزجاج التي رأتها صباحات في الوحْل الرّائع.
أعطت منها بُراز القطط الذّهبيَّ
الممزوجَ بالمياه فوق أعشاب خضراء أوّل يوم شتويّ !
* *
كلمات الشاعر كانت وهْما ورذاذا
.. والأمطار الحبلى لم تكن مطلقا في أمكنة أخرى. كانت هنا على ساعد وردة ظامئة إلى
كلّ شيء، إلى ما يتنفّس به العشب وما تدفأ به آنية زهر مرتجفة. ضحكة عصفور صباحيّ مبتلّ.
كانت هنا وكفى. كلمات الشّاعر كانت لعنة وإمكانا آخر للموت بلا ذيل نشيد أو ردف غناء.
لا نكره الأشجار لأنّها تتحوّل إلى أصوات أو رقصات
أو حروف أو إيقاعات. لا نكره الأشجار لأنّها تضيع مثلنا في الفجر وتتحوّل إلى خزامى
أو نعناع أو شعراء يحملون دماءهم الفضّيّة ويدخلون جحيم المياه وسلطة الطّحالب. يتحوّلون
في اللّيل إلى ذهب بفعل السّرطانات. لا نكره الأشجار لأنّها تتحوّل إلى شعراء يشعلون
الثلج ويهرّبون النّساء والحليّ إلى لذّتها الأولى في كلّ غارة أو زحف لعلّه الزحف
الذي يأخذ هيئة الثعابين .. أمّا الأمكنة فيضعون مكانها تماثيل تطير، ويهربون –هم أنفسهم–
حروفا تتقافز في البحر مثل ديدان...أعناقهم لا ترى...ليس ثمّة سوى تلك الصّلبان المشعّة
التي تتكسّر مثل عظام صغيرة إمكانا آخر لطقطقة
عظام في نيران الحكي.
أيّتها الوردة المائلة إلى لون
لا تعرفه كُنْت صباحات تأتي واضعةً أياديها على رؤوسها مثل شيعيّ يرقص في دمائه ، تحت
الأمطار و البرق و الرّعد.
* *
كان الأطلس : التفكير الأصيل بالحياة
وعمل أمشاط النّسيان يتحمّل الوردة في ثقافتها
وروحه مسيحيّة حدّ الموت.
* *
لا يلذّ للوردة سوى الإقامة في
«جراحاتها ومداراتها»(2) الغضّة. لا يلذّ لها سوى أن تشرب الرّعب والأضواء من غيمات
مختلفة.
- هل كنت هنا أيّتها الوردة !؟
- ما أثقلكم!
- تترحّلين فقط لمعرفة أنّنا الكائنات
الوحيدة التي تستمدّين منها الحياة أو اللّعنة لا فرق .. لا فرق إذًا بين الغيوم وأصابعنا
!
( ... ) هكذا أورق الأطلس في كلّ
شيء، في وردة لا تُسْتَطَاعُ وفي دهشة مذبوحة باللاّ مكان ونار الأشياء الواضحة. الأطلس
طيران خاصّ، مياه لا تُقْبَضُ، إيغال في الأشياء والأسماء. الأطلس يلوّح بذهب الوردة
ويتحمّلها آخرة اللّيل. يذهب مغتبطا مصهودا برحيقها، يدا صنعت قمحا وزوارقَ لأطفال
صغار. يناديهم الأطلس أحيانا : الأطفال الزّرقُ.
كلّ الطرقات تؤدي الى آنية مترعة
بالدّم والينابيع، هنا أو هناك، فأطلقي الأجنحة أيّتها الوردة يا عصافير أطلس هذا
«العالم». الأيّام، الأوهام والإيقاعات، كلّها عواؤكِ الحقيقيُّ الاستعاريّ أيضا وامتيازكِ
الوحيدُ... ولا شيء بعد ذلك يستحقّ الاهتمام سوى أحلام الموتى المسكونة بالشجر الاجتماعيّ
ورماد الكهنة أعلى الجبال.
* *
الأيّام : فصوص غواية وأجنحة ماء
تحيا في الجبال. نصوص ملعونة تعرف مخابئها جيّدا وتدرك صباحاتها بلا عناء أو معجزة.
نمتلئ بها، بحرائقها، بشمع أحزان الموتى الذّائب فيها. نملأ آبار اللّذة منها، نفرغها
من مياهها الجمّة، نأكل عصافيرها الصّغيرة ونقط الضّوء في أجنحتها. نحوّل مياهها إلى
كسورثمّ نصلها بمياه الوردة ورصاص الإيقاع.
الأحلام : الصّباحات التي نحبّها
ونخاف أو لا نخاف. الأصوات الزرقاء والبيضاء والحمراء. الوردة والمتاهة ودروب الصّباحات.
موت الكثير من الأوهام وموت الكثير
من أشجار الغابة. تَحوُّل كلّ مكان إلى أجنحة تخبط. سعادات أخرى يُستعاد بها حليب الأعشاب،
النّدى وانتفاضة العصافير بعد سقوط المطر وانكسار الأعشاش.
الأوهام : ما تُنسى أقدامُه على الرّمال. حدوات أحصنة
لم تحضر أبدا. خطايا وردة الأطلس تتنزّه في البحيرات الصّغرى ونجمات تزحف لتموت في
حركاتها الأصيلة –هنا– في الأرض المصلوبة وهشاشة الأعالي المنحوسة. الأرض الملأى باللّبن
(أجراس اللّذة ووردة البحر). نحاس الغياب وضجيج المعادن. الأفواه المختومة بالشّمع
السّاخن، الغابة وغرور الدّخان. أنفاس العصافير ووحشة الأجنحة. إيراق دم الأشجاربعنف
وسفائن سكرى. ملح نشيد محروق وذيل حصان مقطوع بعناية.
الإيقاعات : الشّمس التي هي إضاءة ليل الوردة، سرّ
بقائها، سرّ أسمائها وأشيائها. الشمس التي تحتاج إلى طفولتها وفكّ ضفائرها. نصيدُ عصافيرها،
نسمع سقوطَها في قلوب العشّاق والأطفال والصّبايا. نأكل بشراهةِ كِلاَبٍ، دقّات كعوبها
على أرصفة اللّيل. الشمس التي أخذت من البحر ضوءا حبيبا، أخذتْ دم وردة الأطلس بلا
إشفاق وأشعلت ثلج أصابعه فوق الصّخور. وبأصابعنا ونغم أرواحنا الممزوج بنغم أرواح الموتى
أذهبْنا آهات فضّتها وغبنا في دمها أعواما. ثمّ عدنا والرّعد لمّا يدخلْ حجرتها وطيّرنا
عصافير الشوق وكدّسنا حروف النّسيان وأمشاط اللّوعة فوق الأعشاب !
الشمس وردة تورق في الضّحى، أقمار تُقال بغموض أشدّ
وضوحا من حرقة صيف متوسّطي، الشّمس حبّات قمح في أجسادنا وأياد بيضاء أعلى من شجر النّسيان.
* *
.. كذا – أيضا – كان الأطلس الغريب
«يغنّي لصديقته كما يتنفّس العصفور وكما يخرّ الماء»(3). كذا – سوف ترى أيّها الشاعر
الوغد – مذبحة الريح في الأعشاش ولوعة الجدائل البسيطة من أثر تساقطها فوق الأرض. كذا
أيّتها الأمطار اللّعينة !
الأطلس مُحْتَرق وروحه مبلّلة
من أوّلها إلى آخرها. ضحكاته ندفات ثلج عمياء على الصّخور. صوته مذبحة أمطار في صباحات
ما. وردته شفاه أشجار تتكلّم بطلاقة قرونًا كاملةً. آنية زهرة مترعة بالدّم والينابيع،
مشعلة في المياه.
الأطلس جحيم حروف وأمتعةُ صلصالٍ
:
- شعريّات لا حصر لها.
- وردة وحشيّة جارحة مجروحة.
- وردة تحياها الأمطار وهي تحترق
في غبطة.
- نيران يحياها مَنْ كَسَرَ أعشاشا
في الريح.
الأطلس وردة (دمُها الشّاعر )
تشتغل بلا إشفاق ..
وستعرف الرّيح في أيّ بحر غمسنا أصابعها. ستعرف الدّجى
في أيّ مركب سقطت الرّيح.
ستدرك الشمس العمياء التي تتزاحم
في المياه الخلفيّة والأماميّة سرّ مداعبة الجبال لها.
سترى الجبال أوتارا شيّقة في الصّباح
ووردة ثلج في الأصابع. سترى سرّ مداعبة النّسور لها ..
هكذا، خذوا شيئا من أعواد الكبريت
.. طق، طق، طق ..
----------------------------
(1)الروائي الياباني «ياسوناري
كاواباتا».
(2) الشاعر والمفكر التونسي «سليم
دولة».
(3) الشاعر الفرنسيّ «ستيفان مالاّرميه».
وردة الخوف
[ خوف الوردة من التطابق ]
الوردة خمرة صامتة، طيّات وانثناءات.
زُهيْرات روحها تزيد من جوع نجمتها في الطريق الطويل.
دوما – أو هكذا يبدو لها كلّ مرّة
– ثمّة اندلاق واسع لحنق الكبريت وتقافز أعواده السّمكيّة.
ثمّة انتشار مُؤْذٍ للحرائق. كذا رأيت أحشاءها المائيّة صاخبة بالدّم
والفجيعة. كذا تتناثر الأشياء في الغابة وكذا تكون خطوات الرّيح.
هبّي أيّتها الضحكات العمياء وتفجّري
نبعا نبعا أيّتها الأعشاش. اسّاقطي أيّتها النجوم في الطّرقات : ماء، حجلا، وردات وعساليج
ضوء أو أنفاس عجوز مطهّمة في العشرين !
السّماوات السّافلة تشعل القلب
والدّوائر الخلفيّة للوردة تغمر ألف بحر بالبلوى، بالغواية والغرابة. تسربلها بالمياه
الجمّة والثلوج الحمراء التي تهمي في خطوات الشّاعر.
شفاهه القديمة احترقت في الثلج
وفي اللاّ مرئيّ الأزرق. في مياه الشّمس : حارّة وباردة ودافئة. شفاهه القديمة احترقت
في الأعشاب البسيطة و« العالم » لمّا يتخضّب بحنّاء الوردة .. تلك التي حُمِّلْتُهَا
وحدي في ألف جهة، تلك أفاعيل اللّيل الزّرقاء وأصابع الإثم، تلك وردتي، وهْم الحضور
الممتلئ الذي ثبّتّه في الجبال منذ آلاف العصور. تلك الأنهار الأولى، الثعابين التي
أسميتموها الخوف !
متى نخاف !؟
... في الصباحات المقطوعة من ضوء
حَرْقِ الغابات، عندما يأكل الآخرون كلماتنا ويبدؤون في التهام غبائنا. نخاف عندما
تنقبض وجوههم وأصابعهم في الصّباحات. في الصّباحات أيضا أكلّم وجه الشاعر:
- هم أنفسهم .. هم موتى.
- هم أقرب إلى الشاعر من الآخرين.
- أَمْعِنْ في قتل الموتى ولا
تتردّد.
كذا كلّمته. نخاف عندما نخرج عراة
بلا شجر أو أوراق، عندما تهمي صباحات الضّجيج العالي أمام القرّاء. نخاف عندما نرقص
مع الذّئاب ولا نرى دما أزرق فوق الثلوج. فلتحترق وردة الأطلس، لوثة الجسد والرّوح،
لوثة الدّم الأزرق في المعارك. نخاف عندما يموت الكثيرون ولا نرى رصاصا. نخاف «العاصمة
التّونسيّة» في المساء المليء بالزّقزقات في الشارع الرّئيسيّ حيث ألفة العصافير في
الأعلى.
العصافير مجروحة من هشاشة السّماء
وأحجار النّاس تغتبط. العصافير جارحة السّماء. نخاف العاصمة القاحلة وقد جئناها من
مدن ورؤوس بحريّة إلى الأبد. نخاف أصدقاء يقبّلوننا تهنئة بالعام الجديد فقط. نخاف
قُبَل العشيقات السّامّةَ التي لا ترحم سوى في النّيران.
ثمّ ماذا ! ؟
أين نخاف ! ؟
في أثر الوردة وغرابتها، في الأثر
واللّعبة وملائكيّة النّساء. في داخلها، في آخرها، في الغريب عنها (الذي هو منها)،
في آلامها المزروعة في الظّلماء تحت الأشجار والجدران اللّعينة. نخاف في أسرّتنا البيضاء،
في الشارع والشجر حزين لا يتكلّم. نخاف من عيون كثيرة على الطاولات، ومن عيون لا ترانا.
نخاف من نساء لا يهتممن كثيرا بالنّسيان. نخاف من رجال يأكلون الموتى ولا يأكلون ندف
الثلج وأغصان الشمس وأصابع الوردة على أعتاب الرّوح والجسد. نخاف في أمكنة موت متهالكة
وفي غرف مليئة بالفئران والحشرات، نخاف في رسائل كثيرة لا تصل أبدا، يغدر بها قرص الشّمس
وقرصان مراكب الرّيح، تمزّقها الزّواحف شماتة.نخاف في متعاليات كثيرة فضفاضة ومليئة
بالأوهام مثل كلمة« العالم ». نخاف المراحيض التي دخلتها قبلنا نساء كثيرات .. حتّى
ونحن في المراحيض نخاف. من لسعة الأمطارفوق السّقوف ومن اهتزاز أوراق اللّيل. نخاف
بقايا السّجائر على الطّاولات، في الأرض ونحن نمشي بأحذية سكرى، في الحافلات والقطارات
الصّغيرة الخضراء ونحن بلا جيوب. نخاف ولا ضوء بأيدينا سوى مجلاّت قديمة تآكلت في النّسيان،
نخاف ولا شيء بأيدينا سوى أحلام لم نعدْ نرى لها أثرا. دود المعرفة خافت الضّوء والوردة
مريضة محمومة. نخاف و لا شيء آخر بأيدينا سوى رسائل إلى أصدقاء بعيدين يخونوننا مع
شروط الحياة الضّائعة خيانة بلا طعم. تبدو الوردة يقظة حادّة وليست تقنيّة، كشفا وليست
تنبيها، تسآلا وليست إجابة أو حوارا. تبدو غزلا. ثَمَّ حريق كامل بين صوتها وأثرها.
ثمّ ماذا ؟
كيف نخاف ! ؟
.. لا نعلم كيف كنّا نخاف، هذا
ما لم نتعلّمه أبدا. ما تعلّمناه الغباء، الغباء الضّارب في أصقاع الجسد والرّوح. ما
نعلمه فقط هو فعل الخوف فينا. رائحة الوردة فقط، تنافرها في مواجهة الأجراس والنواقيس
والأصوات. انتقال فراشات محدّبة إلى كتاب بغايا وانتقال أشجار بحريّة إلى كتاب نجوم
..
ثمّ ماذا !؟
لماذا نخاف ! ؟
- نخاف لأنّنا بلا كثرة أو مجانين.
- نخاف أن تكون قصائدنا بلا ذبذبات.
- نخاف أن تكون السّماء زرقاء
حقّا مثل مجد «إيليتيس»(1)، أن تكون حبيباتنا آكلة أكولة مثل إشراقات «رامبو»(2)مثل
خفّة يد «سعدي يوسف» (3) أو لطمة «أدونيس» (4)!
- أن تكون «الوردة» كثيفة ورائعة
مثل وحل أو غبار، أو براز ذهبيّ.
- أن تؤوّلنا أوراق جدار اللّيل
ووجوه الآخرين.
- نخاف في مرثيّات النّور التي
تتساقط كلّ صباح.
ممّ الخوف إذن ! ؟
هذا سؤال الشاعر. إجمالا، هذه
حرقة الوردة.
أحيانا لانجد ضرورة للإجابة عن
أسئلة تُطرح بغباء، فالجواهرتُلقى تحت أقدام الأشجار والأبديّات والأطفال والعشيقات
والمرضى والمجانين. همّ الوردة دم الأسئلة في كلّ مكان.
* توجد خانات فارغة دوما وصياغات
أخرى للأسئلة.
* توجد إجابات أخرى ببلاغات مختلفة
متوحّشة تماما مثل «هباء يفتّح فيه اللّه أجساد العالم» تماما مثل عنقاء(5)، مثل قيامات
الوردة تحديدا.
* الاهتمام بالوردة دون النفاذ
إلى عمقها سذاجة قاتلة أيضا. الوردة القائظة، النّمرة المتوثّبة، الأميرة النّائمة
في الأخطاء تعوي من الوهم وامتلاء الحاضر.
.. هكذا، حدّثت أوكلّمت أوكاتبت
أو شافهت الشاعر الخائف من عضّات الرّؤيا، من إيقاع الكلمات، من روحها وأسنانها السّابحة
في الأرض ... هكذا يخاف الشاعر من كلماته !
آه، لقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسور. فدعيني أهتمّ
بنسيانك أيّتها الوردة، وأشير إلى المياه الأَلْف التي مرّت تحت الجسور منذ قليل
!
ممّ الخوف الصغير إذًا !؟
.. من موت أصدقائي وقد أكلتهم
«موسيقى بحيرة البجع»(6) و«حقول المغناطيس»(7) في قاع الوردة وحيدِين بلا جمّازات
.. من عسل الوردة : أطلسها، أطفالها، نسائها، موسيقاها، مجانينها، محبّيها، حزاناها،
عشاقها ونداماها .. من تلك الهوّة السّحيقة بين الحروف والأصوات ...
----------------------------
(1) شاعر يوناني.
(2) شاعر فرنسي.
(3) شاعر عراقي.
(4) شاعر سوري.
(5) محي الدين بن عربي.
(6) تشيكوفسكي.
(7) ميشال جار.
الخـطـايـا
لم أقتل أحدا من أجل الشّعر. لم
أقتل أحدا بالشّعر ولم يرقص معي أحد. لم أجعل النّار راية ولم أفتح قلبي لأحد. لم أنتظر صديقا قطّ ليهمس
إليّ : إنّك لطف البحر! لم أشفق على لغتي ولم أترك امرأة بلا وجه. لم أخلق أسماء أو
أشجارا أو نجوما. لم أترك مخلوقات بلا إسم. لم تغدر بي إشارة و لم أترك مرآة لم أخدشها.
لم تذعرني الغزلان اللاّهبة من أثر العدو. ولم أُعْطِ لراقصة رأسي. لم أكن ملكا على
وحدتي ولكنّي احتفلت بأجمل الكائنات. لم أغدر بأحد وغدرت بي الشمس البحريّة المجنونة
والأصدقاء بأنواعهم أخذوا الثلج المُشْعَلَ في شفتيّ وخزائن فيروز شتّى ولم يأخذوا
منّي الحديقة ! آه، أخذوا منّي كلّ ثلوج« العالم». لم أطيّر من أجلهم حمامة زاجلة واحدة
ولم أطعمهم حجلا. لم أكن محبّا أو عاشقا لشمس الفضّة المالحة ولم أكن صديقها الخجول!
* *
كنت صديقا لصوت الوردة .. كنت
غبطة للملكات الناريّة، غبطة في أعناقها وصدورها وحناجرها. كنت بساطة أوراق خزامى في
كلّ مكان. تقتلني الوردة بلذّتها الرّوائيّة
الشيّقة من أثر اشتعال الأعواد الملتقطة من آخر ركن في غابة حجرتها ! الوردة ليس لها
وشْم أزرق. لها زبد وهيلمانات بحريّة لا يعرفها أحد. لها مياه جمّة حارقة لم تذقها
أصابع شاعر آخر. صوت الملكات لا يزعج نوم البحر بل يجعله يتهدهد ثمّ ينام بلا غرقى
أو مقتولين. وماذا فعلت هي بالنهر طوال هذه الأعوام !؟
- جعلت له هديلا وأجنحة
!
وما فعلتْه هو فعل ترتيل لا أكثر!
صدّقني أيّها الشّاعر الملقاة
على أذرعه حكاية حركات النّور. هذه رواية لم أجد لها إخراجا فنّيّا. كذا جئت وسمّيت
نفسي منقار الشاعر. سمّيت أجنحتي « إيكار»(1) الصّغير .
* *
أحبّ العصافير وأتسلّى بها، أحبّ
أصواتها ولا أصلّي معها. لا أعطي دمي للّيل الميّت من أثر الصّحراء ومن أثر البدو والشّعراء
المرضى المنبوذين حتّى من أجسادهم. أحبّ دمي وأغسل بالأمطار الملأى بالزّهر صبايا اللّيل.
أغسل شفاههنّ من القتلة وأقدامهنّ من جذام الغباء ووباء الحقول وأثر البرد.
* *
رماني في الثلج العاطفيّ وسقاني
كأسه الأخيرة وحوّلني أوّل اللّيل إلى نجمة مملوءة بالماء.
أشكره أوّل اللّيل ثمّ أطرده من
نعاسي. أقبّله على الخال الأسود أعلى الخدّ الأيمن، وأدقّ بكعبيْ حذائي فوق الأرض المكسورة
من أثر الآهات الرّاقصة أعلى شرفات الشعر. آه من ملكات الحكي، آه من ميتات رائعة. الملكات
البيضاء انزلقت على أنفها أصابعي الرّقيقة
أوّل اللّيل. كشفت فيها مدلولات أخرى وأوجدت لها سماء وسيقان ماء صغيرة. جرّدها الشاعر
من المتاهة والإبهام والتّطابق والإغلاق، وأبقى لها أوراق الغموض وسرّانيّة الحركة
والبناء. وأمس فقط، قدّمت لي الملكات الحبّ ولم أبادلها ذلك لأنّني أقرف فأعطي للّيل
لساني الأحمر. أعطتني ملكات اللّيل رغبات بيضًا ولم أبادلها ذلك لأنّني أقرف وأعطي
لغتي للّيل السّاكن أسفلها. أعطتني الملكات الذّهب واللاّزورد والخيانة النّهريّة المليئة
بالأضواء.
هذا ما قال مسافر في أعماق اللّيل
: من أجلي يضيء القمرُ الصحراءَ، أو هكذا قال الشاعر الجوّال: فليسقط ضوء القمر الرّماديّ
فوق ظهور الخيل. آه فلتضطرمي يا شمس في «النّسيان» ولتتكسّر جدائلك في البحر. ربّما
أو هكذا يبدو، كانت الجدائل مسامير أو صلبانا في المياه.
* *
تمشي الحرّيّات الصّباحيّة في
شجر نحاسيّ حافية القدمين. الرّؤيا شوارعها يداي والنّجمات الصغيرة ممالكها الصّباح
. يتودّد الرّمل لمن شيّدته في المرآة وما بنيْتُهُ فيها. ثمّ ينهمك في الضّحك والمحو.
وهناك أعلى جبل الإيقاع امرأة عاشقة دحرجت من ركبتيها حرقة السّنوات العمياء. ماذا
فعلت الشمس بالحروب في قلعتها الصّغيرة !؟ وماذا فعلت بالقوارير داخلها !؟
هذا غزل فيه الكثير من اللّوعة
لأنّني وردةٌ بحريّة إلى أبعد حدّ. هذا غزل لدموعي وسواحلي ممشوقة. دموعي، أيّتها الشمس،
دموع وردتين آخرةَ ليل شتويّ ...
الـجمـيل النـائـم
يفتح أزراره الآن. يخلع أسنانه بالدّهشة ذاتها كما
لوكان امرأة تنام مفتّحة العينين. يأتي بالأطفال الزّرق إلى الشّمس، يصنع ذهبا لأحلامهم. يأتي إذن، الأطفال الزرق لمداعبة
قلبها، للمس خيوطها البيضاء الحادّة. يعودون بلا جروح أو زبد. فقط، زبرجد الشهوة في
قمصانهم والصّور الكلاميّة عطورهم.
البحر وردة، خضراء، زرقاء، بيضاء
.. لا أعرف بالضّبط، لكنّي أعرف فارقا آخر لكلّ هذا، أعرف مقدرة النّائم على إمساك
رغبة الضوء بالقدر الكافي لبناء قصر على هذا الماء. وفي آنية زهر يقدر على جمع أكثر
من رغبة تكون في حلمة سمراء مثلجة أو صدر خارق أو شفة مدلهمّة بالعصافير. يقدر النائم على جمع نساء لأحلام الكلمات،
وفي آنية اللّيل ثمّة – على البحر– نساء نائمات في عراء مرتفع جدّا. يملك فانوسا للماء وعروسا رائعة لقهوته. يملك بنايات
مختلفة لمدن بحريّة إلى أبعد حدّ. مدن تأكل تفّاح الوجد بشفاه مالحة حبلى بالأمطار.
تأكل مبرّدات الصّيف بشفاه قانية مذهّبة.
يملك الشاعررغبة لولبيّة لمغادرة
هذه الأمكنة إلى ارتباكات أخرى خاصّة بعناق عمل شعريّ مفتوح، عمل خاصّ بتأدية الوردة.
يقدر أن يملكك أيتها الزرقة النائمة أسفلَ الماء، يقدر أن يملكك أيّتها الأفئدة النّباتيّة،
ولأنّه كذلك فخطواته جميلة بما فيه الكفاية. لم تعد رغبة البحر فجّة، لم تعد ضحكته
مؤلمة وهكذا تهتف أصابعه، أيتها الوردة المنسيّة في القاع. أيّها الماء الجميل. أيّها
الحجل النائم.
أشـجار بحـريّة لصـباحاتـها
لم تعد محبّة لكلّ الكلام القديم
فقد كانت حياتها ودقّات أصابعها وهْما. أصدقاؤها أيضا كانوا أنغاما وشناشين حياة مدماة.
كان اللّيل صديقا وأصابع طفل أرضعه الغيم ألحانا شائكة ونغمات حادّةً. كانت حارقة أكثر
من غيرها وأكثر من أيّ وقت مضى. ستذكر الصّباحات «رمبو»(1) في جدلية الشمس والقمر،حيث
كلّ شمس مرّة وكلّ قمر بغيض. وبهذه السّرعة والحرقة البشريّة تأتي الوردة رملا محروقا
أو معجونا بزبد الكلمات القديمة مثل الشعر تماما. آلاف الأشياء الغامضة ملأتْها بهذه
الحرقة، بمسألة ترتيب العلاقة بروحها وجسدها على نحو آخر، ماذا ترين أيّتها الوردة؟
كلماتك أوسع من كلّ الغبار القديم، أعوام أخرى وتسقط الغيمة المحدّبة على الجبال. تسقط
كلمات الغيم لترى كم كانت جديرة بأن تُعاش. تقرأ الآخرين قراءات بحريّة وتخرج بالجمر،
بالأنسجة الخضراء المحفّزة لغزلان الضّوء كي تطير أكثر.
الوردة الخالصة كسّرت الجرار على
آخرها. كلّ شيء لديها يمكن أن يكون فتحا أو حياة معروقة مثل الأشجار، حتى «صباح الخير»
التي تُقال بين الأصدقاء ممتلئة بإيقاعات مّا ليست مبهمة. تحيا في ماء الغموض، بل في
الوضوح الدّافئ والبرق والأمطار ...
--------------------------
(1) الشاعر الفرنسيّ الذي انتهت
حياته على نحو مؤلم.
هي بلا ألوان والشّاعر يضحك
لم يمت أحد من جنودها، أولئك الجنود
الذين لا يراهم أحد في النّهار، كسروا أشجار الغيم وأخشاب الحكي وقطعوا ذيول أحصنة
النّشيد. قتلت نفسها بحبال غريبة وتكسّرت على أعتاب أخرى ولم تمت. الكثير من بعدها
يتكسّرون على أعتابها. يأخذون منها نارا شتّى وجمرات حارقة جدّا، إيقاعا حادّا ولطمات
قويّة. يأخذون من أعتاب روحها ثلوجا وحصوات ودماء زرقاء، بيضاء، خضراء، ألا يعني شيئا
هذا !؟ هذا حدسها الخالص وموتها الخاصّ.
* *
حاجاتها الغفيرة العمياء، إرادتها
الشّجريّة، عشقها، حبّها، لمسة أصابعها..نزهتها الشاقّة بين النّواقيس والأجراس. زقزقات
صغيرة مدهوشة بما حدث، بما يجب أن يحدث آلاف الأعوام.
هل نامت بعد ! ؟
نامت الآن وأمس. نامت غدا
!
أطلّ عليها الشاعر. أخذ منها الأنهار
ودماء الثعابين وحوافر القطعان وتركها تنام.
الشاعر ليس في حاجة إلى أن يذكّره أحد بما فعل أو
رأى، بما كان يجب أن يفعله من فارق شعريّ بين الوردة وأصابعه. يعرف أنّ الأمطار نزلت
وكفى يعرف هذا جيّدا ويعطي اللّوالب المضيئة لنساء لم يعرفهنّ. يعطيهنّ دماء لحيوان
بحريّ. تنصبّ عليه لعنة من يقرأ لهم ليكون رافدا مميّزا وأساسيّا لكلّ وردة يقرؤها
أو يتكبّدها واقعا أو حلما. الشاعر الخالص، الشّابّ على الدّوام، مياهه كثيرة : عاطفيّة
وشعريّة وبشريّة عمياء.
* *
تذكر فيه الوردة نساءَ الشاطئ وحبال الرّيح وتعاسة الأشجار الزرقاء
تحت نافذته. أبصرت الوردة بدمائها جميلات موفورات في اللّيل وعادت بلا خيبات. لم تدع
حجرا يثقل كامنه النهريّ الممتلئ بالأضواء والنّسيان. لم تشنق شاعرها لكنّها شنقت نساءه
مثل أحجار.
رَفعتِ الحجارة أيّتها الوردة.
رفعتِها أوّل ذاك الصّباح. وبناء على ذلك استوفيت أمجادك حقّا واستوفيت وَهْمًا فريدا
خالقا لألوان ما. أمّا الشاعرالذي لم تقرأه الأشجار، باعها في الماضي الشعريّ نجمات
صغيرة وباعته الوردة نجوما ميّتة. أعطاها نارا لم تعرفها من قبل وهدهد جراحها حتّى
نامت في الأبد.
* *
الوردة نهر، أليس كذلك أيّها الشاعر؟
أليس كذلك أيّتها الإيقاعات الحادّة !؟
الوردة موسيقى أخرى للشعر الذي
لا بدّ من إذكائه بالماء، بالنيران الصّغيرة وأنفاس الصّباح الرّومانسيّة، بأحلام النعناع
والصّنوبر والخزامى، بنزق الذّهب وغدره، بالأوراق المطليّة برائحة ما.. إجمالا، اصطادت
الوردة أسماكا أخرى منها ما يطير ومنها ما يمشي. احتطبت الوردة النّهريّة من أصابعه
ورأسه الطائر في الهواء، واحتطب هو أيضا من غابتها وأعطاها الجمرات الخضراء. رأت معه
السّهام المسمومة التي تأتي من خلفه وتكفّل هو بالسّهام التي تأتي من أعلى لأنّه يراها
ببساطة. شمّت ضعفا إنسانيّا فيه لأنّ قراءتها لأغصانه كانت بحريّة إلى أبعد حدّ ممكن.
الوردة لا تهمّ ..فقط هذا القليل الأرضيّ، هذه الحوافر السّماويّة وهذه الأمور البسيطة
!
رائـحة الوردة .. سيـرة المكـان
أحتاج إلى كلمات صغيرة مدقوقة
في الفجر. أحتاج أوراق التوت غطاء لمدامعي وحرّيّة لأصابعي في الدّاخل. أحتاج إلى إسم
الوردة في كتابتها وقراءتها. أحتاج إلى سيرتها وحركاتها لأملك إيقاعات ما. أحتاج إلى
أحلام الأشجار وأنفاس الطّير.
* *
أحتاج إلى الأصابع المليئة بالغزلان. أحتاج إلى وردة ماء لأقوم باكرا وأتنسّم بهدوء رائع لمومياء.
أحتاج إلى رائحة ما آكل منها بغباء تامّ رائحةً لخطوات لها أثر في المياه، و أذهب ليس
أكثر من نجمة تسقط في الرّيح.
* *
أحتاج إليك يا أصابعي، يا أنفاسي
التي لم أحفل بمدامعها من قبل. عرفت أيتها الوردة في اللّيلات البيض حروفا أخرى مثل
الماء. قتلت نفسك حسدا لها و لم تعطها لذئاب اللّيل تأكل منها. عرفت في أشجار اللّوز
حروفا لم تقدر نجمات عارية أن تغطّي أغصانك بالثلج. نجمات عارية أعطت أصواتك أملاحا
وجروحك إيقاع المعادن. تدخل أصوات أخرى لم أعرفها من قبل : أيّ جحيم أنتَ أيها الشاعر
!؟
* *
عرفت اللّيل الأزرق الذي له ابتسامة
ضوء ومدركات ما. عرفته لأحتاج إليك آهة في شجر الغابة المقطوع بانتباه وعناية، لأحتاج
إليك شمسا تلثم أقدامي بالعمق الذي يمنحه قلقُ الوردة للموج.
اشتعلت أزرارك من المشي وليس ثمّة
مكان للكلمات سوى الوردة والضّوء وأصابعها. إجمالاً، لا أحتاج إلى أصوات أو أمكنة هنا، ولا أحتاج إلى رائحة لها دمعات بيضٌ.
إجمالاً لا أحتاج إلى بيوت للنّوم. الخطوات أهمّ
من الأشجار. ثمّة موجة بيضاء تشدّني من يديّ
بينما تغيظني سيرة نعناع بسيط يسهر ثملا أمام غرف النوم تلك التي لم يطرقها
أحد، لا بدّ لها ألاّ تؤجّل أصابعها إلى زمن آخر!
الـوردةُ – لا مـرئـيًّا
(إلى لطمة أدونيس الواهبة للضّوء.
إليه غادرا ومغدورا به)
(تزول الخليقة ولا يبقى إلاّ الوردة،
وردة الخالق) وأوّل صباحاتي أحتاج إلى شجرة برتقال تحضر لي قهوة ممزوجة بالزّهر وتقدّم
لي مجْد ذراعيها. هذا جنون الشاعر.
(تولد الوردة فيما تموت في وردة
أخرى) لتنبت أعشاب في غرف آخرة اللّيل ويكون الفجر دما، عملا جميلا وذابحا، كتابةً
أهواؤها إرباك السّطح وإيقاعها رجّ القراءات ( قراءة الماء، الأشجار، الشمس ..) وكسر
خطّيّتها أبدا.
(يمتزج في الوردة الضّوء والظلّ
: الضّوء تدرّج صاعد والظلّ تدرّج هابط) بعدها لن يحدث شيء سوى وقع زخّات المطر في
غرف آخر اللّيل. لن يحدث شيء سوى سقوط أثمار القلب وموت الملائكة الصّغار بلا هتاف.
(للوردة وردة أخرى هي الوردة
) هذا طقس الشاعر. هذا صوته الأزرق. وهذه أجنحته : الانشغال بأكثر من كتابة والدّخول
في أكثر من علاقة عاطفيّة مع النّساء والأشجار والرّيح والانهمام في تجارة الضّحك والنّسيان.
(كلّ وردة حلم، لكن عندما تتلاقى
وردتان يتلاقى الحلم والواقع) يتلاقى البحر والشمس، ينامان أعواما من أثر اللّوعة بلا
معاطف ويهمسان : هنا إشراقات وأكوام ضوء واحتراق غابة.
( تنفينا الوردة، ولا ملجأ لنا
إلاّ هي) تغار علينا من هبّة ريح شماليّة، من فتيات يتراشقن بأجسادنا ويرقصن في أصواتنا
مخمورات أو مكسورات الطّرف.
(كمثل طائر في شجرة طائرة، تعيش
الوردة) تبني في الرّيح أعشاشا مليئة بالزّقزقات وتسخر ممّن يعثر عليها. كذا تكون الوردة
ريحا منهمكة في الضحك ألف عام.
(يمكن أن يكون لكلّ شيء سيرة ذاتيّة،
إلاّ الوردة : الوردة هي السّيرة) الأعشاب تملك سيرتها بلا عناء وأوراق النّعناع أيضا.
الشاعر سيرة وما لا نملكه أبدا هو سيرة أيضا.
(تأمّل عميقا في الوردة، وسوف
ترى أنّ تاريخ التّأمل لم يبدأ بعد) أرى جماجم خضراء لشعراء أحياء من كثرة الموت، وآخرين
أحياء من كثرة الحياة. وأرى أيضا، في جهاتنا الرّائعة، فتيات يتعفّفن آخر العمر، وأخريات
يبدلن عشّاقهنّ مثل جوارب شفّافة وعشّاقهنّ بلّور مكسور في سماء الإيقاع. الشاعر يحيا
ما لم يحدث بعدُ ويتأمّل ما حدث. يتحمّل انكسارات
الماء وهزائم وردة عادت لتوّها من الحرب.
(الطّبيعة احتفال متواصل بنفسها
ولا يُفتتح إلاّ بالوردة) الطّبيعة احتفال متواصل يتأفّف من أجساد صبايا مَمْخورات
بالملح. الطّبيعة احتفال خالص بأجساد نساء في المراحيض وفوق الرّمال وتحت الأشجار وقرب
مجاري المياه.الطّبيعة احتفال بالأجساد الخاصّة ومتاهاتها.
(الوردة منارة الجسد) ولا أذكر
جسدا آخر في خضمّ اللّيل سوى الأجساد التي أكلت منها بنهم وتوحّشت فيها فملّأتني بالرّغبة
والرّضى. أذكر ظلّي اليانع الذي منح حرائق شتّى ووضعها في مرآة زرقاء لا غدر فيها،
في مرآة تملؤكم بخدر مسكر عال.
(لا تشعّ الوردة، هي القديمة،
إلاّ بنور لحظتها الحاضرة) تشعّ الوردة دائما بما يحدث فجأة للشّاعر في مدن بحريّة
لزجة مثل أوراق زرقاء لأخطبوط طريّ. تشعّ الوردة في نهود حارّة لسائحة في خريف على
مرأى من البحر. سماء رغبتها المحروقة مداعبة عربيّة على الرّمل المجنون. تشعّ الوردة
في شفاه محمرّة في ليل أكتوبر البارد، رغبتها القصوى أن تتدفّأ بجسد بشريّ. لذلك امتلئي
بالغبطة وكفى، أيّتها الشعريّات المانحة للرّغبة.
(تومئ إليّ الوردة من مكان لا
أعرفه) تلك كلمات الموتى اللاّمرئيّين، تأخذ فيها الوردة شكلا فريدا ليس شبيها بالتّسوّل،
ليس شبيها بالسّكوت المرير ولا بملكوت البيت العائليّ. شكل له رائحة صنوبر ويوكاليبتوس
وسرْو عاشق، له رائحة عابقة لغليون شاعر يبتسم دوما من حجر عاطفيّ له عضّات شتّى منها
ومضة البرق ..
( الوردة هي أن تكسر باستمرار
السّلّم الذي يوصلك في آن، إلى ذروات الواقع و أغواره ) الوردة أن تلحس بلسانك كلّ
ما تحدثه من رؤى، أن تكشف العاديّ («صباح الخير» مثلا)، أن تدخل إلى عذارى بلا مغنّين،
أن تغرق في اللّذة بلا مصوّرين. الوردة مثلا أن تزرع بحرا أزرق في الصّحراء.
( الشّمس وردة للطّبيعة، والنّهار
وردة للّيل) معنى ذلك أنّني لن أموت، معنى ذلك أنّني أمشي باستمرار تماما مثلما تفعل
الأفْعى القائظة.
(تضعنا الوردة، كلّما نظرنا إليها،
أمام بداية ما) تضعنا أمام موت كهنة بلا ضجيج، أمام بنات بحريّات يتأوّهن من هسيس أوراق
الرّغبة، من لطمة نداء الأرض. أصواتهنّ الحزينة على أذرع العشّاق وحلوقهنّ قد جفّت
من النّداء والنّدم. تضعنا الوردة في كلامها المخصوص، في مراكب صغيرة مثل الأسنان البيضاء
والمسامير المدقوقة في الغيوم. الغيوم بالنّسبة إلى الشاعر كتاب دم وأشواق صغيرة تُمسكُ
بالمشارط.
(ما أبهى كيمياء اللّون والضّوء
والخطّ : تعيد كلّ شيء إلى عناصره الأولى وتحوّله إلى وردة) ما أبهى الصّوت والظلّ
والحظّ، تلك كيمياء الشاعر، احتفال الوردة فيه، رقصها وتحوّلها المستمرّ إلى عصافير
ماء.
(من الوردة يجيء الكلام، لكنّه
هو نفسه لا يتكلّم إلاّ رمزا) الكلمات تأتي من البحر. الوردة داخل الشاعر، الوردة تتكلّم،
تهمس، ترى، تسمع، تلمس، تتذوّق، تشمّ.. تفعل الوردة كلّ شيء : النزق والقتل والخيانة.
(الوردة فاتحة لكتاب الجسد) الوردة
فاتحة لكتاب القتلى. الوردة فاتحة لقتل العشّاق ووأْد أصابعهم في النّار.
(في الوردة تبدأ الهاوية لحظة
تبدأ الذّروة) في الوردة تبدأ الأفجار. الذّروة تضع دائما، وهكذا أبدا، يدها على رأسها
وتخرج. تخرج كسيرة الفؤاد، مترهّلة مثل عجوز في العشرين. الذّروة موت كهول وجدوا أنفسهم
في بِرْكة آسنة.
(الوردة لوحة تسبح خارج الإطار)
لتثبت ارتفاعها وتقيمَ مجهولها. هي اللاّمرئيّات الرّخوة. دعني أيّها الطائر. دعني
أقضم تُويجاتها وأحترق كما يفعل كاهن قديم بنساء المعبد.
(للوردة كلام لا تعرف الأذن أن
تصغي إليه) للوردة مثل ما يفعله البحر: يضع يده عل قلبه، يهدهد ريحه وينام.
(تعاشر الوردة جميع الغيوم، لكنّها
لا تتزوّج إلاّ واحدة : غيمةَ الدّمع) تحيا الوردة جميع النّجوم، لكنّها لا تتزوّج
إلاّ واحدة : نجمةَ الدّمع. وتلك، يا أحبّتي في العوالم الصّغيرة، تلك أكوان بكاملها
لا تُرى لفرط طراوتها. لا تُرى من كثرة القضبان منها قضيب النّقصان.
(السّرّ شجرة هي في الوردة غابة)
هذا احتمال الصّورة. أمّا احتمال الفعل فهو شيء آخر حبيس الصّورة، لذلك لن أنتبه. الانتباه
يجعلني أتألّم لهذا السقوط. الانتباه مرارة ومطر شقيّ، لذلك لن أنتبه مطلقا.
(الوردة مرفأ لضوء لا يسافر، لكنّه
متأهّب دائما للسّفر) بل كانت إجهازا في كلّ بيت، إجهازا له سيقانٌ وأذرعٌ وحواسُّ
مختلفةٌ. الوردة تسيل وثمّة أصابع تلمّ الدّم.
(الوردة سفر دائم) هنا اللّذة
التي ليس لها حال تُوصف أو تنقال.
(لا يُقرأ النّهار إلاّ في ليل
الوردة) هذا ما تعلّمه الأشجار الميّتة من ضوء وماء. هذا ما تعلّمه إيّانا أشجار السّرو
أثناء انحنائها للعشّاق. لذلك أمطرت آلاف الأعوام وصار للوردة أطفال يجرون أنهارا وصورا
ملوّنة.
(في الوردة يتوحّد الضّوء والسّرّ)
تتوالد أسماك الإيقاع. تتقافز الصّباحات في الطّرق البحريّة الرّخوة، واضعة أيديها
على رؤوسها بينما حروفها أشبه بأمشاط الحجارة والقشّ ..
هنا أذكر شيئا واحدا : الطّرقات
البحريّة في هذه المدن الرّخوة رائعة عكس ما يقال : مالحة دوما ومخلوطة بلعاب التّجّار،
فلأذْكُرْ تاجرا مثل «رمبو» كانت وردة أسفاره رائعة إلى حدّ لا يطاق، كانت سحر اللّهب.
كانت اللّهبَ المائيَّ على شفاه لا تطاق.
(الوردة حركة : في الضّوء تتباطأ،
وفي اللّون تتسارع) وهنا تحت أهدابك أيّتها الوردة، يا ضجّة نفسها حيث لم تكوني ضحيّة
أحد. هنا، ليس لك إبطاء أبدا، لك تكاثر وحافز نهريّ يجدّد عروقك، فاصعدي يا إيقاعات
واتركي الموتى على الأرض.
(الجسد هبوط، والوردة صعود
).. إلى الأوحال المضيئة، إلى النّدى المليء بنقرات أصابع الشاعر. أصابعه تدقّ على
الأرض ثمّ تنام لأنّها فعلتْ جميلاً.
(الوردة كوكب وحيد في فضاء اسمه
الجسد) في فضاء اسمه حقول المغناطيس. الوردة مرايا النّسيان وأكواب لم تُشرح. أكواب
تتعالق في ملكيّة حادّة ومسموعة جيّدا. تتعانق برقا ورعدا وصاعقة !
(لا تجيء الوردة إلاّ من حيث لا
ننتظرها) تأتي من الجبال التي غرسناها في الإثم، في هذا البحر. تأتي من الشمس التي
أمسكنا بها البحر. تأتي في هذه الصّباحات التي شرّدتنا في شجر اللّهفة المبنيّ بإحكام.
(في صخرة الوجود ماء هو الوردة)
أشمئزّ منك أيّتها الصّخرة اللّقيطة. أتقيّؤك أيّها الوجود. أسمّيك أيّها الماء وأدلّ
عليك.
(نرسم الوردة، فنرسم شعر المادّة
الأولى وطينها الجميل : الجسد) وهَمُّ الشاعر زفّ الكلمات إلى مثواها وإعطاؤها بلاغات
وسواحل أخرى.
(الوردة نقطة المركز لدائرة الكون)
حتّى أنّني لا أثق بمياه حارّة أو باردة. لا أثق بالحواسّ بل بدهشتها وإيغالها في الحفر.
أثق بالانهمام في كلّ شيء، بالجحيميّة بابا للكون ونوافذ للغبار القديم ثمّ كنسه أمام
العتبات بمكنسة الضّوء الصّلبة.
(لا نرى في الجسم إلاّ الطّبيعة
وما وراءها) نرى الجحيم المثمر أصواتا أصواتا، ونرى الموتى يسّاقطون في حفر ثلج وأرواحهم
تنبح في اللّيل والنهار.
(الوردة ضوء يتجاوز الضّوء) ضوء
يتقدّمنا آلاف المرّات وآلاف الأعوام، لا يكلّ من حمل الموتى وإعطائهم فرصة للتّعبير
عن عواطفهم الحجريّة. ضوء يأكل أعشاب اللّيل.
(الأهداب أجنحة تطير بها الوردة)
لذلك أمزّقها بجنون كبير يجعل للبحر أسماء متعدّدة وللقمح رغبات بيضًا من أثر اللّوعة.
(إن كان للغموض نشيد فهو الوردة)
وإن كان للوردة إيقاع فهو ذاتها، ريحها اللّينة الدّافئة الخاطفةُ أبصارَ الحروف.
(الوردة رمز لأبجديّة من الرّموز)
لا يمكن أن تُرسم أو تُقال. تُعاش فقط ولا تُقال. الوردة موسيقات نهريّة. تَنقال آنًا
وخطفًا.
(عندما نحيط بالوردة، نقدر أن
نقول : نحيط بكلّ شيء) فكوني أيّتها الوردة زَرَدًا في الحقول. كوني أعمدة نابتة في
البحر تثقب السّماوات كي لاترى أحدا. كوني قيامات قيامات. كوني أنت أيّتها المشكولة
من دمع وخيوط بلّور ودم.
(الأشياء كلّها تزداد وضوحا في
الضّوء، إلاّ الوردة : كلّما ازدادت تَلَأْلُأً ازدادت غموضا) الأشياء تمدّ ألسنتها
الحمراء المدهشة لتهزأ بضوء المقتولين أعلى الجبال. الوردة تحمل صليبها وتمضي. تحمل
« كن » على ظهرها طول العمر. تحمل « كن » ولا تئنّ لأنّها تحمل حياتها المتناثرة في
كلّ مكان.
(ينزلق الضّوء على الجسم : لا
يترك أثرا إلاّ في الوردة) لذلك يُترك النّدى بين النّاس ليجعل منهم عواصفَ شوق بشريّ
وآثاما. لذلك أيضا كان النّدى الطّارئَ الوحيدَ على الأعشاب في صباحات الشاعر.
(الضّوء في الوردة بِذَار، والألوان
الحقول) الضّوء في عيوننا شلاّلات مغربيّة والألوان في عيوننا صبايا جميلات يحرسن نوم
الآخرين وينمن على الرّمل البحريّ حزانى فيما هنّ مثقلات بمدن حليبيّة. ينمن حزانى
لأنّهنّ يحرسن أزهار خوف الآخرين.
(الوردة كوكب يدور حول نفسه) إذًا،
موتي أيّتها الأرض بمياه النّسيان وانزلقي أيّتها الوردة على البحر. يا أجساد ويا حوافر
خفيفة جدّا حيث لا يُرى لصهوتك أثر.
(ليس للموت وردة ) إنّ كعب « آخيل
» كان قد ملأ « اليونان » بألف وردة. إنّ انتظار البرابرة لـ« طروادة » وراء الأسوار
كان قد ملأ الشّاعر اليونانيّ بألف وردة أيضا. فبأيّة وردة ملأنا الموت !؟ آه يا كعب
الوردة العالي !
( عندما أرى شمس الوردة، تمتلئ
عيناي بغيومها) آه يا كعب الشّمس، يا إحراجات عالية النّسج تشعل الوردة ألف عام لتحيا.
(طريقنا إلى الوردة وردة) أحيانا
تكون الطّرقات السّكرى أهمّ من الوردة. اللاّإيقاع والتوحّش أثمن، بينما تزداد الخطايا
لنفخر بجحيم المياه.
(لا نرى الوردة حقا، إذا رأيناها
في عريها الكامل : الوردة عري /غطاء ) ولا شيء آخر سيُحبّ بعدها أو يُنسى. هي عري الأحياء وغطاء الأموات.
(للوردة قيد لا تتحرّر منه إلاّ
بالغموض) آه، ما أقسى قيود الوردة الواضحة مثل الشّمس، ما أقسى حداثات الغموض على خيط
نهريّ مضيء، لا يؤذي فراشات اللّيل. ماأقسى مسامير الرّؤيا والغموض، لكنّه الضّوء ومسلاّت
التّفاح العملاقة.
(لا يأخذ القمر شكل الوردة إلاّ
حين يكتمل : يصير بدرا) الوردة لا تكفّ عن إنارة «العالم» ولا تنثني عن إطعام الموتى
بعراءات أخرى، تنير حتّى الأزهار التي تمرّ بلا ريح.
(ربّما لا ماء خارج النّار، تقول
الوردة) هذا احتمال الشّعر فيما تكون الوردة في مبادئها النّهريّة أشدّ حرقة وإلذاذا.
(لا تمتدّ الطّرق المتشعّبة الوعرة
السّاحرة كمثل ما تمتدّ بيننا وبين الوردة) والوردة في أصلها بسيطة ذابحة، بسيطة مثل
أحلام النّاس فيما يكون النّاس بسطاء مثل أوراق المشمش والنّعناع، مثل أزهار اللّوز
المتهامسة في اللّيلات السّود.
(أنظرُ إلى الوردة : أضيع بين
ما أراه، وما أودّ أن أراه) أضيع في أصابعي وفي الأطفال المقتولين بقوّة الأشجار، بلوز
ساحلنا الأبيض وزيتونه، أضيع في الأطفال المفتونين برسائل الشّجر وبطاقاته البريديّة
...
(لا تُعنى الوردة باللّقاء، لا
تُعنى بالوعد)تُؤْثِرُ أن تقيم في لحظة الانتظار، في الخوف وفيما ليس منها.
(ليست الوردة حيث هي، وليست في
مكان آخر) إنّها حيث يد الشّاعر. حيث الغابات وحيث الرّيح المتدثّرة بالبرق.
( الوردة غيب يُلمس ويُرى ويُسمع)
هي أيضا في كلّ شيء : في مواء القطط اللّيليّة استدعاءً رائعًا وفي أنّات غريزيّة لامرأة
في الأربعين ينام في لذّتها رجال آخرة اللّيل. الوردة تنام في عري الأشجار مع الشاعر
والوردة الأخرى في رذاذ المساء على صدرها وفي حبّها الفحميّ بشفاه لم تتوفّر لها من
قبل.
(وردة الإنسان صورة أخرى لوردة الكون) للكون زجاج
في أقدامه الطّريّة وللشّاعر أمتعة مغلّفة بحروف النّور، أمتعة تمكّنت منها أسنان اللّذّة.
( في كلّ وردة لا نهاية من الورود)
لا نهاية من العذارى الميّتات فيها، ومن المياه والإيقاعات النّابتة من أثر أمطار السّنوات
الأولى لهجرة الكائن العجينيّ، هجرة الشّعر أو ما شابهه.
(تصحّح الوردة أخطاء الجسم ولا
شيء يصحّحها) لا شيء يؤلّف أشجارها المغسولة بدم القطعان سوى حدّ الخنجر القديم. يصحّحها
حدٌّ جميلُ اللّمعِ.
(تتكرّر الوردة كالموج : لا تشبه
أيّةُ موجة أيّةَ موجة) سوى في الخيانة والغدر وفي التّزوّج باكرا قبل الأوان.
(لا تُشرح الوردة : تُؤَوَّلُ)
ثمّ تُلمس في أماكن أثيريّة، تُقطع ثمّ تموت انتقاما لنفسها.
(الوردة هي نفسها وغيرها) يمكن
الاستحمام فيها شاعرا بها وبغيرها في آن. آنُها الوحيدُ يَفتح على أبدها : حبّ الأطفال
بلا ملل ورمي حفنات التّراب في عيون الكهنة.
(الوردة مفرد، ولا تُجمع : كلاّ
ليست مفردا ولا جمعا) الوردة امرأة تزّوجت ثمّ امتلأت بالأطفال. الوردة فتيات مقتولات
ينتظرن وراء الأبواب.
(ما لا يُرى من الوردة هو حقيقة
الوردة): عيونها الجميلة مثل أسئلة الخطّاف أو شجرات الدّمع. شفاهها القاتلة بسمّ الحبّ.
خدودها المحرقة للأصابع. تَكَلُّفُ نكهة العشق في خاصرتها.
(لا تنكشف الوردة إلاّ بخلخلة
سِماتها : بالخلخلة، باللاّصورة، نصل إلى الصّورة) الوردة تحيا العجيب والرّقراق. تحلق
رؤوس القطيع.
( الوردة تحوّل دائم) نحو جحيمها.
نحو فردوساتها الحقيقيّة ومثواها الأخير. لا مثوى لها سواها.
(لا تحضر الوردة حقّا إلاّ عندما
تغيب تقاطيعها) الوردة لها جروح أيضا متى هبّت على القرّاء آهات البحر وغزلانه وحوافر
جياده.
(ليست الوردة قناعا لأيّ شيء)
هي قناع الغرائز والرّغبات والجنون، حبّ مباشرة الكؤوس المثلومة والنّساء المتزوّجات
وخنقهنّ بالمشاعر الشّابّة على الدّوام. ثمّ تمزيق صلصال الحروف شرّ تمزيق.
(الجسد كون فضاؤه الوردة) الوردة
أكوان طريّة فضاؤها الجسد المتعدّد المختلف. مشغل الوردة إلقاء أثمار الجسد المتعفّنة
في البحر لإطعام أسماك الضّوء الرّائعة وتكديس الألوان على أجنحتها وأليافها.
(الزّمان و المكان موجة واحدة
في بحر الوردة) الوردة آلاف الأمواج : الموج البريّ مثلا ...
(لا أوّل للوردة خارج الوردة)
أوّلها الماء وآخرها النّار. ألوف النّساء داخلها وخارجها جميلات وقبيحات. أوّلها مشغولات
الرّيح وآخرها مقصوصات اللّذّة وصدى خشخشة أوراقهنّ.
(ليست الوردة شكلا : هي حركة دائمة
من التّشكّل) للوردة أشكال، ولا تَشَكُّلَ إلاّ بها ومنها وفيها، عكسا واطّرادا، عَدْوًا
أو عداء جميلاً لا غير.
(للمرئيّ واللاّمرئيّ في الوردة، جسد واحد) للمرئيّ
نهر واحد. للاّمرئيّ مبادئ نهريّة، وأضواء كاشفة لأسماك اللّيل .. لا شكّ في أنّكم
تعرفون شباك الحرير وعودة رجال البحر مُصَفِِّرينَ !
(الوردة متاهة : لا لقاء فنّيّا،
إلاّ في المتاهة) المتاهة حداثة متعالية وفضفاضة بلا حساب. المتاهة حافز فنيّ. جواد
مائيّ ذيله مقطوع بدهشة، وأجنحته لا تُرى وحوافره قرع الأرض بانتظام وطقطقة عظام الموتى
وتنفّس البريد بين أسنانهم البيضاء العاملة بلا كلل.
هكذا يعود الرّجال الطّيّبون،
ذوو الأصابع المغزولة بالذّهب، بمسلاّتهم الأخيرة .. ستجد فيها الزّوجات الصّغيراتُ
أسماكَ اللّوعة والرّيحَ والموسيقاتِ المُمَجِّدَةَ للصّيد والشّباكَ والمجاديفَ
...
-----------------------------
هوامش
ـ الوردة – لا مرئيّا، معارضة لنصّ نثريّ طويل لأدونيس. وتأتي المعارضة هنا بمعنى
القراءة وإعادة إنتاج النصّ تأثيرا وتأثّرا، ولا تحمل «المعارضة» في حضورها هذا أيّ
معنى للنّقيض حيث كلّ شيء مطابقة وعُدُولٌ في آنٍ واحدٍ.
ـ لأدونيس (ع – أ – س) ما وضع
بين أقواس، من نصّ طويل له بعنوان الوجه مرئيّا
«نشر في مجلّة» مواقف.
ـ تمّ إبدال «الوجه» بالوردة رمزا.
«الوردة» باعتبارها كتابةً وأنساقَ قراءةٍ وكتابةٍ لا حدود لها.
ـ القراءة مفتوحة، كَسَرَتْ «خطّيّتها»
في كَسْرِ نظام (شكل/ نسق) كتابة النّصّ في صياغته «الأدونيسيّة».
ـ الصّياغة «الإيكاريّة» قراءةٌ
واحتمال شعريّ في الصّميم.
صباحات الوردة العاملة في البحر
( إلى روسبينا / المنستير، غابة
أخرى لعصافير المتوسّط )
صباحات الوردة .. صباحات الشعر
تمرّين بي فأبكي مثل أيّ صبيّ.
تمرّين بي لأنّي بلا قدمين. أعرف سرّ احمرارك وأعرف كيف تأتي شمس مياهك. وأعرف أيضا
مياها كثيرة : منها ما يتحوّل في لحظة حبّ غصنا مخمورا ومنها ما يتكلّم في صمت عن وجه
الوردة ويديها الصّغيرتين المملوءتين بالحلوى. أمهلني قليلا – يا شاطئها – لأعطي أنفها الرّقيق انسجام الأثير. لأعيد ملامحها إلى
رجال البحر العائدين، لأعطي جدائلها إلى نساء الشاطئ المسحور. أجراسُ وردتها : ألوان
أضمّها مثل وسادة اللّيل. عصفورات أخرجها بلا ريش، تلّ الرّغبة الخضراء يُنْثَرُ فوقه
الشاعر. سنبلةُ ماءٍ يختبئ فيها.
يسأل عنها الجميع فلا يعرفونها،
تخرج صباحات من النّوافذ مثل عاشقة صغيرة برداء النّوم. وليست مشغولة بمطاردة الخيول
وحرّاس اللّيل !
تمرّين بي فأبكي مثل أيّ صبيّ.
كلّ خطيئتي أنّني لم أكن حجرا، وأنّ ضفّة نهري أنبتت قمرا آخر في هذا اللّيل، وأنّ
صرخة مياه البحر كانت شجرا يُمسك فمُه بالنّيران. وردة تخطف الأطفال، وامضة تحرس كلّ
زهيرات اللّيل. طائرة بجناحين صغيرين وعضّات الرّؤيا في أبوابها. يسأل عنها الجميع
فلا يعرفونها، أحرقتها الشّمس ففتحت يديها للأطفال وبكت آلاف الأعوام أمام البحر.
« الوردة » طفلة اللّيل تطلّ على
العالم بعيون مفتوحة في الأبد. ضائعة في المياه مشرعة لألف ريح، متورّدة مثل خدّ صبيّة
في صباحات شتاء بحريّ. سيّدة الشّعراء في بساطة يديها الصّغيرتين تحفنان القمح والرّيح،
بنت أطلس هذا العالم. منذ قليل فقط عادت من أعمالها في البحر. كانت عاملة أبدا في بحر
كائناته هشّة مثل رعشة عصفور مبتلّ. عادت من أعمال البحر ولم تنس الكلمات التي التقتها
هناك. قلت لها – على نحو آخر – عند العودة من أعمالها :
- سيّدة الأضواء، كم من بيت حفظته
للشّابيّ والمتنبّي !؟
- لم أحفظ لهما لأنّهما لم يعملا
في البحر. حفظت للأعناب المجروحة في الصّيف، للطّائر الصّغير يتنفّس مكسور السّاقين
مبتلاّ بغيمٍ أزرقَ. حفظت للأسماك خوفها من خيوط الصّيّادين، للوردة أوراقَها البسيطةَ.
حفظت لأوراق اللّوز اهتزازَها
من ريح أخرى لا تعرفها امرأة في البحر. لكنّي قرأت صباحات أخرى لم أعرفها من قبل. كبر
صوتي يا أطفال الشّمس. صار صوتي مقتولا بأجراس الوردة عاملةً في البحر. منذ قليل فقط
رأيت سماوات أخرى وابتللت بأمطار شتّى. شممت رائحة هواء آخر. ورأيت ذراعين صغيرتين
هاتفتين بكلمات أخرى لم يعرفها سواي. قرأت وجوها رائعة في كلّ شيء، قرأت أخطاء الشاعر
وانحفرت عميقا في عينيه. حوّلت العالم فيه فازداد عماه وجُنّ في صباحات تسمعه فيها
وتأكله شجرات اللّوز، في صباحات بيض « تغربل فيها شجرات الزيتون الضّوء »(1).مزّقت
روح الشاعر ووقفت فاغرة الفم ميّتة من هول الرّؤيا. سمعت كلمات تتردّد : الوردة ميناء
الشعر ! وعرفت جنونا مليئا بنساء الرّمل. الوردة بساطة ذابحة. الوردة عاملة البحر الأولى.
صباحات الوردة .. صباحات آنية
العالم
يأتون إلى صوتك البحريّ ليلا بلا
معاطف. يقيمون في ليلِكِ وردة لأحلامهم ومذابحهم في النّسيان. قولي للأطفال: الأمطار
هنا والنّيران في عينيّ. النّيران أزقّتي وشوارعي، بحري وأشجاري، مينائي وبساطة أهلي.
النّيران شفاهي وشفاه الأطفال حزانى وعشّاقا ومحبّين. النّيران محطّاتي وأضرحتي، مساجدي
ومعاهدي. النّيران أصواتي المبتلّة طائرة في هذا الغسيل. النّيران منازلي ومقاهيّ،
مغازاتي وأسواقي، همس أطفالي ونسائي.«صباحات الخير» و«مساءات الخير» على شفاه الأشجار. رجالي وصباياي
المقتولات بريح الشّعر ولوعات الماء. النّيران أرضي وشمسي. أقماري ونجومي، جروح عجلات
النّهار واللّيل، رمالي وقوّة نسيان اللّيل.
كلمات الشاعر – مدينة القرون ووردة
النسيان الأهمّ – دعابة طفلين صغيرين وأصابع غزالات تطير وتنهش الغابة بحنوّ كبير.
أنت يا صليبا معلّقا بالمسامير.
قرأنا في ليلك معا صباحات ممطرة. قرأنا آنية الزّهر وريش العصافير المندّى. قرأنا الزّرقة
في صوت الوردة السّرّيّ ليلا في الأثير الملقى على «المتوسّط» وعلى الأسماك البريّة
في الدّاخل. صوتكِ الموج. أطفال كثيرون من صوتك وصباحات تصرخ، آنية تأكل من البحر.
من ساحلكِ العجيب، من زيتونات تمدّ سراويلها للشمس.
شمس تحبّنا «إذا رأيتم على بابها
نجمة خذوا يديها»(2). لا تخشوا إذاعتها، هي الأمطارالنّازلة محضَ عطاءٍ. هي ريح الوردة
والنّهم الأخضر. أيّتها الوردة قبل أن يناموا خذي ضجيج الأطفال ببساطة والتهبي مثل
البحر. هدهدي أرواحهم الزّرقاء كي تنام «هنا» أو«هناك». لا فرق بين الأرواح الغامضة
والأرواح الواضحة في شيء فكلّ برق له روحه. لا تنسيْ شجرة اللّوز، أيقظيها. إنّها أخت
الرّوح مثل كلمات الشّاعر وعينيك الدّامعتين.
أجراس الوردة .. أجراس اللاّ مرئيّ
كان الصّوت امرأةً وكنت مذبوحا
بكِ، بذلك الصّوت الشّجريّ الأبيض. لكن لِمَ الصّوت الحادّ المجروح بلثمة غيوم مّا!؟
أمن فعل عيون الوردة أم من فعل كلمات اللاّ مرئيّ ؟ الكلمات غرقى تخرج توّا من ذاك
الزّهر. لا تصرخي هكذا .. بل اصرخي مثل الأطفال، مثل الأمطار في صباحات صوتك الدّافئ،
المليء بماء له صوت النّيران، مثل أطفال حالمين بصوت الثّلج. يفتح الشاعر أبوابكِ ليلا
سرّيّا وأطفالك قادمون من المعارك توّا. ومنذ قليل فقط، أخذوا أنفاسهم ليلا تحت الظّلام
مثل أمطار تغسل أوراق الشّجر اللّيليّ في الوردة ولم يرها أحد. إنّها كيمياء «اللامرئيّ
الجوّال». كذا أنت تتركين صوتك في المياه والأطفال يقفزون مثل وردة جميلة أمام بابك.
من «هنا» أو «هناك» حيث الممكن والضّوء والضّحكات العمياء. الوردة، الوجه الآخر للضّحكة.
الوردة تقفز فوق التّوابيت وليس لها أسنان صفراء. ضحكة الوردة في صباحاتها إحساس عميق
بالعالم ونسيان واضح له. الجميلة تقف وحدها في الرّيح وأحبّتها في العالم مسامير مدقوقة
في البحر. تتكلّم وأصواتها مليئة بالشمس.
جاءها مسكونا بِمَهْمَهِ صباه
وعاد إليها آخرة اللّيل وأوّل همهمته بفجر واضح مثل خيوط الأمطار.
وقفتِ طويلا على باب الشمس والبحر.
جرحتِ أبصاره ومسامعه وأمتعته جميعها. انتبهتِ أخيرا إلى الأمطار المتساقطة من عينيه
في كلّ مكان.
ولم ينس الشاعر أن يؤلّف وجهك
على نحو آخر ويشدّك ألف عام إلى المياه. ألم تصرخ أصابعك !؟ ألم تجعلي لوحاتك مليئة
بصغار الطّير وبأطفال أصواتهم جذلى بروحك ؟ ألم تصرخ أصابعك ؟ ألم تهبّي صوب الكلمات
؟ ألم تهاجري باستمرار ؟
آه، الكلمات غرقى والحروف تَغِيضُ
والأسماك تنهض. هبّي أيّتها الجميلة وادفعي الصّخرة الكبيرة أعلى الجبال في اتجاه البحر!
بحرُكِ الرّائع في الصّباح لباس العالم. لباس كلمات الشّعراء وصراخك صراخ العشب أوّل
كلّ ندى. آهات البحر دافئة ملتاعة بحبّ أصواتك، إنّها الآن وحيدة. لا، إنّها الآن مؤلّفة
من الكلمات والعصافير وأشجار الحب. الوردة أرض تتساقط مثل الأمطار تماما في هذا اللّيل،
ليل إذاعة أسرار «العالم» المبنيّ من خيوط أوهن من خيوط العنكبوت. الوردة رعب ونقصان.
الوردة منقار الطّائر. الوردة أجنحة. الوردة طائر! الوردة فعل طيران وجنون لا غير
...
تلك هي الوردة ....
-----------------
(1) أوديسيوس ايليتيس.
(2) أدونيس.
سـارقة المـوتى
(إلى الشّاعرين ميلاد فايزة ورضا
العبيدي)
لا تستطيع الوردة الدّافئة كتابة
المراثي .
تستعيد بقوّتها التي وهبتها للشمس والأشجار قوّة
نسيانها وتحلم بتدمير العالم مثل السذّج !
تحلم وتنام قرونا تحت أثير أطلس
مجنون. تعطي قوّة ظلالها وموتاها البيض إلى شمال إفريقيّ بارد.
هكذا أيضا تحلم بأشجار خزفيّة
العيون، ذهبيّة الظلال، وتنام في جرس أوراقها المهتزّة برفق قاتل.
تعطي الطّبيعة والاشياء عنف النّسور وصرخة أجنحتها
وحبّات الدّفء المغسولة بالمطر. لا تعرف الأوزان والرّنين. الرّنين مقطوع والأوزان
لا ذيول لها. لا تهتمّ بشيء، لا بضوضاء الأعلى المنحوس ولا بضوء الأرض القزحيّ، بل
بضوء قوّة الأسافل وهمس العظام المائيّ وطقطقة النشيد في النيران. تهتمّ ببريد المحبّات
الصّغيرة والموت بين الملعونين قرونا كاملة... ربّما كان ذلك بسبب أجراسهم أو تصويتاتهم.
في صباح الوردة كتاب يُقْرَأُ
للغيب والأعالي المنحوسة. تترك الوردة هذا
الحلم للجنازات وآلات التسجيل.
* *
قرأتِ الوردة طقوسا آسنة لأشجار
عجفاء تأكل لحم الآخرين، بينما تفوح رائحة أقدامهم فيما تصنعه. ما صنعتْه خلّصنا من
غيب الحاضر وقذفنا في الوهم الآخر الضّالع
في الموت وحافزه في الوهم الآخر الذي لا يُرى من كثرة الحياة. ما صنعته الوردة كلاب
نابحة في غرف اللّيل، سقطت أسنانها من أثر نباح طويل على الطائرات.
تسعد الوردة كثيرا بقوّة نسيانها،
ببرق نعاسها الذي لم يشهدوا دمه وأغصانه الطّريّة. تترك لهم نتونة الأوزان ودود الألفاظ،
وتأخذ معها هشاشة الياقوت. تضعها في فناجين المحو ونكهتها.
لا حاجة للوردة السّفليّة أن يعرفوا وجهها ويديها
....
غبـطة الـوردة (1)
[ اليد البيضاء التي تهجم آخرةَ اللّيل ]
شمس الغبطة التي أورقت مادّة أغصانها بشكل آخر. أمتعتها
المشعلة بريح المعارك. يدها التي شردت في المهبّ. شهوتها المعطاء جارحة مجروحة(صوت
وصدى) تنبت صباحاتٍ وزهرًا وأجراسًا تحت الأمطار وعصافير تحبها ملكات الأرض وفراشات
تخبّط في الليل وأمطارا مجنونة الرّغبات. بداياتها صخر يهب الماء وفجر ينأى ويقترب.
الشجرة الخضراء، روحها الممزّقة صباحا في الأواني
والمرايا أصل للمغفرة والكلمات، حيث البرق والقرون السّاخنة والإحساسات المفتوحة على
الهشاشة والرّعب و«الذّئاب الفضّيّة». أغصانها التي لا تُطاق «سُلطة» لا تقدر على حملها
الجبال المليئة بذئاب الغابة. أسماؤها وحروفها وأفعالها وخياناتها النّهريّة. صحراؤها
وعشقها لبن الأرض. خيمتها البحر وأمعاؤها التّمر. جسدها وروحها وأقمارها أصابع الشاعر.
فتوّتها مشي ونبضها إشراق يقرأ صَدَف الرّؤى والمياه. عيونها رحلة وفلاتها نهار نَزِق.
يدها الماء ودم الكلمات الضّاحك
مادًّا ساقيه على الأعشاب. آكلة ومأكولة وصوت بعيد بسبعة أبواب. هي فتنة أسمائها وأشيائها.
وَقُودُها زيت الخنازير ومعدن الفجر. هي ذات نورها وإمكاناتها أبد. جهنّم بفصولها.
زبانية دون أيد أو رؤوس، تلك العاهرة. فصولها مراكبُ الشاعر التي سمعتْ رِيحَهُ. وحرائق
البحر التي رأتْ مَرَاكِبَهُ. أعمال البحر الأولى ببساطتها ومكرها وسذاجتها وموتها.
فجرها روائحُ غريبةٌ في انتظار مطر يمشي على ألف ساق. لونها الماء وفتنتها الشمس التي
سمّته (أَوْ أخذت اسمه نهبًا واغتصابًا، لا فرق أبدا) كأنّ رياحها لم تكن ملحا من قَبْلُ.
ريحها الشمس التي مزّقت غيماتها القديمةَ، الحيّة الرّقطاء التي تقاتل من أجل البحر.
الإشراقات، اليد البيضاء الممَجَّدَة، كثافتها وضجّتها الخالقة كَسْرًا وتَلاَعُبًا.
المجد أعوامها التي سقتها من ماء النّار، واخضرّت
في العين التي كشفتها ونبّهت إليها. أمطرت دما أزرق وأضاءت ثعابين برونزيّة ورقصت معها
في شعريّات مفتوحة لم تدركها الأموات في الزّبد السّكران، في حمّى الثلج الضّاحك أوّل
أعوامه.
تبدأ الوردة من غابة ليست محروقة
: تمنح الشاعر مجدَ حرق الغابة وجبالِها. تمنح شجرةَ الحياة منقارا كبيرا محدّبا ويدا
بيضاء تأكل الزّواحف الهاربة من النّيران.
هي هكذا أبدًا يا أبناء زناة اللّيل والنّهار...
غبـطة الـوردة (2)
[ اليد البيضاء التي قادت حرب
الغابة ]
عاشت حربا كاملة في الجبال، تكبّدت غبطتها ونامت
في شجرتها الحيّة، في طرائق حضورها الممتلئ.
رأت مجرّة فاغرورقت بها آلاف الأعوام.
الموجة المعاصرة الفتّاكة بقلب وحيدٍ عار. المجد
واللّعنة معا. البرق الغامض، الأغصان الواضحة، لم تخجل من جلجلة الفضّة التي أعطتها
للنّيران هناك. النّور البحريّ الذي أضاء وأنبت جبالا أخرى للإيقاع الفاخر في جسد آخر.
الشجرة التي أيقظت سبات الغابة العتيق وأعطتنا صقرا
وعينين وأوتارا حادّة. البذرة النّزقة لشجرة الحياة، البذرة الحارقة التي زُرعت في
جبل من النّور والكلمات.
ثمّة أشجاركريهة، تقود العالم بأياديها الدّودية،
إلى غرف لا تبصر رائحة الوردة. في الجهة الأخرى، المليئة بالأحزان والدموع. تلجم الوردةُ
أفواهَ الأشجارِ العطنةِ بالذّهب والمناجل والأسلحة البيضاء.
الوردة قوّة ضاربة في الأرض، غبطة الأنسجة والألياف. الشّمس
التي لم يبصرها الحالمون «بعَدْن» منذ أن غادروا حلواهم الأولى فلم يعرفوا غابة أو
بحارا.
«كن» آلة روحها.
- احملي «كن» أيّتها المثاقيل
المثقلة بوردة تخدش أو تلطم خدود الأرض، تمزّق أشياءها وأسماءها وجبالها العالية وشجرتها القديمة وشاعرها ويدها البيضاء.
- لتمض كلّ شمس إلى بحرها ولْتملأه
بالإشعاعات.
- «كن»، آلة البحر التي رأتِ المساء
عصافير كثيرة تتجمّع في أشكال مختلفة وتدلج صوتها في الأرض.
- «كن» لغة البحر الذي دفن ألواحه القديمة وزبده في شجرة الحياة
متقدمة الأطوار والعصور، المليئة بالسّماويّ الهشّ وبالأرضيّ المتوحّش المرميّ في الظّلال
تحت أشجار الغابة ...
هكذا، أبدا، الوردة في ظلال الشّمس. هكذا،أبدًا،
الوردة شمسٌ.
غبـطة الـوردة (3)
[اليد البيضاء التي تكنس الأشجار
والظّلال]
دموع الصّباحات حرائقها الأولى.
خطوات بحرها الشّمس التي عضّت شفاه النّهار. سكرتها, موتها، جحيمها الذي قيل في البحر.
بروقها، اشتعال ضحكتها الحزينة ونجوم رغبتها المغسولة بالدّم.
ريحها الأولى التي ذاقها الشاعر
بلسانه الأحمر الممدود بقسوة. دموعها التي حوّلها الشاعر ذهبا وأطلق في دمها ذئب كلماته.
أخذ غيمة دموعها، و بيّض بهمستها اللّيل الكبير. ريحها الشّاعر الذي رتّب رؤيا الشّمس
الزّرقاء وأنار بصوتها أرضا هشّة.
أزاح من عينيها عتمة الأغاني القديمة.
و أزهر في يدها ضفافا ولوزا.
أزهرت شمس الوردة في سديم الشاعر وخرجت «مركبا سكران»(1)
من عيونه. وردتها ذهاب آخر .. وردتها كلّ ما قيل في البحر من لوعة مسبوكة بعناية.
أيقظت في الشاعر كلمات الصّباح،
شرايين جماله المتثائبة، الأعوام القديمة التي كانت تلهو غافلة ساذجة ومزّق شفاهها
الرّماديّة. بدايتها حالات مختلفة من الرّيح والدّم. شمس بحرها كانت بلا أيد تغسل رمل
الجحيم (الوردة). افتتحتها بالضّوء وماء العصور ونثرتها في الجبال لغسل الغابة كما
ينبغي. تركت أشجار الشّمس عمياء في طفولتها. أسالت عتمتها كلمات وأسماء وأفعالا وحروفا
وإيقاعات. أشعلت ثلجها بصوت الوردة وصداها. قرأت بدمائها أصدافا وأشرقت عليها بأجنحة
خاطفة.
قامتها : وهْم تطاولها. ما أجملها
وما أعظمها تلك الشّمس القديمة. يدها غيمة جارحة حيث أوجد لها الشاعرُ وردة طائرة تكفي
لإراقة جداول الشّمس على الأرض، تكفي لإشعال رغبتها في القموح. حملَ الشاعرُأثقال الصّباحات
وأنهك الدّجى بالوردة العالية وبوفرة مياهها، ثمّ قاتل بالإمكانات الأخرى أتربة الأمواج
وأشواك الأحراش وزؤان حبوب القمح. أمسكَ الأطياف والأشباح الميّتة في الأصل، الأشياء
و«الأفكار الفضّية» عرّفها بمرجان البحر، بالأعمال المفتوحة «هنا» و«هناك» في القيعان،
حيث الأطياف كثبان دجى الأشجار والعاصفة الخضراء ذئاب كلمات عاوية والظّلال هاربة.
بغصن الرّيح كتب الشّاعر ماء الشّمس ولوعة الوردة
... فلا تنسيْ أيّتها الشّمس أنّ الوردة لها غصّة في الحلق إسمها الحياة ...
----------------------
1) آرثور رمبو.
غبـطة الـوردة (4)
[اليد البيضاء التي تنقذ الآخرين من اللّعنة]
* قرأتْ شاعرها ولعنتها أوّل الصّباحات.
ملّأتْه بحبّها وألقت على شفاه شمسه ملحا كثيرا.
الوردة حال ومقال، فتحت للشّمس
الأولى ذراعيها ولم تحزن. فتحت لها يدها البيضاء الصّلبة كي لا تلعنها. فيما بعدُ فتحت
ذراعيها للأمطار.
* فكّرت دوما : إنّ شاعرها لا
بدّ له من حفظ أشيائه الثّمينة وسماته المبثوثة في التّلافيف، لا بدّ له من حفظها لدى
شمس لا تحبّ هؤلاء وأولئك. هذا ما فعلَتْه منذ الفجر، الوردة التي تبكي أبدا كي تصير
الظّلال حزينة غنيّة بما يجب أن يحدث.
* أحبّتِ الوردةُ الشّمسَ الحالمةَ
باللّوز، وأعطتها منه ما يكفي، كي يكون الشّيخ «ماركيز» صادقا على الأقلّ فيما رآه
«فالأماكن لا تتقدّم في النّور [الشعريّات واللاّشعريات المفتوحة] إذا لم يكن لها ربّة
متوّجة»(1)الشمس : يا أرجوحة البحر الكبير !
* الشّمس دقّت بكعبيْ حذائها الصّغير
وردةً على شفاه الشّاعر فيما افتقدت يديها الوحيدتين في الرّيح ! أمّا ظلال الشّجر
المحروق فهي لم تتوقّف عن المشافهة والمكاتبة والتدوين. كذا كان كتاب الوردة مقروءا
ومسيحيّا دون حدود.
(ثمّة فواصل وخانات لا بدّ من
ملئها كلّ صباح جديد).
* شاعرةً كانت، همُّ شمسها صيدُ
العصافير الكثيرة فوق البنايات العالية. كان عمُرُها صيد قلب الشاعر وأصابعه. عُمُرُهَا
تلك اللّعنة المسائيّة الشّيّقة التي تتخبّط فيها عيون الشاعر. قرأ لها الأغاني المليئة
برائحة جوارب الموتى ورأى في عيونها الواسعة الجميلة ظلال العصافير وتَرَقْرُقَ كلمات
الشجر، نعومة أصابع الأرض وهشاشة السّماء المجروحة بسيقان العصافير !
* بوجهها العريض، مليئة بشاعر
آخر لا يأتي سوى في غيابها، حوّلت أحلامها إلى وردة تركت الشاعر وحيدا تحت سياط الأمطار
وعادت إلى الظّلماء تئنّ في رقصات الموت الأولى.
* آلامها الصّلبة، كانت تتهيّأ
على نحو ما هائل (على نحو شعريّ بالأساس) في شمس ترتجف في آنيتها كلّ صباح من الظّمإ.
* أشفق عليها الشاعر من يديه وكلماته.
كان يعلم أنّ «الحظوة تكون للشّعر أبدا ولا تكون للشّاعر بمثل ذلك !»(2)
ما يجب أن يحدث دوما هو تمجيد
الوردة وطرد الشّاعر. صلبه وقتله وتهميشه. يجب قتل الشاعر ذلك الظّامئ في ضجيج الأعالي
المنحوسة، في الأشياء البسيطة الحارقة التي تمرّ خلال أصابعه. دام هو وما كذلك، أبدا
فلتنصبّ عليه لعنة اليونانيّين دوما.
* دفع الشّمس إلى تحويل غرائزها
وموتاتها الصّغيرة إلى رقصة رائعة تضيء عميقا داخل الكهوف والمقابر وأحجيات الكهنة.
* الوردة كانت شمسا في قلب طائر
شفّاف، تشرب الغيوم وتحتاج إلى شاعر يفكّ ضفائرها ويبلّ ريقها بحليب السّماء الهشّة.
* لذلك كلّه، من أجل ذلك الظّمأ،
وتلك اللّعنة اللّطيفة دخلت مع الشاعر أبوابا لم تعرفها أمام كلّ باب حطّابون ذوو أياد
وأسنان بيضاء.
----------------------------
(1) الروائي «غابرييل غارسيا ماركيز».
(2) الشاعر «ديريك والكوت».
غبـطة الـوردة(5)
[ اليد البيضاء التي قطعت ذيل
الحصان ]
«تجمّدت الوردة، جلست عليّ لتخنقني»،
مرّت «الوردة» بين أصابعي. احترقت رئتي. هناك «وردة لتمرّ الوردة على هواها». وبقدر
ما كانت تلك «الإيقاعات» تحرّر الأرض سطرا سطرا صار من الصّعب فكّ «الوردة عن تساقطها».
الغامض يتراكم على الغامض، ليحتكّ
بالغامض، ويقدح الوضوح. و«الوردة» حبيبة «الزمان والمكان»، «كانت خائفة» من الوقوع
فريسة أنين لا يصل.
أحسّ بوجع شديد جرّاء إصابة «حدثت»
استغاثة لا تبلّغ مصيري إلى أحد «سوى الوردة».
كيف يُترك اللّيل وحده في «الوردة»
!؟ يقتلني هذا الغباء. لا أستطيع وحدي أن أرصد جميع تحرّكات «الوردة». «الوردة غافلة»
عن هذا الخطر ...
من «الوردة» تخرج « وردة» أخرى.
أن توقظني من «الوردة» «وردة» أخرى هو تفسير «الوردة». ولكنْ في الوقت متّسع للموت.
هل التقينا كثيرا ؟ مرّتين : مرّةً
تحت المطر، ومرّة تحت المطر ... فجر محمول على النّار. كابوس يأتي من البحر. ديوك معدنيّة،
دخان، حديد .. وفجر يندلع في الحواسّ كلّها قبل أن يظهر.
هدير يطردني من «هذا» السرير و
يرميني .. كفى .. كفى : «صرختُ» لأعرف إن كان في وسعي أن أفعل شيئا يدلّني ويشير إلى
مكان الهاوية المفتوحة على جهات «كثيرة».
لا أستطيع أن أستسلم «لهذه الوردة»
ولا أستطيع أن «أقاومها». حديد يعوي فينبح حديد آخر. حمّى المعادن هي «إيقاع» هذا الفجر.
لو استراح هذا الجحيم لأقف على قدميّ، لنمضي معا، أنا وهذا النّهار. إلى «الوردة» بحثا
عن مكان و«زمان» آخرين. كيف أذيع رائحة «الوردة» في خلاياي فالموت هو أن ترى الموت.
و«الوردة» لمن أدمنها مثلي هي مفتاح النّهار.
ابتعد قليلا عن النّار الخفيفة
لتطلّ على شارع ينهض للبحث عن «وردة أخرى»! العصافير وجدت نفسها وحيدة مع بدايات الضّوء.
تغنّي لتشفي طبيعتها من ليل سابق. تغنّي لها لا لنا! لتفرح بماء يتدفّق من «وردة» مكسورة
على طريق «جديد». للماء لون يتفتّح في انفتاح العطش. للماء لون أصوات العصافير و للماء
طعم الماء.
------------------------------------
* هذا النّصّ إعادة كتابة لنصّ طويل للشاعر « محمود
درويش ». شكل من أشكال القراءة التي تنهض بالشعريّ وتفتحه. تأصيل آخر للتجربة الدّرويشيّة
الرّائدة. تمّ إبدال أمكنة وأزمنة لغاية فنّيّة حيث تتّخذ الوردة رمزا. بمعنى الكشف
والرّصد والتنبيه والإشارة.
غبـطة الـوردة (6)
[ اليد البيضاء التي تُعاش أكثر
ممّا تُقال ]
تترك ما للماء للماء وما للحجر
للحجر.. مليئةٌ حسّا ورغبة. متعذّرة أيضا. حزينة وجميلة. متخفّية في أعوام أخرى. في
رعب آخر، في شكل آخر، وليس ضروريّا أن تكون بهذا الشكل. قفزة في المتاهة وهواء للمجهول.
صعود بلا سلالم. هبوط بلا حبال، ضوء غريب وبهجة
ودمار. جمال رعب فوق الصّخور. مجد ساكن. شمس نائمة في الظّلال. عذبة وقاتلة بلا أيد.
ذرات رمل متناثرة. قصب مكسور في أوّله وآخره. مركب ذهبيّ سكران. حقول اكسير. فضّة إثم
معجونة بصلصال الوهم. صليل موت آخر. مياه مليئة بجثث الموتى. ألفاظ ترقص في نبع مصهود.
كثافة ظلال سحيقة.
كواكب تظمأ إلى ذاتها لتكون. غناء
دائريّ. غريزة حيوان. كريمة وبخيلة. شحيحة ويد مطلوقة بلا حساب. سبات ويقظة. سخريّة
الكمال من النقصان. لذّة وانتقام النّقصان. جبال تتداعى. غابة تحترق. أبّهة تتدلّى.
أجنحةُ طائر ذائبةٌ. رماد يتحوّل إلى شاعر. شاعر يتحوّل إلى شجر. غريبة لم يفتضّها
أحد. كبّة لهب مدلهمّة بنقرات العصافير. خفافيش تتحوّل إلى مذبحة.
فجأة تأخذ مجراها نحو فجأة أخرى.
شهقة خطوات في الملوحة. جرم مسعور يسقط في الأرض. نيزك غواية. حمحمة بحر مقطوعة بضجيج
الأعالي المنحوسة. ضحكة الشاعر الواسعة العمياء.( عبرة وتحمحم حصان)(1) في الرّيح.
فلاة ماء متوحّشة. صهيل ساخر وعنيد.
أكوام لحم على الرّمال. أشجار بسيطة. حياة هشّة أقوى من الحياة ذاتها. مرآة مشروخة
بالكذب. نداء عميق لظلال الأشجار. اخضرار دائم. شقوق ونمل مزروع في الجدران. نجمة دافئة
تسبح في بحر الضّجيج السّفليّ. أرواح ناريّة أشباح متنعّمة عائدة من أعمال البحر. لعنة.
خمرة مسكوبة بعناية. تآويل دمعة حارقة. سباحة مطلقة. أرض شاسعة. طرقات ضيّقة. طيران
محض. بركان أو برتقالة رماديّة عائمة. أسلاك شائكة.سجن كبير. تواصل دائم. انقطاع كامل.
خانات فارغة. بريد مجهول. صلوات صغيرة ضائعة. أصفاد حرّيّات الصّباح. دقّات عشوائيّة.
أوزان الخرافة. ذيل الحصان المقطوع. جنون التّسمية والإشارة والدّلالة. نشيد عفن لا
يكترث به أحد. قلق الأرض وثراها الأسود المغتبط. غبطة الوردة المزروعة في العتمة. أسنان
الرّجال الطّيّبين العائدين من البحر بأسنانهم البيضاء وشفاههم الرّقيقة الممزّقة.
جلجلة خفيفة وراء جبال تتصدّع. تَحنان كبير ولمسة حانية. سذاجة مرّة وحفلة بغيضة. لا
إجمال أو تحديد. تُعاش أكثر ممّا تُقال. تُعاش فقط ولا تُقال.
تلك هي الوردة التي تحمّلها الشاعر. تلك هي التي
«لوّح بها وتحمّلها وحيدا»(2). ذلك هو «اللاّ مرئيّ الجوّال»(3). ذلك هو الأبد أو اللّعنة
مطلقا.
------------------------
(1) «عنترة العبسيّ».
(2) «أوديسيوس إيليتيس».
غبـطة الـوردة (7)
[ اليد البيضاء التي «لا تُحتمل
خفّتها» (1)]
الوردة.
الشاعر.
الجنون.
المطلق الخاصّ.
الحديقة المسيّجة.
الغبطة اللّعينة.
الظّلال والينابيع.
المجد إذًا، لليد البيضاء التي
لا تُحتمل خفّتها !
-------------------
(1) الروائي التشيكي ميلان كونديرا
.
منـاديـلُ مـعلّقـة
أكوام لحم على الرّمال البيضاء
وطرق بحريّة مالحة. أمكنة سهلة لا تشي بأيّة ضراوة لريح أو عواء. الأمكنة خيوط رقيقة
مثل مواليد الفجر. هكذا يجب ما كان وأكثر من ذلك ما سيكون : رياح شماليّة شرسة وقطّاع
نجم. الليل : حيث تلد الفجائع شجرات حمراء، حيث الخطوات الملأى بعبق الوردة. حيث الأقمار
البيضاء والزّرقاء في قلبي تماما. حيث مجاهل الرّغبة وجمالها وجلالها، حيث الأحلام
الصّغيرة تجد مقاعد في الأمطار.
لم أكن حزينا هذا اليوم، كنت رقيق اليدين أغنّي للأعشاب
النّائمة أسفل كلّ قمر، كنت أتلمّس الأعشاب اللاّزورديّة بعينيّ الصّغيرتين. أتلمّسها
بعيدا بأصواتي، أتقمّصها بينما النّهار يعذّب قلبي بضوئه.
البارحة كما لو كنت أسفل الجحيم،
سلّمت على وردة صغيرة جدّا : إنّي أسمع كلماتك على الورقة، لكن لماذا كانت أصواتك زرقاء
كلّها !؟ لماذا كانت زرقاء إلى حدّ ملموس وأعمى!؟ البارحة فقط أدركت خرافات الأرض،
فمثلي أيّتها الوردة الخالصة طائر فوق الصُّدفة!
طائر لا يحبّ الضّجيج المسائيّ
وهتاف المناديل الزّرقاء العائدة من البحر، طائر يحبّ الضّجيج الصّباحيّ وهتاف المناديل
الزّرقاء الذّاهبة إلى البحر، لا يحبّ سلام العجائز. طائر يحفظ الآيات القديمة للشّمس،
يتمتم بها في الرّيح ثمّ يغتسل في نهر اسمه المحبّات الخالصة الغضّة !
وحيث أجلس في المساء في بحبوحة
رجل غطّاه الماء تماما، أرسم صراخ الأقدام، أقدام الآخرين المائلة، أكوّن بها نجمات
ملثّمة بأحزان اللّيل ثمّ لا شيء آخر. سيقان متورّمة في الماء من أثر اللّوعة، مناديل
مهيّأة للتّعليق، شفاه بغايا مغروسات في الاسفلت، نباح عجلات في آخرة اللّيل، بساط
منعّم لكلّ هذه الكلمات التي تحيا ..
نادني إذًا واجعلي أصابعي بيضاء
إلى أبعد حدّ في الأرض وحمائمَ يُحتّم عليها احتساء الرّيح الدّافئة.
أطـلـس
للشّمس البحريّة نكهة امرأة تهجر
بيتها بلا أمل في الرّجوع. للسّماء هيئة امرأة بربريّة تقتل بحنوّها الكامل. صوتها
يروّض الرّعد ووجهها يوقظ المطر. يجعله، عندما يرغب في ذلك، يمشي على اثنين، وأحيانا
أخرى على واحدة فقط. تلك الغبطة، القمر الذي يتدحرج مقطوع الأطراف والنّساءُ البحريّاتُ
يجلسن بإسمه وردات أو عساليجَ ضوء.
للشّمس البحريّة أن ترمي السّماء
المنحوسة بالحصى وتتدثّر بأناقة المشهد. هذه البربريّة لها طفل يصطاد الأفق بشبكة دموعه
وبعطر خطواته. البربريّة تفكّك خلاخيلها، تجلس وتشمّ رائحة قدميها كي لا تستسلم للنّوم.
حتّى التّجاعيد التي ترونها، ليست كذلك، هي الوشم الأزرق، الوشم الأوّل لمياه
بربريّة، شجرتها ليست عانسا، وكلماتها ليست كلمات النّمل التي تتحشرج تحت أرجل الحصان.
تعرف وردة الثّلج القصبَ الذي
يتمرّد على المقاعد ليتآكل مثل قمح نهديها أو مغالق رغبتها. تعرف الوردة المشاعل التي
ترقص في بحيرة الدّمع. لبحرها نوافذ وكتب وأصوات ومصابيح تقرأ كتاب الرّمل وغيره من
الكواكب وحناجرها يتجمّع فيها حصى الحرّيّات الصّباحيّة لمشية النّعناع ..
- ماذا تفعل الوردة أو بحيرة الدّمع
السّكرى بين الشّاعر والشّمس ؟
- تنمنم التّراب، تغسل الرّيح
وتمحو تجاعيدها بالأمطار والخمرة والرّغبة المطلقة في المضاجعة والتكاثر.
- ماذا فعلت فراشات رفرفت على
يديّ قبل أن تحترق ؟
- قبَّلَتْهُمَا بانتظام خرافيّ.
* *
هكذا، عندما ترون قوس قزح يتساقط
شعره ويهرم، انسوا كيف ومن أين يبتدئ ...
هكذا أيضا، دائما للنّهار قميص
يمزّقه اللّيل، للملائكة سرطانات مذعورة، سمكات تقتلها رماح الرّغبة، أو بلّورات مكسورة
بعناية .. في حين لا تزال النّجوم الأخرى التي بقيت في حناجرنا، تتهادى وتبحث عن عمل
آخر، حروفه الموج. إنّها لا تبحث عن نشيد أو أغنية بل عن ذيل مقطوع لحصان بحريّ أو
بريّ .. لا فرق .. الأحصنة القديمة تصهل ونحن نقطع ذيولها لأنّها لا تعجبنا. في هذا
الأطلس شجر يتبادل العصافير ونوافذ تحتفل بفجر آخر. اليد البيضاء فجرها كلمات تتبلّل
بالضّوء. تخلع الرّؤوس كالقمصان، والجوارب العاشقة تلبسها وقتما تشاء. الزّبد يتحوّل
غالبا إلى رعد والغيمة تتحوّل إلى فراشات . عاهة النّجمة تتحوّل إلى زهرة أو قُبلة
أو إغماضة لأجمل عاهرة على الإطلاق.
- ماذا تريدين منّا ؟
- ما أروع تلك النّوافذ الصّغيرة
التي خرجت منها العصافير !
* *
أغصان خضراءُ تفكّ أزرارها، تحرّر
أهدابها من الدّمع وتستسلم لنوم آخر. تخرج من شمس البحر آلاف الشّفاه وآلاف الأسنان.
لثوبها اللّحميّ هدير تغتسل فيه، ولأصابعها ذئاب فضّيّة نأنس بها.
لتكن الكلمات أحلاما وضجيجا عائما والكتابة امرأة
لم يتذوّقها أحد، أو امرأة أخرى مالحة من كثرة الوطء ! لا فرق ..
* *
لم تعد ترى، بدأت ترى أصواتها
الآن. اسألوها من هي. اهمسوا لها. هل التقينا حقّا مرّات تحت الأمطار. ها هي تنهض أسماءً
أخرى للأنهار والضّوء .. تجمع بريد عظام اللّيل وتلقيه خواتم وأساور.
- لماذا كنت جميلة ؟
- لأنّ السّفينة هي التي تراك،
لا الموجة.
قولوا للشّمس إذًا أن تغيّر هيأة
يديها وهي تستقبل همس الأشجار ورسائل المحبّين والعشّاق. قولوا لها أن تنمّق وجهها
على نحو آخرأكثر إلذاذا من عواء ذئاب اللّيل في غابات الثّلج .. قولوا لها كوني عطرا
آخر لمغامرة الحكي حتّى تصير الأرض نافذة تتّسع لعينيها وأهدابها .. تعرف الشّمسُ محاراتِ
البحر وقناديلَ اللّيل. تعرف سكاكين القمر وطراوة أفخاذه، تعرف ألسنة النّباتات وشفاه
الأزهار.
* *
انجلت الغيوم. انهمرت الأمطار
في أمكنة أخرى. صارت غرفة الصّباح الضّيّقة بملايين النّوافذ.
هاهي العصافير تهاجر باستمرار
أيّتها الشّمس ! ولم تعد خائفة مرتعدة طوال اللّيل ...
أكـوان عائمـة
[إلى عبد الواحد السويّح وليلى
الجزيري انتصارا لوردة حبّهما الأبديّة
انتصارًا أيضًا للوردتين الصّغيرتين
«محمود» و«طه»]
يد بيضاء على قلبها ونجمة خضراء
على يديه.
هكذا، غيمتان ممطرتان تنزلقان
من جبل آخر في الصّباح. سوف يمسك بأصابعها : ها هي، ها هو يبكي كأنّما شجرة تحترق داخل
طفلين خائفين. سوف تمسك بزجاجه المكسور لتصنع طائرة ورقيّة، وردة أو همسة عصفور مبتلّ.
هو : الكلمات نساؤه والحروف أجنحته.
هي : كلماته فرسي البيضاء وكلماتي
غبار ليل قديم.
* *
حبّتان صغيرتان طائرتان فوق جدران
اللّيل.
* *
نافذتان تتبادلان المياه والأشرعة،
الأصابع والمناديل، المحار والصّدى، الأزرق وسواه، الوضوح وغموضه.
* *
هو : باسمكِ أشعل خطوات ألف امرأة
في الشّارع.
باسمك أركب حصاني المرميّ وأخيط وسادة صهيل.
باسمك أبني قرى من الأعشاب والحلازين الأليفة
على الضّفاف.
باسمك نساء كثيرات بعباءاتهنّ الشّتويّة ينظرن
إلى أصابعي المقطوعة بالضّوء.
باسمك يخرج صيّادو المحار بمعاولهم وفوانيسهم
وأسنانهم البيضاء.
باسمك أقف في صيف بارد وأتمتم بالنّجوم.
باسمك أغرز سيوفا في عينيّ لتسقط أزهار صغيرة
وفراشات حكْي.
باسمكِ أفعل ما بوسع فراشة أن تفعله.
* *
هي : باسمكَ أجرح الهواء والسّلالم
وأعدّ لك آنية من الظّلال والينابيع.
باسمي تدخل حانات اللّيل لتجمع دموع الأصدقاء.
باسمك أنام في شجرة وأتغطّى بالغزلان والطّيور
والأمطار والبروق.
باسمي تضع طائرة الذّكريات في كأس خطير.
باسمك أصنع مرآة بمياه أخرى وألمس أوراق العالم.
باسمي تربّي الدّيدان الصّغيرة الخضراء في
الأفواه.
باسمك أمسك امرأة مجنونة من شعرها بكلمات خفيفة.
باسمي تجمع الحروف من الرّمال وتضيء متاهة
اللّيل.
آلـة تـسجـيل
هكذا، هكذا أيّها الرّفاق
:
- اقطعوا صلتكم بالأشجار الخائفة.
- لا تثقوا بالخنازير التي تملأ
البيوت كلّ يوم.
«هكذا، هكذا، إلى أن ينكسر القلم
عند الكتابة»(1) أيّها الرّفاق.
- كلّ بيوت هذا المكان مملوءة
بالرّوائح النّتنة.
- ثمّة آلاف الكلمات التي تنبعث
هذا اليوم من أفواه قذرة وذئبيّة تتربّص بأصابعكم الخفيفة وأصواتكم الجذلى في الأثير.
* *
إلى أين تذهب الوردة ؟ إلى أين
يذهب نصّها ؟
تلك أسئلة قذرة فيما يخيّل إليكم طبعا أنّني كتلة كثيفة ناعمة عاجزة
عن إضمام شفتيّ وتلمّظ آخر/ أوّل قطرات اللّيل :«الابيض الأوّل» و«الافتتاحيّ المذهل»(2).
انظروا مليّا أيّها الرّفاق :
أنا أحبّكم كثيرا، لذلك لا تتوقّفوا عن الوشاية بأصابعي. أنا خارج القمر أصلا فوق هذه
الأرض المدهشة. فوق القمر، لا .. لا.. تحت القمر بقليل. لذلك لا تبحثوا عن تعلّة لقطع
مؤخّرتي بفظاعة. اقطعوا مؤخّرة الشاعر كما ينبغي ثمّ استمتعوا بتنضيد الأزهار في مكان
آخر. انظروا مليّا أيّها الرّفاق : الأعالي منحوسة ولقيطة فلا تنظروا إليها. انظروا
فقط إلى مؤخّرة الشاعر وهي تهتزّ.
الأزهار التي نزلت من مؤخّرة الشاعر،
تلك التي قطعتموها في الصّباح الباكر(في الفجر أو ربّما هو كذلك) هي نفسها تلك الأزهار
التي شقّت طريقها جيّدا. صار لها فم مفتوح أشبه بمنقار طريّ. لها عيون صغيرة وخياشيم
بينما أجنحة صغيرة في ذيولها اللاّمعة .. إنّها تتنفّس (تقهقه) في الأسفل .. تنظر إلى
ديدان الضّوء التي وضعوها(هم، لا أعرفهم) فوق تلك الأسلاك الحديديّة .. كلّ أسلاكهم
(هم) في شكل معقّفات، لذلك تسبح الأزهار بلا هوادة في ضجيج الأسافل الممتع .. أولئك
الذين لا ينظرون إلى الينابيع الواقفة تتبختر بلا انتظام تحت الشرفات في المساء.
القطّة جائعة بانتظام خرافيّ وهي
لا تعرف أنّ الدّقائق السّتّة التي مرّت بعدها (وربّما قبلها بكثير) هي غبار تلك الانفجارات
التي حدثت بين الشّمس والبحر. كلّهم باستثناء القطة الأولى، تلك الجائعة بانتظام خرافيّ،
نقلوا بغباوة كلمات أصليّة من معجم سقوط الاقمار.
الوردة (ميكانيكات الرّغبة)المحرّكة
للمستهترين الجدد. هي نفسها التي كانوا يجهلونها ويخافون منها. هي نفسها التي يتشدّقون
بها هذا اليوم دون حياء. لقد نزعت تلك الكلمات البيضاء سراويلَهم وراء الأشجار، وعندما
أطلّوا هاتفين واضعين سراويلهم فوق أيديهم هاتفين مهلّلين : لقد نزعنا سراويلنا تحت
الأشجار لنغتسل منها (لنغسلها) وهاهي بمياهها السّاخنة فوق رؤوسنا!
هي نفسها تلك .. تلك اللّطخة الكبيرة
التي حدثت وراء أعيننا، أمامها وخلفها تماما جرّاء سقوط دائرة ضوء حارقة في قطعة قماش
باردة وطريّة ..
* * *
أيّها الشّعاع الملكيّ : شعاع
الكذب والسّخريّة والمجاملة وأكل الخبز بأحزان الآخرين، يا شعاع القذارات والنّتانة.
أيّتها الخنازير الكبيرة والصّغيرة التي تملأ الاثير بالمخاط والمنيّ والقيح والقطران
.. اهدؤوا قليلا أيّها الرّفاق : ثمّة موكب ملكيّ يمرّ .. لذلك انتبهوا ولا تصفّقوا،
حيث أياديكم مقطوعة من كثرة ملايين التّصفيقات اللاّزورديّة للرّنين العاديّ. أيّتها
الرّصاصات البنيّة، أيّتها الخنازير مرّة أخرى، انتبهي إلى الرّصاص البدائيّ .. لم
يعد ثمّة رصاص أخير أيّها الرّفاق ..
---------------------
(1)أبو حيان التوحيدي.
(2) الشاعر الإسباني « أنخيل غارثيا
لوبيث
لــولـب الــوردة
( بيان الكتابة )
* نتذكّر العالم قبل مجيئه.
* ننهب القصائد القديمة ونُدخلها
أنظمةَ النّسيان.
* نلتفت مرّة واحدة إلى الوراء
لنقتله.
* نحرّك خدعة الأشياء من جديد.
* نغسل قميص السّماء جيّدا ونرتديه
في الغد.
* نحمل أوراقا لا تشبه الذّاكرة
في شيء.
* نحلم عند الفجر بعودة المنسيّات
الفاتنة وندفع طفل الرّيح كي يتذكّر لونها.
* نترك أنفاسنا في الحروف ونفضح
«الوردة».
* نلمّع أحذيتها السّكْرى وظلالها
كما ينبغي.
* نمسح الأرصفة الكثيرة المغطّاة
بالزّهر والدّم.
* نُطعمُ أعشابَ الذّاكرة للبنادق.
* نقضم الذّاكرة بين أكفّنا ونتّجه
بلا وجه.
* نُرضع الغزلان من صدورنا ونشرّد
أسماكنا في الينابيع ونرعى الفراشات من السّكّين.
* نكبر خلف السّياج وتهزّ العصافيرُ
مُهودَنَا.
* لا نقلّد انحناء السّماء ونحفظ
سوسن أعمارنا والنُّجومُ توائمُ أرواحنا.
* نحمل في قلوبنا الكثير من المجازر
والشّوارع المنكسرة وبين أيدينا الذّاكرة والدّم والأخلاط الهشّة ومدن اللاّوعي.
* نخرج الكلمات الغرقى من الرّكام
وندخلها جرحا آخر اسمه «الوردة» والأطفال والأمطار النّازلة محض عطاء.
* نقصي الكثير من النّعاس ونجلس
قلوبنا، وكلّ طفل منّا بألف شمس وألف قمر.
* نعرف أنّ الأمطار تسبّب البلل
وأنّه ينبغي لنا أن نلعب بها، لكنّنا نُلزم «الطّبيعة» بأداء عملها مع أيّ «عقل».
* الظّلال أنّ الأسلاف لم يموتوا
والنّغمة أنّهم توقّفوا عن الحركة.
* تحصي المنازلُ في الأيّام الغائمة
أسماء عشّاقها لتدخلهم ضباب الخرافة.
* إنّهم يحبّوننا لأنّنا نرغب
في تنويع الحديقة.
* نغسل أنفاسنا في اللّيل، تحت
الظّلام، وفيما بعد نغسل الأشجار.
* نريهم، فيما بعد، الأوراقَ ونمجّد
الرّيح الواهبة للأشجار. نضع في كلّ شجرة نجمة ولا نلتفت إلى الوراء لأنّ الأشجار تحرسنا
من عضّات النّجوم !
* نحمل في قمصاننا البروق، نمطر،
نرعد و«نعطي لكلّ حرف لونا»(1).
* نتعرّى لنملأ شرفاتنا بالزّخّات
ودقّات أحذية الماشين سكارى والنِّعَم الحمراء في وجوههم وعيونهم وأصابعهم.
* نفتح صوت النّيران أمام القادمين
من المعارك مبتلّين وبنادقهم مبتلّة ومُطَأطَأَة على ظهورهم.
* نترك أصوات الماء في غرفها ونغلق
الأبواب جيّدا. البكارات تُفتضّ والآخرون دماء خارج الغرف !
* نحوّل قلقنا إلى دعابة وضحك
وننسى «العالم» نهائيّا. ننسى أصواتنا تحت الأمطار بلا معاطف ونقبّل الحياة بنهم بينما
أصوات النّار المبتلّة في شفاه من يسمعوننا أو يشمّوننا أو يروننا أو يلمسوننا.
* نُخرج أطفالا كثيرين من أصواتنا
أشبه ببحار أو مناديل معلّقة. نأخذ ضجيجهم ببساطة لنشعله.
* نهدهد أرواح الأطفال كي لا ننسى
النّوم والأشجار والبحر.
* ندفع لآخر مرّة كلّ الصّخور
الكبيرة، أعلى الجبال، في اتجاه البحر والعالم يتساقط مثل الأمطار. نعم، الحروف تغيض
والهمهمات بعيدة .. مشدودة باللّوعة.
* نقرأ البرقيّات والصّلوات والمياه
وفي الأعلى نغرّد مثل الثّلج المكسور من أجل عيون نسائنا.
* نتحايل على الشّعر ونقيضه ونحرق
أكوام اللّوعة وفي قليل من اللّيل نلفّ أجسادنا ونضع فوق كلّ مكان لطمة أو لطخة.
* نمزج البحر والسّماء والأرض
أخلاطا هشّة. لذلك أمطارنا لَدِنَة وعشّاقها متنعّمون وحمامُنا قرأ تاريخ الصيادين
* الوردة، الحشود والحركات، الصّورة
الأصليّة للجوع، جوع الشّمس والبحر وهما يلتقيان أوّل أو آخر مرّة ..
لا فرق هنا بين الموت والحياة حيث الموت قطعة من
الحياة والحياة قطعة من الموت.
* الوردة أيضا سطوة الحكاية على
المكان، الحكاية تتحوّل إلى مكان، نسجا وتدلالا، فيما يستيقظ المكان في كلّ ركن أو
آهة أو حرف ..
* الوردة / الحكاية هي المكان
الوحيد والأخير بين «مَا قَبْلَ» و«مَا بَعْدُ».
* إجمالا، تمنح الوردة صوتا لكلّ
ممرّ هوائيّ أو حجر أو غصن أو حبّة تراب !
------------------
(1) مثلما فعل آرثور رمبو.
فردوس
... يخرج الرّوائيّون مصفّقين
بلا أيد أو كلمات : يا «أنكيدو» أين صديقك
الخالص .. يصمت «أنكيدو» بينما تبتسم أصابعه ضاحكة، يمدّ لهم أوراقا ملّيمتريّة خضراء
مشعّة في شكل برقيّ .. إنّه يأخذ حصّته الكاملة من النّوم في حين يعلم «أنكيدو» أنّ
الصّديق الخالص في حجرته البيضاء الواسعة في انتظاره لينام. قال لهم «أنكيدو» وهو يزيح
غطاءً مَّا ليدخل إنّه لا يريد أن يرى أحدا. هو الآن معها (وردة الموت). التفت إلى
الوراء – إليهم – رآهم يلتقطون بنهم تلك الأزهار الدّمويّة الصّغيرة.
* *
يخرج المغنّون : هَوْ .. هَوَوْ
.. هَاوْ .. هَيَيْ (سبعة آلاف مرّة). ها هم يندبون الشّمس الأخيرة التي سقطت في البحر
.. بينما هي تستحمّ أجمل استحمام في العالم، كأنّها تستحمّ لأوّل مرّة مع أنّها تفعل
ذلك كلّ يوم ولا يرونها ! إنّها تتأمّلهم وهم ينظرون إليها في الأسفل، أسفل المياه
السّاخنة. لقد تبدّلت جلودهم .. عندما رفعوا رؤوسهم، لم تستطع أعينهم إبصار الكتلة
الدّائريّة الحارقة في الأعلى وهي تضحك :
ابتعدوا .. هيّا ابتعدوا .. أريد
أن أستحمّ هذه المرّة .. طَافْ .. طَرْطَافْ .. (لا يسمعون أيّ شيء .. لا يرون أيّ
شيء .. لا يلمسون أيّ شيء ..).
ابتعدوا قليلا ... هيّا ابتعدوا
.. ثمّة ستّ عشرة دقيقة حتّى تدخل القطّة العجيبة في «أغسطس» الأبيض. يخرج المغنّون
ليلتقطوا بنهم تلك الأزهار الدّمويّة الصّغيرة التي سقطت من مؤخّرة الشّاعر.
بـريـد مـصـوّر
[ ها أنا عدت إليكِ من الحرب أخيرا
وبندقيّتي مرفوعة](1)
أحبّ الوردة لأنّها نامت نومتها
الأخيرة. ولذلك تحديدا كان «العالم». أحبّ الوردة كثيرا، ولكنّي أخفي كلّ تلك الشّتيمة
كي لا أعذّبها كثيرا ..
أمس، منذ دقائق قليلة، قلت لصديقتي
الوحيدة :
- اذهبي إلى الجحيم ! لا تتركيني وحيدا لذئاب اللّيل.
أجابت فاغرة الفم : ماذا أيّها
الوغد !؟
قالت أيضا : اذهب إلى الجحيم
! أمنحك طريقا للذّهاب بعيدا (إلى قلبها العاري طبعا).
قلت مستدركا (في قلبي طبعا : يجب
أن ........ ) : أحبّك لأضيء جهات أخرى لا أعرفها.
لا يعرفها الآخرون. لكن كيف أمجّد
كلّ تلك الأمطار السّاخنة التي كانت تنزل في«أكتوبر» اللاّمع !؟ ذهبت (هي) إلى مائها
غاضبة. وعدت أنا – مثل الكلب تماما – إلى «الدّاخل» لأشرح وأفسّر وأقرأ وأكتب كلمة
واحدة بغباء تامّ : أحبّك كي أرى، كي أكون أعمى تحديدا. طبعا، ليس هذا مدحا للشّمس
الحارقة النائمة في «مياه الدّاخل» قطّة متنعّمة بينما قبضتاها الحديديّتان تتوعّدانني
في الهواء مجروحتين !
* *
الوردة بين أصابعي باستمرار. كنت أريد تجربة «الفرار»
التّافهة الحقيرة بمثل هذا الشكل. كسرت جميع أزهار اللّوز وعرفت بعد ذلك أنّ الحبّ
الأعمق هو الغفران، لأنّ الأشجار الحقيقيّة هي الوحيدة التي تغفر كلّ شيء للأطفال النزقين
الذين رموها بالحجارة وهي مثمرة تماما ..
* * *
عندما تخسر وردة فادحة يجب أن
تكسر الأقلام وتمزّق كرّاسات الدّروس البغيضة. يجب أن تضرب بيديك ورأسك تلك الجدران
التي تحرسك ببندقيتها الوحيدة من الخلف. البندقية بين يديْ الوردة وساقاها بحيرات سكرى
من الدّموع.
-------------------
(1) تصاديا مع نيكوس كازانتزاكي.
صـلاة أكتوبر
كلّ دقيقة من «أكتوبر» التّونسيّ
مليئة بالنّسيان.
حتّى دقائق مارس وأفريل وماي السّكران
مليئة بالضّحك والأزهار.
أعطت الوردةُ ما لا يعطى، بينما
انهمكت عصافير يديها في شيء آخر. النّهار تحوّل بغتة إلى ليل طويل، بينما ظلّ اللّيل
يأكل أصابعه ويُخرج لسانه للعابرين . النّهار تحوّل بغتةً إلى عصافير.
وأنت في محطّة الصّباحات، صباحا
أو مساء، ترتجف مع ضحكة آنية زهر أو دم، وتقرع أجراسا داخل غرفة ليل الوردة، سوف ترى
شمسا هدّها الشوق إلى الأرض، إلى الأسرّة البيضاء في البحر. سوف ترى وجوها مالحة لرجال
قتلهم «اللاّ شيء» و«اللاّ مكان». ترى أرداف
نساء مشروخة من كثرة نسيان اللّيل. سوف تعود الأغنية كما بدأت :
[العماء (يا سيّدتي) سيّد الأشجار
وكلماته تطير في الصّباح والمساء. العماء سيّد اللّيالي والغيوم شفاه على الحقول. لكنّ
السّماء عادة تنام وفي أحضانها طفلة في العاشرة] كيف لي أن أوقّع هذا العماء الخرافيَّ !؟
يجب أن يتمزّق هذا المكان بالأمطار
والحروف والأسماء وأن تعرف السيارات التي تنهش هذا اللّيل أنّ «الشاعر» نائم، وأنّ
الشعراء الذين يحمحمون داخله كلّهم عائدون في لجّة اللّيل ...«ايكار» الصّغير عائد
أيضا من هناك ...
[العماء(يا سيّدتي) أشعل النّبات
والأشجار والنّجوم. أزهار «أفريل» سافرت في اللّيل ولم تعرف الرّجال والنّساء والأطفال
ولم تر الغيوم. وأنت (يا سيّدتي) يا وردة المعابد نائمة في اللّيل بلا شفاه.] تتطاير
الوردة غدا في الصّباح الباكر، في الفجر، في الضّحى. سوف تسقط أذرع كثيرة زرقاء وخضراء
وبيضاء فوق المباني. سوف تصرخ النّساء : الأمطار تنزل. سوف تصرخ العصافير: القموح تنزل.
سوف يصرخ الرّجال : الأزهار تنزل. سوف تصرخ الفتيات الصّغيرات : البرتقال الأزرق ينزل
في النّهر .. سوف تخرج أسماك اللّيل ... سوف تسكر الأشجار ...
نجـمـة أكتـوبـر
كائنات صغيرة لا تتوقّف عن المشي
والقفز، تغرق الأشجار والأعشاش والنوافذ الصّغيرة لبيت الشّاعر. تتدحرج وردة عاشقة
إلى بؤرة الحكي، إلى مرآة في الصباح. اسمها نجمة أكتوبر وعنف المياه على الزّجاج الهشّ،
التّحطم الرّائع لصمت اللّيل وضحكة الشعراء العاملة في البحر.
[ أمّا أنت ] أيّتها القطعة الكبيرة
من الحلوى كفّي عن البكاء سوف تعلو نجمة أكتوبر بدموعك. سوف أحلم في منامك كي لا يسقط
النّهار دون علم الأغصان الخضراء بذلك. أمس تحطّمت الصّخور الكبيرة وحملت الأنهار جميع
التوابيت الصّفراء .. خرجت قيلولات «جويلية» و«أوت» الملساء مدحورة بلا رجعة.
[ أما أنت ] يا نجمة أكتوبر، ها
أنت مخطوفة ومنهوشة تماما، مثل قطعة حلوى مرميّة في آنية صباح غامض. دمي يغرق في عينيك
وأنت تذهبين «هناك» .
ها هو أكتوبر الغامض يا عواء وردة
الثّلج، يمسح دمعي بيدين رقيقتين. يذوق الدّمع المالح ويسقي أشجار الحكي ويلوّن سيرة
الازهار والينابيع بالأخطاء والآثام والخيانات. أيّتها الأكوام الغامضة تبّا. وتبّا
آلاف الاعوام لشروح اللّيل البغيضة. تبّا لك يا نجمة «إيكار» صغير بلا أصدقاء
..
(2000)
خـاتـم الـوردة
عندما يتعلّق الأمر بكارثة شعريّة
فإنّه يتعلّق بصوت طائرة ترتجف تحت ضربة عصفور صغير في الأعالي أو يتعلّق بانحناء عاشقة
صغيرة لأوّل قبلةٍ من فتاها الأوّل عادةً. هكذا يُخيّلُ إليّ وأنا أقرأ عملاً شعريّا
قاسيا وشفّافا ...
* *
أعترف لك أنّ الكتابة ضوء، لكنّي
لا أعتقد أنّ الضّوء هو نفسه ما يشعّ دوما باعتباره مدعاة إلى السّخريّة أحيانا. سوف
تجد نجمة في انتظارك، نجمة خضراء تعوي من كثرة النّسيان. إذا وجدتها خذها ولا تخش شيئا.
خذ سكّينا لامعا واقسمها إلى نصفين أو إلى أكثر من نصف. سوف تجد في انتظارك بحيرة سكرى
من الدّموع فاملأ منها إناء أو إنائين واترك أصابعك تلمّ العطر ! في ربيع تونسيّ قلت
لوردة قطّعوا أوصالها باكرا في الفجر، قلت لصديقة القمر، أمّ العصافير : «لعنة الضّوء
عليك» !
(2003)
عودة الينابيع
«النص تميمة» كما يقول رولان بارط،
ففي صباح غامض «تفتّحت تلك الوردة في غبارها القديم» (1). ليلتها، ونحن نمسح القذى
عن عيوننا، لم نصدّق لسعة البرق ولم نصدّق أحدًا. خشينا أن تُحبس أنفَاسُنا أعوامًا
ونحن نصرخ في النزع الأخير: أقدامنا أدماها الحصى والجبل قرب أصابعنا ! وقبل أن نغمض
عيوننا مرّ جنرالات الموت على آلاف الجثث القديمة المتفحّمة من أثر البنزين والكبريت،
لقد مرّوا عليها مثلما يمرّون على أوراق النّعناع. كان الموت يسعل لإخافتنا بشاربيْه
الطويليْن .. ثم لا شيء آخرَ : الوردة تصفّق فيها أعشاش الرّيح ويداها الحمراوان تصطكّان
مثل أسنان البرق. الوردة تعثر على شعرها الأسود لأوّل مرّة وفرسان الموت يمرّون في
خُيلاء!
في النّصّ، في حركته الدّاخلية
الممضّة العاتية، الحصى يتساقط من كلّ الجهات، في الطرقات وفوق الأشجار، والأغصان تتمزّق
بفعل الحصى وفي خضمّ ذلك تتلوّى أصابع الشعراء مثل ثعابين جميلة وتتشابك مثل قوس قزح
مقطوع. في «حركة نصّ» دومًا ثمّة بنادقُ قَنْص وكلابٌ مدرّبة على الرّوائح وجنود ببدلاتهم
الكاكيّة حيث تقف عصا الكتابة مثل أفعى في يوم قائظ !
في الغابة، لا شيء يفيد أنّ للنيران
بطنا كبيرا، وأنّ لحاءَ الشجر يفيد اللّون الأزرق. نحن إذن، ضيوف الغابة، عشاءاتنا
من لبن الماعز وأغطيتنا من وبَر النُّوق وهتافات النسيان وقهقهات البرق في ضلوعنا نحن،
أبناء النّص / الكلب، تؤلمنا المسافة القصيرة جدًّا بين الشعر وسيرة الأمكنة. تؤلمنا
القمصان الرثّة للآخرين ليلاً نهارًا، حيث يكون النبيذ أقرب إلى أرواحنا من صلاة، لأنّ
النبيذ فعلُ الصّلاة!
يؤلمنا وهْم الشيوخ والحرّاس وكهنة
المعابد في الحكمة، يؤلمنا صراخ الأطفال حول ثريد أعراس الشعر الخاوية على موائد اللّئام
! لسنا أيتامًا، ولا شيء يُخيفنا : لا البيت ولا الطريق! نحن الطريق مشاؤُون باستمرار
مثل أخينا «آرثر رمبو» لذلك أحذيتنا مثقوبة دومًا وسراويلنا ممزّقة.
نعرف أهازيج البدْو والرّعاة وحداء
الإبل، نعرف الأغنيات السّكرى والتلال والينابيع والقلال على ظهور العذارى! نحبّ نبيذ
النصّ وسلال الذّهب مثل اصداف لامعة والنجوم تمائم أرواحنا نجعلها صلبانًا لكم فوق
صدوركم مثل مُعلّقة شُكْرٍ! عندما ينزّ العرق من بين أصابعنا نسبّ جلالة العالم بصوت
مرتفع مادّين للمارّة ألسنتنا الحمراء ثم نبصق على الرّمل مُنزلين سراويلنا شماتةً
في الرّيح لأنّّها تخجل من عوراتنا ! نحن لا نبدأ إلاّ من البحر! من البحر أوّلاً أيها
الرّفاق يا توائم النجوم والأيائل ! ندخّن سجائرنا التي هي بطعم الصنوبر بشراهة ونتقن
الكلمات القذرة. تعوّدنا أن نقرأ الشعر في البراري والحقول لكن خلافًا لأولئك الذين
يقرؤون اللّيل من الخارج هاهي الآلة التي نكشط بها الحجارة!
لابدّ لنا من منازل لها جدران
عالية. لابدّ لنا من أسوار شائكة تحيط بمنازلنا. لابدّ لنا من حدائق. لابدّ لنا من
غرف للنوم في منازلنا. لابدّ لغرف النّوم من سماوات بيضٍ وألسنة شمعدانات ولهب خيزران.
لابدّ لنا من غرف أخرى لمعرفة اللّه وطنين ذباب الأرض. وأكثر من ذلك أيضا، لابدّ لنا
من غُرفٍ للسّعال. لابدّلنا من شرفات لنبصق منها على العالم!
(...) في «حركة نصّ» القصيدة مسمار
تُعلّقون عليه معاطفكم لذلك، لا وقت لنا لإلقاء اللّوم على أوّل القرن! النصّ غابة
ونحن فؤوسها. لابدّ من العودة إلى الشعر حيث الفكرة أمضى من السّيف والمعنى أبلغ من
جميع استراتيجيات القراءة.
عندما يصفّق الشعر بداخلنا تَصْطَفق
ريح وراء الأبواب منادية شجر الغابات. لذلك تروننا محتفلين دومًا بالمطر والبرق. فنحن
غجرُ النصّ!
---------------------------------
(1) حسب الشيخ جعفر.
٭هذا النصّ بيان شعريّ من بيانات
«حركة نصّ» الشعرية التونسية التي ولدت في جويلية 2011 وتضمّ الشعراء : أمامة الزّاير،
زياد عبد القادر، شفيق طارقي، نزار الحميدي، صلاح بن عياد، خالد الهداجي وعبد الفتاح
بن حمودة.
تونس صيف 2011
* حين شرعت في قراءة «كتاب حركات
الوردة» شعرت أنّنّي أستعيد لذّة أليفة، بعيدة، مفقودة، كان «الشعر» يتأكّد كلّما تقدّمت
في القراءة، وكانت «الوردة» تزداد علوّا وبياضا حتّى لامست تويجاتها أصابع أحد الملائكة
.. في تلك اللّحظة تماما، في ذلك اللّيل المقطوع بصفير القاطرات، امتلأت الغرفة بعطر
يونانيّ، كانت «الوردة» تهبني الإحساس بعظمة الكائن، ذلك الإحساس الذي فقدته منذ ضياع
كتاب «نيكوس» : «تقرير إلى غريكو» في كتاب «حركات الوردة» ثمّة تهديم لكلّ الحدود الفاصلة
بين أنهار الكتابة، ثمّة تخريب حقيقيّ لاستراتيجيّات القراءة. إنّه كتاب صعب، مستقبليّ،
يبحث بلا هوادة عن آفاق أخرى لتحرير المعنى من أصياف اللّغة ..
ميلاد فايزة (1)
04 مارس 1999
* قرأت، كذلك، وبكثير من المتعة
«كتاب حركات الوردة» لإيكاروس. لكن أيّة طريقة اختارها للقول .. تلك اللّغة !؟
عَوَّاءٌ فظيع وخطير جدّا ! لأوّل
مرة في حياتي أقرأ شاعرا يتحدّث عن تجربته في الكتابة بتلك الطريقة .. كمن يقشّر روحه
قشرة قشرة بأظفار ساخنة. في كتاب«حركات الوردة» تحليق ما في أجواء عالية جدّا. أرجو
ألاّ يسقط في البحر ثانية، يجب أن يسقط في الجحيم بدل ذلك ...
(من رسالة الشاعر رضا العبيدي
(2) إلى
الشاعر فتحي قمري (3)
تونس 22 جانفي 1999.
(1) شاعر تونسي مقيم في «ميشيغان»
بالولايات المتّحدة الأمركيّة.
(2) شاعر تونسيّ مهاجر قطع «الألزاس»
على أقدامه مثل «آرثور رمبو» قادمًا من ألمانيا نحو فرنسا.
( .. ) يُقدّم إليّ نصّ. هذا النصّ
يضجرني. لكأنّه يثغثغ. وثغثغة النّصّ،لا تعدو كونها رغوة اللّغة التي تتشكّل تحت تأثير
مجرّد الحاجة إلى الكتابة، ونحن هنا لسنا في الانحراف بل في الطّلب.
(...) على النصّ الذي تكتبونه
أن يقدّم إليّ الدّليل على أنّه يرغب فيّ. وهذا الدّليل قائم : إنّه الكتابة. والكتابة
علم متع اللّغة (وهذا العلم ليس له إلاّ مصنّف واحد هو الكتابة عينها).
(...) النّصّ تميمة، وهذه التّميمة
ترغب فيّ. ويخطب النّصّ ودّي عن طريق ترتيب كامل لشاشات غير مرئيّة، وعن طريق مماحكات
انتقائيّة تتّصل بالمفردات، وبالمراجع وبقابليّة القراءة ... والآخر، المؤلِّف، يضيع
دائما وسط النصّ (لا وراءه على شاكلة إلاهٍ من آلهةِ آليّةٍ من الآليّات).
من كتاب « لذّة النصّ » لرولان بارط.
تعريب : فؤاد صفّا والحسين سحبان.
ضرب من الكتابة ليس مألوفا كثيرا في ساحة الأدب
العربي .. نصوص تزجّ بذهن القارىء في مناطق أخرى لا هي بالشّعر ولاهي بالنثر، كائناتها
وحوش ضارية تجري صاخبة في مسالك وعرة، تفصل بين الواقع والحلم وتصل بينهما في الآن
نفسه. هي سبل المحو أو السبل الممحوّة من الذاكرة .. تأخذ هذه الكتابة عتادَها من ذلك
البياض المهول الذي يغلّف الآفاق الممثلة للوجه المرئي من الجهة الأخرى، لتشرع في الحفر
والهدم والبناء داخل أسوار الإبداع على ضوء
حدس ملامح الوجه الخفيّ وفق ما تشير إليه حركات
الوردة/الكتابة فحسب، دون اعتبار لضجيج المعادن المفتعل الذي يُثار حولها ...وهي من
خلال ذلك كلّه لا تنقطع عن البوح السّاخن الذي يلامس هذه الوردة - المجسّدة لفعل الكتابة
– في جميع أطوار تشكّلها، يلقي بالنّور فيها ومن حولها ليصوغ بأسلوب شعريّ راق شهادة
صادقة عن مدى رهافة أوتار العلاقة الجامحة بين الشاعر والكتابة، باعتبارها جزءًا من
أعماقه يخرجه باصابعه، وما يتسبب فيه تحرّك هذه الأوتار وسكونها من آلام وحرقة ولذّة
تصل حدّ الرّعشة وانقذاف العواء ...
تجديفات في مناطق قصيّة جدّا،
شهادات من حمم عن مكابدة الحرف، رؤِية حديثة وجريئة للكتابة : هي جملة العناصر التي
تضافرت لتكون صراخ هذه النصوص. صراخ جاء، بحكم النفس الشعريّ المتوفر بغزارة، دافئا
وعذبا رغم هديره القويّ، مختلفا حتما عمّا اعتادت عليه أذْن القارئ في لهجات البيانات
السّائدة ذات النبرة الفجّة ...
إنها «حناجر الجيل الأدبيّ الجديد» في سعيه الواعي
والمشروع إلى تجاوز الرّماد والحلول في وردة الفصل الخامس الذي لاينقضي.
رضا العبيدي
تونس 2000
(شاعرتونسي مقيم بفرنسا)
نص ينفلت من المقولات الأجناسية/الهوية
الأجناسية ليفتح أفقا جديدا لتجريب إمكانات القول الشعري. نص يؤسّس لرؤية شعرية هي
بمثابة الخلاصة التي سار إليها الشاعر في معترك القصيدة وأثناء عمل كادح يأبى العاديّ
من الأنساق.
نستشفّ سيرة الشاعر في رحلته صوب
المعنى وفي اتجاه تشكيل النصّ : أثر القديم/وقع الحافر على الحافر، الوجود/العالم مرئيّا
ولا مرئيّا، هوس التجريب والافتتان بالشعريّ المحض/بالجمال الخالص المخلص لذاته، الإبحار
عميقا في اتجاه الفتنة، الأصابع التي أدماها الحفْر فإذا بالشاعر يلْعقها ويعلّقها
شمعدانات لنرى الطريق.
أدواتُ الناقد يجرّها إلينا هزءًا
ثم يفكّكها فتصير حبّاتِ ضوء.
عينُ القارئ يسحبها من محاجرها
ويلقي بها في جوف الرّعب، ويأخذ بيده إلى مدارات مغايرة/مدارات جحيميّة كي يريه فقط
أن العالم لعبة طفل مكسورة، ليريه الإيقاع إذ يتجرّد من ملابسه الداخليّة.
أمامة الزاير
تونس 25/09/2012
الفهرس
- الوردة المجروحة بالإثم
- الكتابة بالأمتعة :
- (1) الجبالُ حدثًا شعريا يعاش
- (2) ماانتهت إليه الحداثة
- (3) كتابة الأرض بالأسماك
- (4) كتابة الأرض بالأطفال
- (5) كتابة القرون القادمة
- إشراقات الوردة (1)
- إشراقات الوردة (2)
- إشراقات الوردة (3)
- إقامة الوردة .. إقامة البرتقال
- الوردة في شمسها وهم لا يجيئون
بمسلاّتهم
- أمطارها
- قيامات صغيرة
- أطلس الوردة
- وردة الخوف
- الخطايا
- الجميل النائم
- أشجار بحرية لصباحاتها
- هي بلا ألوان والشاعر يضحك
- رائحة الوردة.. سيرة المكان
ـ الوردة لا مرئيًّا
ـ صباحات الوردة العاملة في البحر
ـ سارقة الموت
ـ غبطة الوردة:
ـ (1) اليد البيضاء التي تهجم
آخرةَ الليل
ـ (2) اليد البيضاء التي قادمت
حرب الغابة
ـ (3) اليد البيضاء التي تكنس
الأشجار والظلال
ـ (4) اليد البيضاء التي تنقذ
الآخرين من اللّعنة
ـ (5) اليد البيضاء التي قطعت
الحصان
ـ (6) اليد البيضاء التي تُعاش
أكثر ممّا تُقال
ـ (7) اليد البيضاء التي لا تُحتمل
خفّتُها
ـ مناديل معلّقة
ـ أطلس
ـ أكوان عائمة
ـ آلة تسجيل
ـ لولب الوردة
ـ فردوس
ـ بريد مصوّر
ـ صلاة أكتوبر
ـ نجمة أكتوبر
ـ خاتم الوردة
ـ عودة الينابيع
- الحركة/ النص/ الثورة
- وردة في العاصمة
- عن حركات الوردة
- إشارات عن الكتاب
هامش :
- ولدت فكرة هذا الكتاب في كلية
الآداب بمنّوبة أواخر 3991 بنص «الجبال تُعاش أكثر مما تُقالُ»(أو غبطة الوردة(6) طيّ
هذا الكتاب) وانتهيت من إنجازه في ديسمبر 0002 بنصّ «نجمة أكتوبر». ثمّ أضفت نصّ خاتم
الوردة(3002) ونصّ عودة الينابيع(جويلية 1102).
- كُتبت هذه النصوص في المدن التونسية
التالية: منوبة، تونس، الدندان، طبلبة، المكنين، المنستير، سوسة، مساكن، المهدية، قصور
الساف، بني خيار(نابل).
- نُشرت نصوص هذا الكتاب في الملاحق
والمجلات التونسية والعربية التالية : ورقات ثقافية (الصحافة 49/69)، جريدة الشعب،
جريدة الأخبار، مجلة الحياة الثقافية، مجلة الإتحاف، مجلة المسار. جرائد : القدس العربي،
العرب، الزمان(لندن)، جريدة العَلَم (المغرب)، جريدة الفينيق (الأردن)، جريدة أخبار
الأدب (مصر). مجلة ألواح (مدريد)، مجلة ضفاف (النمسا) مجلة مرافئ (المغرب)، مجلة الحركة
الشعرية (المكسيك)، مجلة الكتابة الأخرى ( القاهرة).