الجمعة، 7 أغسطس 2015

الناقد عمر حفيّظ يكتب حول تجربة الطاهر الهمامي


تجربة الطّاهر الهمّاميّ،،،
الخلفيّات الثّقافيّة وحدوس الشّعراء  
تقديم
بين الإبداع والواقع علاقة مكينة، فيها من التّداخل بقدر ما فيه التّفاصل. فالإبداع في أشكاله المتعدّدة والواقع بدلالاته المتحوّلة يتقاطعان على أنحاء مختلفة في حيّز الذّات بالمعنى الذّي تكون فيه الذّات مفردةً ومركَّبةً في آن معا تحقيقا لهويّة الإنسان الهيراقليطيّة، إن في الواقع وإن في الإبداع.   
ولا شكّ في أنّ التّحوّلات كبرى، أو حتّى انعطافات المربكة نسبيّا تدعو إلى إعادة النّظر في تلك العلاقة القائمة بين الإبداع والواقع –وهي لطيفةٌ و دقيقةٌ- من زوايا مختلفة. فأسئلة كثيرة يمكن أن تُطرح من جديد في سياق ما حدث في تونس، وما تفرّع عنه من مسارات.
وطبيعيّ أن يتفاوت النّاس في التّقدير وأن تتباين آراؤهم بخصوص المثقّف والثّقافة عامّة، وما يمكن أن يتعلّق به وبها من أدوار. وما يمكن أن تكون عليه علاقتهما بالسّلطة- أيّ سلطة، وليس بالضّرورة الحاكمة- فّثمة سلطات أخرى أشدّ قمعا وشراسة كالسّلطة الدّينيّة في كثير من الوقائع والسّياقات.
وربّما كان التّفاضل بين المجتمعات يقدّر بالكفاءة في تدبير الاختلافات وتصريف فائض العنف، في الفنون على اختلاف أنواعها مثلا، وبناء المستحدث واحتضان الآخر المختلف والتّأسيس لقيم العيش المشترك حتّى تتجنّب الدّولة الانهيار والسّقوط ويحمي مواطنوها أنفسهم من الاقتتال والفوضى...، ولعلّ المدخل الأمثل إلى ذلك كلّه هو التّأسيس للثّقافيّ الذّي لا ينجز إلّا بجهد جماعيّ وحدود من النّزاهة المعرفيّة والأخلاقيّة، بعيدا عن الارتجال والاستسهال حتّى لا يُعاد إنتاج التّهميش أو التّوظيف السّياسيّ الذّي يحدّ من حريّة المبدع.
ولعلّنا نتّفق جميعا على أنّ هذا المسار الذّي نعيشه ليس سليلَ لحظة مفردة، وإنّما هو طبقات من الغضب والأسئلة والأحلام جسّدتها شعارات وثيقة الصّلة بالايديولوجيّ والثّقافيّ بصفة عامّة.
ومن قبيل التّبسيط الذّي يرفضه التّاريخ أن نتحدّث عن "الثّقافيّ" بصيغة المفرد أو من زاوية مفردة لسببين اثنين على الأقلّ:
1- الثّقافيُّ ملازم للإنسان؛ بل ٳنّ الثّقافيّ هو هويّة الإنسان الأولى. به يتمايز وينفرد.  فكلّ فعل إنسانيّ هو فعل مكيّف ثقافيّا. والبشر لا ينتجون مجتمعا فحسب، بل ينتجونه ذا أشكال عديدة لا حصر لها،  وقابلا للتغيّر دائما وأبدا،  وشديد التّعقيد في تفاصيله وٳحكام بنيته(1)
2- الثّورات أو حتّى الانتفاضات كالنّصوص تماما، تكتبها ذوات متباعدة متقاربة ينتظمها الائتلاف والاختلاف في آن معا. وما حدث في هذه الدّيار ليست ثورة دينيّة أو اشتراكيّة أو بورجوازيّة ، ولم يقدها حزب وطبقة أو تحالف... وٳنّما هي فعل ذوات، لكلّ منها إيقاعها الشّخصيّ وذاكرتها وماضيها البعيد وأحلامها وغضبها واستيهاماتها ونصوصها وتاريخها وأسئلتها ورهاناتها.
وربّما كانت الرّسوم والشّعارات من أوضح أشكال التّعبير عن إيقاع الذّوات الذّي لا يقبل التّنميط. ففي تونس العاصمة، مثلا، وعلى جدران فضاءات السّيادة، كتبت شعارات كثيرة، منها " أخيرا أحرار" " لا خوف بعد اليوم" " تحيا الحرّيّة " " لا للتدخّل الأمريكيّ " " لا للتدخّل الفرنسيّ " " ارحل " "ما أحلاها تونس بلا ابن عليّ والأربعين حرامي"  كما كتبت شعارات أخرى تخطّت الممنوع والمحرّم.
وإذا كان الغرافيتي أو غيره من الظّواهر( أغاني الرّاب مثلا) ممّا تزامن مع الأحداث أو سبقها بقليل،  فالثّابت أنّ الإطار الثّقافيّ الذّي يتّسع لما حدث يمتدّ على حيّز زمنيّ واسع قد لا نتّفق على بدايته. ولكن يمكن أن نقف فيه -على أيّ حال-على لحظات واسمةٍ لتاريخ تونس الثّقافيّ تتيح لنا أن نفصل بها بين سابق ولاحق أو بين حركة أو جماعة ثقافيّة وأخرى أو بين قديم ماضويّ ومجدّد أو حداثيّ.
الخلفيّات الثّقافيّة
من اللّحظات التّي تسم تاريخنا الثّقافيّ بمياسم خاصّة، لحظة "حركة الطّليعة" التّي ساهمت في تشكيلها عوامل كثيرة (تونسيّا ما حدث 1969،، عربيّا هزيمة 1967،،، عالميّا: الثّورة الفيتناميّة والثّورة الصينيّة وانتفاضة ماي 1968 بفرنسا...) وقد آمن كتّاب الطّليعة وشعراؤها بدور الأدب والثّقافة عامّة في مقاومة الاستبداد والّظلم  كما آمنوا بوظيفة الأديب أو المثقّف في الدّفاع عن المجتمع وعن المعنى وحرّية التّعبير إلى حدّ وصل ببعضهم إلى المغالاة في الدّعوة إلى ذاتيّة تونسيّة واستعمال الدّارجة للاقتراب أكثر من الجماهير الشّعبيّة التّي كان حظُّها من الثّقافة العالمة قليلٌ.
وكان الطّاهر الهمّامي على رأس الجناح الشّعري في الطّليعة على حين كان عز الدّين المدنيّ زعيما للجناح السّردي، أمّا محمد صالح بن عمر فكان رأس الجناح النّقدي-التّنطريّ.
وقد غيّر الطّاهر زوايا نظره أكثر من مرّة، دون أن يتخلّى عن ثوابته الثقافيّة والفكريّة والنّظريّة بخصوص الفنّ ووظائفه. فقد انتقل من غير العموديّ والحرّ إلى القصيدة الموزونة ذات المصراعين، ومن الحديث عن كتابة لا شرقيّة ولا غربيّة إلى تأمّل التّراث وقراءته والكتابة فيه ( أطروحته مثلا)(2) ومن رفض التّجريب إلى ممارسته. يقول في سياق حديثه عمّا شهدته تجربته من تحوّلات: إنّ احتفالي بهذا الفعل الماضي( يعني غير العموديّ والحرّ) اليومَ، لا يعني مواصلة تبنيَّ الكاملَ لما تضمّنه من رؤية فنيّة وكونيّة. فمنذ ذلك الوقت حتّى الآن حصلت أشياء كثيرة على صعيد فرديّ وجمعيّ لا يمكن لها أن تمرّ دون أن تترك أثرا. فقد انتقلتُ عبر العَقدين المنصرمين من "طليعيّ إلى "واقعيّ" ثمّ عدت أكتب ما نهيت عن كتابته بالأمس( القصيدة العموديّة) وإن كان ذلك من منظور مغاير للسائد والمألوف، دون التّخلّي عن تجاربي الجماليّة الأخرى(3) .
يدافع الطّاهر، إذن، عن الفنّي والجماليّ منذ أن شرع في الكتابة. وقد كان خصومه يتّهمونه بأنّه أفسد الشّعر وانحرف به عن سننه بأن قدّم الفكرة أو القضيّة أو المعنى على البناء والوزن والقافية، ولكنّ هذه الاتّهامات متهافتة، فهو يردّ بـ"أنّ الثّوريّة والالتزام والموقف، أمور لا تبرّر الإسفاف الفنيّ ولا ينخرط الشّاعر أو الفنّان الفاشل بموجبها في عداد المبدعين(4)  كما أنّه كان يرفض أن ينعت شعره بأنّه تجريبيّ لأنّ التّجريب إذا فُهم على أنّه استسهال يصبح أعجز من أن يحيط بالذّات وهي تكتب حالاتها المختلفة. يقول: شعري ليس "أدبا تجريبيّا"(...) فغير العموديّ والحرّ أوسع مجالا وأبعد مدى وأكثر توفيرا لديمقراطيّة الخلق والإسهام، يضيق بالتّمدرس ويرفض المدارس ليتجاوزها"(5)
إنّ ما تمّت الإشارة إليه يؤكّد أنّنا إزاء تجربة لها سندها النّظريّ وثوابتها الجماليّة. ولكنّها تجربة مرنة ترفض الجمود العقائديّ والتكلّس الآيديولوجيّ لأنّها تعيش متفاعلة مع الواقع في مستوياته وأبعاده المتعدّدة. فـ"الشّعر فنّ أوّلا وايديولوجيا ثانيا وعمل ثالثا"(6)
إنّ هذا التّرتيب يؤكّد وعي الطّاهر الهمّامي بأنّ الفنّ وما تقتضيه طرائق بنائه وتشكيله وكيفيّات التّعبير فيه عن الواقع والذّات من تحويل للّغة وتخييل للواقع، مختلف عن الايديولوجيا وما يداخلها من تبسيط وتبرير أو ادّعاء أو اختزال أو تَبَاهٍ بالقدرة على تقديم الأجوبة لكلّ الأسئلة.
صحيح أنّ الفنّ لا يوجد متعاليا عن الواقع ولكنّ القناعات والأفكار التّقدّميّة وحدها لا تخلق شاعرا أو فنّانا حقيقيّا ولا تبرّر الإسفاف أو الرّداءة(7) والإبداع لا يمكن أن يولد داخل الأقفاص ولو كانت ذهبا(8)  ولكن هذا لا يعني التّنصّل من مسؤوليّة الالتزام في معناه الجماليّ والإنسانيّ النّبيل الذّي لا يقصي ذات المبدع أو يروم تحويلها إلى مجرّد ناسخ. فالطّاهر يدافع عن الواقعيّة في الأدب والفنّ ولكنّه ينبّه إلى أنّنا نخطئ عندما نرجع كلّ عوامل الإبداع إلى الظّروف الموضوعيّة الملائمة وننسى أهميّة العامل الذّاتيّ للفنّان نفسه(...) فطينة الكاتب أو الفنّان هي الحاسمة في آخر المطاف(9).
بدأ الطّاهر "طليعيّا" وانتهى "واقعيّا" وهو مقتنع -بعد تجربة تربو عن الأربعين سنة من معاشرة للشّعر قراءة وكتابة- بأنّ "الأدب الكبير حصيلة رافدين جماليّين: الرّافد الواقعيّ والرّافد التّجريبيّ(10).
ولعلّ هذه القناعة هي التّي ترسّخت لديه في السّنوات الأخيرة. فهو لم يتخلّ مطلقا عن انحيازه للشّعب بكادحيه وفقرائه ومهمّشيه، وقد كان يحلم معهم بثورة يخرجون فيها من جوعهم وفقرهم ويكسرون فيها أغلالهم، كما أنّه لم ينقطع عن التّشهير بالاستبداد النّاعم أو العنيف وبالاستعمار في أشكاله الظّاهرة والمقنّعة. فدواوينه كلُّها تتغنّى بالإنسان والحريّة وتنشد واقعا آخر جديدا يليق بإنسانيّة الكائن.
لقد انفتحت قصائده على الشّارع تلتقط منه تعابيره السّاخرة وتعيد بناءها، وتحاول أن تردّد أصواته في ضروب من التّناغم بين النصّ وقوادحه وسياقاته المباشرة والحافّة، كما تعدّدت أنماط البناء لديه وتنوّعت أشكال الكتابة وكيفيّات التصرّف في الصّفحة الشّعريّة. وهذا كلّه من ضروب إيقاع الذّات إذا ما استعرنا عبارة لهنري ميشونيكHenri Meschonnic .
وقد كانت نصوص الهمّامي ولا تزال مثيرة للجدال، والنّاس فيها على آراء مختلفة. فنقّاد كثيرون يعتبرون نصّه مباشرا وٳن كان يبشّر بالثّورة. وآخرون يرونه نصَّ شعارات أو هو أقرب إلى البيانات الحزبيّة. وبصرف النّظر عمّا في هذه الآراء من تهافت تكشفه القراءة المتأنيّة وتدخضه فرضيّة " أنّ لكلّ نصّ شعريّته ولكلّ شاعر إيقاعه الذّاتيّ" نفيا للتّنميط الذّي يلغي اختلاف الذّوات ووطأة التّاريخ وتحوّلات الواقع والإبداع. بصرف النّظر عن ذلك، فانّ تلك الآراء يمكن أن تتخلّق منها أسئلة أخرى من قبيل: هل نتحدّث عن المثقّف ونصّه مترابطين أم عن النصّ دون اعتبار للكاتب ومواقفه وانتماءاته الحزبيّة ؟ أوَ لا يحتاج الشّاعر الملتزم إلى حدّ أدنى من الوضوح أو على الأقلّ إلى نقد جريء يعضده ويشير إلى غوامضه؟ أليست الكتابة مسؤوليّة؟ ألا تستطيع الكتابة أن تُساهم في مقاومة الإرهاب مثلما ساهمت في مقاومة الاستبداد؟

حدوس الطّاهر وشعريّة اليوميّ

للشّعراء حدوسهم. وهي حدوس الممكنِ والمحتملِ وتخييلِ الواقع والغوصِ على الرّاسب في ذاكرة الكلمات ونظمِ الذّات وسياقاتها في أنماط من الإبداع لا تكون فيها الذّات متلقيّا سلبيّا لما يصدر عن العالم الخارجيّ، من آثار، ولا يكون فيها الواقع ذا بعد واحد...

ولا شكّ في أنّ هذه التّقاطعات تجعل المعيش تجربة فريدة متمايزة ندركها بحدوسنا وبما يتاح لنا من تأمّل مستمرّ لما حولنا ولذواتنا نفسها، وتكون الكتابة في إطارها صيغة وجود منفتحة على المجهول، على المستقبل باستمرار، لا رصدا لانعكاس حالة أو تعبيرا عن انفعال.

وشاعر الحدس لا يأتي من الماضي، وإنّما من المستقبل ومن المفاجئ. وهو لا يكتب السّائد والمتعاود وإنّما يكتب ما يزرع الشكّ ويخلخل اليقين ويربك الطّمأنينة الكاذبة.

والنّاظر في تجربة الطّاهر الهمّامي يمكنه أن يدرك بيسر أنّ قصيدته حيّز تتقاطع فيه كثير من العناصر التّي تمّت الإشارة إليها على أنحاء مختلفة.

يقول في قصيدة مقطع بعنوان إفراج من قصيدة مذكّرات على السّرير الأبيض(1969)

-الفجر في الأبواب

            يدقّ الفجر

                             يدقّ بقوّه

             يتسلّل عبر مشانق الظّلمه

                      يبحث عن كوّه

يعيد الطّرق مرار

                         يرجّ الهوّه

الفجر في الأعتاب

      يتكدّس ضوءا وأزهار

                         يا آخر اللّيل

                         يا آخر اللّيل( ص25-26)

لا نحتاج إلى جهد كبير لندرك أنّ الفجر يمْثُل في القصيدة بدلالات حافّة، منها أنّه لحظة برزخيّة بين اللّيل والنّهار، ومنها أنّه تباشير صباح جديد، وأنّه سير إلى الأمام، نحو النّور طاردا اللّيل بدلالاته التّي باتت معلومة( الظّلام، الظّلم، القهر، الاستبداد، الخوف... )

وتشعّ من هذا المُقتطع صور يتحوّل فيها المجرّد إلى محسوس ويلعب فيها التّكرار والتّسكين والتّوازي التّركيبيّ أدوار الخيوط النّاظمة لما تعدّد مختلفا أو مؤتلفا. وقد ظلّ الهمّامي ينتظر الفجر، والطّريف أنّه لم ييأس ولم يفتر له عزم لأنّه آمن بالحريّة وبأنّ الواقع يتغيّر باستمرار، يغيّره الإنسان بطرائق شتّى. وهذا الإنسان الذّي سيُغيّر هو الذّي يسمّيه الطّاهر صديقا بصرف النّظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو لغته، فالجامع بين الطّاهر وأصدقائه هو الإنسانيّة والحلم بالحريّة.

يقول في قصيدة "أصدقائي" (1969)

-سيبقى أصدقائي
يطرقون سمع هذا العالم
ويملؤون شوارعه الكبيره
                    ***
إن جاز أن أُنْـفَـى
           وينتهي غنائي
سيبقى أصدقائي
يشوّشون هذا العالم
يكسّرون أبوابه الحديديّة
يحطّمون أسواره
ينفُذون إلى الدّاخل
يعملون فيه المعاول 
سيبقَوْن يحملون المشاعل (ص36)

إنّ الحلم بالثّورة يسكن الطّاهر منذ أن بدأ يدرك معنى التّقابل بين الفقر والغنى، بين من يعيش بفائض ماديّ ورمزيّ مضاعف ومن يموت جوعا أو يحيا بلا أمل.

ولئن تبدّلت أسماء هذا التّقابل وخفتت حدّته أو تصاعدت بحسب السّياقات والظّروف، فالثّابت أنّ الطّاهر ظلّ وفيّا لخلفيّاته الثّقافيّة. فهو يكتب حلم النّاس البسطاء وغضبهم بل يكتب طرائق تمثّلهم لذواتهم وللعالم من حولهم، لذلك فإنّ قصيدته تحرص دائما على أن تتخفّف من ثقل الاستعارات البعيدة والبلاغة النّرجسيّة التّي تكون فيها اللّغة لازمة تحيل على ذاتها حتّى كأن لا صلة للخطاب بالواقع.

تتعدّد وشائج الشّعر بالحياة في تفاصيلها المختلفة في قصيدة الطّاهر، إذن، فتتراءى الأشياء شفيفة أو صارخة أو نابضة باليوميّ الذّي يراه موريس بلانشو  Maurice Blanchot عصيّا على الاكتشاف والمحاصرة من فرط تعاوده ولكنّه في المقابل منجم المعاني ومَعينها الذّي لا ينضب(11). فقد أدخل الهماميّ الدّارجة ماحيا الفروق بينها وبين الفصحى في ضرب من التّهجين الذّي يتيح للخطاب أن يتكلّم بصوتين مؤتلفين مختلفين.

يقول في قصيدة Défense d’entrer

-كان يأكل في البيرو

ويشرب في البيرو

ويلعب في البيرو

            على حبال عدّه

وقد يخونه التّدبير

           فيرمي السّاق على البيرو

نظنّ أنّ "Bureau" قريبة، صوتيّا، من البير(البئر) ولعلّ هذا التّصادي يحوّل الصّورة إلى صورة للسّقوط الرّمزيّ. فالقيم متهافتة والواقع ينضح مرارة لأنّ التّناقض بين رمزيّة المكان (البيرو) وسلوك الموظّف يحوّل المشهد كلّه إلى كاريكاتور Caricature ولا إمكان للخروج من الهزليّ إلاّ بتقويض التّناقض الذّي تمّت الإشارة إليه وإعادة التّوازن للأشياء. وهذا ما لا تقدر عليه إلاّ الثّورة التّي تقلب ما استقرّ من المعادلات وتخلخل ما عُدّ منها أبديّا لا يقبل التّغيير أو التّبديل.

يقول الشّاعر في القصيدة نفسها:

-أستمع إلى طلق النّار

       في السّاحات

أستمع إلى قلبي يدق

           أشاهد الطّرقات

إلى العنقْ

في الدّم والعرقْ

(...) وهذا الدم

في الشّرايين

        لا يتمّ الدّوره

إلاّ باندلاع شيء

           اسمه ........ (ص130)

الفراغ أصل في النصّ ولكن يمكن أن نعرف اسم ذاك الشّيء. وهو الثّورة التّي نراها بذرة دلاليّة متشظّية على أنحاء شتّى داخل قصائد الهمّامي. تتجلّى صورها وأسماؤها، في كلّ قصيدة ، على ضروب فيها  من التّماثل بقدر ما فيها من التّفاصل.

يقول الطّاهر في" مرثيّة البقر الضّحوك وتباريح أخر" (2005) تحت عنوان" استشعار":

-كأنّ الغمام سينزل
كأنّ المياه ستهطل
كأنّ الّرياح ...   
                ألا تسمعون ؟
     هي الأرض راحت تبدّل أثوابها
          هو الوقت راح     
              ألا تسرعون ؟ (ص16)
إنّ الإنصات المرهف إلى إيقاع اليوميّ والغوص على المعنى في العارض والطارئ لا يتأتّيان لأيّ كان. فقد تحجب الألفةُ المختلفَ وقد يتلف التّعاودُ المفاجئَ ويجعل المربك مأنوسا. ولكن يظلّ الشّاعر المسكون بالأيديولوجيا خاصّة يسائل البداهات وينبش السّاكن ويزعزع الاطمئنان الكاذب. فـ"كأنّ" هذه التّي تكرّرت تجعل القول في مقام الادّعاء. والادّعاء إنشاء للواقع على نحو مشتقّ من طبيعة الذّات في حالاتها المختلفة أو اللاّنهائيّة، وأغلب حالات الشّاعر هي الألم، شأن كلّ مثقّف يشقى بالآخر ومن أجله، ولكنّه قد لا يجد من هذا الآخر إلاّ الإعراض أو اللاّمبالاة، لذلك ربّما بلغ الغضب بالطّاهر ما كان قد بلغ بالشّابيّ من قبله، فكتب في قصيدة بعنوان "ذات الهمّة"(1993) ما يلي:
وإذا كانت النّفوس صـــــــــــــــــغارا          تعبت في  علاجــها الأفــــهام
شاب قرني وما رأيت طحيـنا           كـــــالذّي منـــــه هـــــذه الأيّــــــــــــــام
عشـــرات من الدّماء تبـــــــــــــــــخـّرْ          نَ وصرحٌ من الأماني حطام (ص46)
تنزلق الدّارجة (طحين) داخل فصحى أبي الطيّب، ولكنّ الضمنيّ غير المصرّح به. فمعجم القيم غير معجم الأشياء، والطّحين المأكول غير الأكل بـــــ"الطّحين". ويمكن أن ندّعيّ أنّ ذلك كلّه يعني أنّ علاقة الهمّامي باللّغة علاقة لعب يتنزّل فيها الهزليّ منزلة الدّال المشعّ على ما حوله من تموّجات دلاليّة يشتقّ فيها الشّاعرُ الهزليَّ من المفارقات القائمة بين الدّال والمدلول والسّياق والمقصد...
يقول في "حمّى أبي الطّيب" (1993)
مـلومكما يـــــجلّ عن المـــــــــــــــلام         وسكــــــــــتــــــــته أدلّ من الكــلام
يتيــه الــــــعقل في منّوبــــــــــــــتـــاه       ويمسي الكهل منفلت الزّمـام
ألم تر يا أخي "بقرا ضــــــحوكـا"       وأوســـــــــــمة على ظهر النـّعام
على اللاّءات قــل يا حســـــــــــــرتاه        وفي الـخاءات تغرق للـــــحزام
ويعطي البعض من دمه وبعض      يعيش على الرّشيمة والرّشام   (ص54)
لا نظن أنّنا في حاجة إلى الوقوف طويلا للانتباه إلى الرّبط المقصود بين العقل ومنّوبتاه وما توحي به    منّوبة وحدها بالنّسبة إلى التّونسيّين على الأقلّ( مستشفى الرّازي للأمراض النّفسيّة) ثمّ ما يتداعى من دلالات من المركّب النّعتيّ "البقر الضّحوك" الاسم الذّي ارتبط بالجبن( مشتقّ من الحليب)، وللجبن ما "للطّحين" من تعدّد دلاليّ، وربّما اكتمل الهزليّ بالبحث في ما تعنيه الخاءات.
ونقف، في نصّ آخر بعنوان "شكّب "على تقاطع لافت بين السّخرية والاحتجاج والرّفض في خطاب يوظّف الدّارجة ويرتقي ببعض مفرداتها إلى مرتبة الدّال السّياسي:
شكّب، شكّب
لا تتعب يا أبتي شكّب
لَصّ
حيّه
عقرب
شكّب  شكّب
فلربّ أتتك الخبزة "باردة" وأفقت الصّبح على جاه
                                       منصب
شكّب
وتشمّم رائحة الإبط، الجورب
شكّب
ولربّ أحبّك ربّك يوما وطلبت الموت
                             فلبّى المطلب (ص53)
لـ"شكّب" في المتداول اليوميّ فائض دلاليّ يجمع بين الحيلة والانتهازيّة والأنانيّة والوصوليّة والتّملّق وغيرها من ساقط القيم. ولا شكّ في أنّ ما صوّره الهمّاميّ يلتقط من المعيش الفظيعَ والمؤلمَ والمربكَ والهزليَّ لأنّه يروم ممارسة الاحتجاج والتّشهير، كما أنّه يلتقط العاصف والعنيف والقويّ والعنيد لأنّه يروم، أحيانا كثيرة، التّبشير بأنّ الزّمن لا يتوقّف وأنّ ليل العسف طويل مؤلم لكنّ الشّاعر يشيم صباحه.
لم يكن الطّاهر الهمّامي شاعر عاديّا . فكثيرون يكتبون ولكنّهم لا يتركون في نصوصهم ما يدلّ عليهم. وليس هذا شأن الطّاهر فقد كان استثنائيا -سواء اتّفقنا أم اختلفنا في درجة الشّعريّة لديه. فالشّعريّة درجات، كبيت الشّعر تماما الذّي هو بناء نظريّ ولكنّ أشكال تحقّقه على الورقة لا حصر لها ولا عدّ-فقصيدته متفاوتة في درجات شعريّتها، وهذا من أمارات التحوّل في تجربة الكتابة والوعي بطبيعتها ومن سمات الكمال لا النّقص أو العجز. فالعجز هو التّعاود والنّقص هو التّماثل. ومعرفة الطّاهر متحوّلة باستمرار تشهد على ذلك كتابته شعرا ونثرا ونقدا أدبيّا وثقافيّا. فحرصه على أن يوثّق صلة كتاباته بالحياة لا يعادله أي حرص،، وهو يسعى إلى ذلك لإيمانه بأنّ الفنّ النّبيل هو الفنّ الذي يتشرّب هموم النّاس وأحداث اليوميّ المليء بالدّلالات الصغرى والكبرى.
 خاتمة
تمرّد الطّاهر على الخوف السّاكن في الذّوات. وكتب ما نفكّر فيه وخرج على رواسم القول المكرورة. فظلّت قصيدته عصيّة على المتعجّل بل مهمّشة أحيانا كثيرة. ولكنّها كانت تومىء باستمرار إلى صاحبها مختلفا مؤتلفا في آن معا. وما تقاطع في تلك القصيدة وما بُنيت به إنّما هو من المأنوس المألوف الذّي يبدو لبعضهم- وهم واهمون- أنّه بلا معنى أو أنّه ممّا لا يصلح في الشّعر أو لا يجوز أن يجمعه خطاب أدبيّ على اعتبار أنّه متعدّد مُلتقَط من حقول ومعاجم وخانات متباعدة متنافرة. ونحن ندّعي أنّ النّاظم لذاك المختلف المتعدّد ثلاثة دواع هي:

-نزوع الخطاب الشّعريّ إلى اليّوميّ نزوعا لافتا يتوسّل بالبسيط والعاديّ والمتوقّع في البناء لإنشاء الصّور وتهجين الخطابات الأخرى وتوظيفها في اشتقاق الدّلالة.

-هيمنة معاجم الرّفض والتّمرّد والاحتجاج لإخراج الإنسان من سجن الصّمت وضيقه إلى رحابة الكلام والكتابة وتأمّل الواقع بصوت عال للتخلّص من استبطان الخوف والهزيمة.

-الإنصات الدّائم للثّورة اسما وصدى وصورا وحلما، والمراوحة بين استبطائها واستعجالها بحسب ما تكون عليه الذّات من حالات مختلفة.

الهوامش

(1)  مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ عالم المعرفة (ترجمة شوقي جلال) ، عدد229 ، 1998، ص20.
(2)الطّاهر الهمّامي، الشّعر على الشّعر(بحث في الشّعريّة العربيّة من منظور شعر الشّعراء على شعرهم إلى القرن5ه/11م) كليّة الآداب منّوبة، تونس، 2003.
(3) نفسه، كلمات بيانيّة في غير العموديّ والحرّ(1969-1971) عبد اللّطيف دمدوم للكتب والنّشر،1996، التّوطئة.
(4) كلمات بيانيّة في غير العموديّ والحرّ(1969-1971) عبد اللّطيف دمدوم للكتب والنّشر،1996، ص7
(5) نفسه، ص12.
(6)الطّاهر الهمّامي، تجربتي الشّعريّة(بيانات وتقييمات،1969-2004) مطبعة فنّ الطّباعة-تونس 2004، ص24.
(7) نفسه، ص 32.
(8) نفسه، ص75.
(9) الطّاهر الهمّامي، مع الواقعيّة في الأدب والفنّ، دار النّشر للمغرب العربيّ، دت، ص109. 
(10)الطّاهر الهمّامي، تجربتي الشّعريّة، ص95. (الحوار كان سنة 2004، وتوفي الطّاهر في إسبانيا يوم 2ماي 2009 )

(11)Maurice Blanchot, L’entretien infini,Gallimard,1969,ps 355-366      




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق